قبل بضعة أيام كتب الدكتور مَحمد الراجي مقالا بجريدة هسبريس تحت عنوان “الجذور الاسلامية لأصول الحداثة اللبرالية”. من بين ما يحتويه نصه، هناك مقولة تاريخية وعلمية حاول الكاتب من خلالها إقناع القراء أن الفلكي إبن الشاطر الدمشقي هو مُلْهم كوبرنيك البولوني، إذ اقتبس هذا الأخير معارفه من مخطوطات عربية دون البوح بذلك. إنطلاقا من هاته الفكرة يمكننا إذن تصور أن الفضل يعود للعرب (وللمسلمين منهم خاصة حسب الدكتور الراجي ... وبالتالي للإسلام) في تأصيل الثورة الفكرية والعلمية التي أخرجت البشرية من كون صَلْد مُنغلق تلفه عدة سماوات طباقا إلى فضاء رحب وفارغ تدور فيه أرضنا حول نفسها كما تحوم حول الشمس في ظرف سنة. وقد يُخيل إلينا بالتالي أن إنهيار العالم الأرسطي الذي تشبثت به الكنيسة ودافعت عنه بضراوة، ضدا على كاليليو وأمثاله، لم يكن ليتحقق لولا سبق علماء الإسلام. لكن الحقيقة التاريخية وواقع الحال يأكدان لنا عكس هذا. فكل من اهتم بتاريخ العلوم يعرف أنه مباشرة بعد وفاة أرسطو أعاد علماء إغريقيون النظر في مقولاته الفيزيائية وبينوا أخطاءه ثم اقترحوا نظريات علمية بديلة ورصينة أصبحنا نُلَقِّنها اليوم لأبناءنا في الثانويات وبالمدارس العليا بينما نسي العالم بأسره فيزياء أرسطو وشروحات إبن رشد له. لقد تبنت الكنيسة، مثلما سبقها الموحدون إلى ذلك، نظريات أرسطو لمدة لا تقل عن أربعة قرون بعد وفاة ابن رشد. وكذلك هو شأن النظريات الفلكية التي اعتمدها إبن الشاطر وعلماء آخرون عاشوا بدمشق أو بمراغة. لم يَعُد أحد يهتم بنماذجهم ولا يفهما حقا سوى قلة قليلة ممن يدرسون تفاصيل علم الفلك القروسطي الذي انتهى به العمل بعدما قرر الأوروبيون دفنه والترحم عليه ثم العودة لنظريات جريئة كان قدماء الإغريق قد اقترحوها إنطلاقا من معارف هندسية في غاية من البساطة ومن أرصاد لأحوال السماء بالعين المجردة، أرصاد كانوا قد تلقوا نتائجها من الكلدانيين ثم أضافوا إليها أرصادا جديدة سيتابعها وسيدققها علماء البلدان الإسلامية. وسأفصل فيما يلي أسباب الفشل الذي مُنيت به الكنيسة وكل من قامر مثلها على “عقلانية” أرسطو أو على مثالية أفلاطون عوض الإهتمام بدراسة وتدريس علوم معارضيهما. 1 - فيزياء أرسطو وفيزياء معارضه أرخميدس كل من درس مبادئ الفيزياء يعلم أن البواخر تظل طافية فوق الماء طالما لم يتجاوز وزنُ ما تحمله وزنَ الماءِ الذي بإمكاننا أن نملأها به. هذا هو ما يسمى La poussée d'Archimède ، قانون فزيائي نص عليه أرخميدس ويمكن تلخيصه كما يلي : الماء يدفع الباخرة نحو الأعلى وما تحتويه يدفعها نحو الأسفل. مثل هاته التجارب والتعبير عنها من خلال قوانين هندسية هو ما أدى بأرخميدس إلى فهم أن لكل معدن خالص وزن خاص به وتوصل إلى حل معضلة كان ملك سيراكوز قد طرحها عليه : “هل بإمكانك أن تعرف هل هذا التاج من الذهب الخالص الذي يزن رطلا كنت قد قدمته للصائغ دون أن تقوم بتذويب التاج ؟”. لقد اكتفى أرخميدس بغطس كتلة من ذهب خام وخالص يزن رطلا في إناء مليء بالماء ثم غطس التاج الذي كان يزن كذلك رطلا في إناء ثان مليء بالماء ثم قارن كميتا ما فاض من الإنائين. أما نظرية أرسطو فلا تنطلق من تدافع كل العناصر المادية فيما بينها. يعتبر أرسطو أن العالم مكون من خمسة عناصر : التراب، الماء، الهواء، النار ثم الأثير. ولكل واحد من هاته العناصر طبيعة خاصة به. فكما “يتوق الحصان للعودة إلى إسطبله بعد العناء”، كما يقول أرسطو، فإن التراب والماء يتوقان لوسط الأرض. أما الهواء والنار فتواقان للصعود إلى السماء. والدوران الأزلي من طبيعة الأثير الذي تتكون منه أفلاك الكواكب. لا يمكن لهاته النظرية الأرسطية أن تفسر هبوط الهواء إلى قعر الآبار العميقة كلما أزحنا منها التراب أو الماء. كان أرسطو قد توفى منذ خمسة وثلاثين سنة لما ازداد أرخميدس. لكن نظرياته العلمية والفلسفية كانت قد اكتسحت شرق العالم المتوسطي بفضل توسع إمبراطورية الإسكندر الأكبر الذي تتلمذ على يد أرسطو. لم يهتم أرخميدس أبدا بما فوق الطبيعة (métaphysique) كما هو شأن أرسطو بل اكتفى بالتجارب المادية اليومية والعملية. وفي هذا الميدان تبين لأرخميدس أن نظريات أرسطو (المعلم الأول كما يسميه إبن رشد) ليست ذات فائدة بل غالطة ومغالطة. لذا نراه يتصدى لضحدها ويقرر إنشاء فيزياء وميكانكا عقلانية مبنية على المعارف الهندسية وعلى التجارب. وهكذا نراه يستدعي ملك سيراكوز وحاشيته ليبرهن لهم أن شخصا واحدا قادر على جذب باخرة ثقيلة جدا نحو المرسى باستعمال حبال ملوية على بكرات(1). أما أرسطو فكان يعتبر أن لكل قوة مفعول لا يمكنها أن تتعداه رغم أن التجربة اليومية تعلمنا أنه بإمكاننا زحزحة حجر أثقل من وزننا بكثير بواسطة قضيب طويل من الحديد مثلا. وهذا القانون الفزيائي البديهي هو ما عبر عنه أرخميدس بشكل رياضي وهو ما يدرسه أبناءنا بكل الثانويات (العزم = القوة × طول ذراعها = المقاومة × طول ذراعها). هاته النظرية العملية هي التي دفعت بأرخميدس للتعبير عن قولته المشهورة أمام ملك سيراكوز : “أعطوني نقطة إرتكاز أرفع لكم العالم !”. وهناك مقولات فيزياءية أخرى لأرسطو تصدى لتفحصها ولتبيان أخطاءها علماء إغريقيون آخرون لن نتطرق لها هنا. يكفينا أن نسجل جرأة أرخميدس الفكرية الذي يرى نفسه قادرا على رفع الكرة الأرضية. وسنقف فيما يلي على نماذج أخرى من هاته الجرأة الفكرية عند قدماء الإغريق. 2 – نظرية أرسطو وأفلاطون في السماوات ونظريات معارضيهما من الإغريق يعتبر أرسطو أن الكون صلد يشبه البصلة. فقشراتها المكورة والشفافة هي ما يسميه القدماء أفلاكا. وهو يتصور أن الأجرام السماوية مركوزة بلحمة تلك الأفلاك. أما أرضنا فإن أرسطو يعتبرها، كسابقيه، كرة راسية وسط الكون وبالتالي لا تنجذب لا لجهة ولا لأخرى. ويعتبر أن كل الأجرام السماوية تدور حول أرضنا (2). ولقد أقر أرسطو بمقولة أستاذه أفلاطون التي مفادها أن الأفلاك السماوية تدور بوتيرة لا تتغير لأن لا شيء يدفع ساكنتها الإلهية - حسب أرسطو - إلى الهرولة تارة ثم السير على مهل تارة أخرى. وكان أفلاطون قد طلب من مهندسي أكاديميته أن يتبنوا حلولا هندسية أساسها الكرات لأنها مستديرة من كل الجوانب ولأن الدائرة هي الشكل المثالي الوحيد الذي يليق بهيئة السماوات العلى. من هذا التصور لحركة الأجرام السماوية تنطلق ما يسمى “المثالية الأفلاطونية”. مثالية قيدت أجيالا متعاقبة من علماء الإغريق والعرب والفرس والأوروبيين وغيرهم. ولنقف على ما خطه كوبرنيك في مقدمة كتابه الثوري : يعترف لإكفنتوس (Ecphantos ) ولهيرقليدس (Héraclide du Pont) بسبقهما إلى القول بدوران الأرض حول نفسها. دورة ينتج عنها الليل والنهار ليخيل لنا أن الشمس هي التي تحوم حولنا في النهار وأن كل النجوم والكواكب هي التي تدور حولنا ليلا. بالإضافة إلى هاته النظرية قدم هيرقليدس (الذي كان معاصرا وزميلا لكل من أفلاطون وأرسطو) فكرة أخرى مخالفة لمقولات المعلمين : فبعدما تيقن، ككل مراقب لأحوال السماء، أن مسارا الزهرة وعطارد يحومان ولا يبتعدان كثيرا عن الشمس، اقترح نظرية مفادها أن هذان الكوكبان يدوران حول هذا الشمس. ورغم جرأته على مخالفة زميله أفلاطون، رئيس الأكاديمية القائل بسكون الأرض، فإن هذا الأخير تركه على رأس هذه المؤسسة العلمية عندما سافر إلى صقلية. كل هذا يشير إلى الإحترام والتقدير السائد بين الأستاذين مع اختلافاتهما النظرية. وربما أثرت تلك النظرية على أفلاطون. ففي محاورة طاميسيوس [لسقراط] يقول أفلاطون : إن الزهرة وعطارد يدأبان مع الشمس على نفس الوتيرة (المعدلة). وتسكنهما قوات مضادة تجذبهما إلى النير الأعظم أحيانا وتبعدهما عنه أحيانا أخرى. فهما يسبقانه مرة ثم ينتظرانه ليسبقهما ثم يتبعانه بعد ذلك (3). ونعلم اليوم أن عديدا من قدامى الإغريق والرومان أخذوا بنظرية هيرقليدس التي لم يتبناها أهل القرون الوسطى، سواء كانوا مسلمين، يهودا، نصارى أو غير مومنين. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أعمال هندسي فذ : أرسطرخس الساموسي. إزداد أرسطرخس سنة 310 ق. م. في نفس السنة التي توفي فيها هيرقليدس (أي 12 سنة قبل وفاة أرسطو). ومما وصلنا من أعمال هذا الفلكي، مقالة ترجمت إلى العربية والتي موضوعها تقدير حجمي الشمس والقمر وبعديهما عن الأرض. لتقدير قطر القمر بالنسبة لقطر الأرض، قام أرسطرخس بقياس المدة التي يجتاز فيها القمر ظل الأرض أثناء الخسوف فوجد أنه يعادل الثلث تقريبا. ولتقدير بعد القمر عن الأرض قام بقياس القطر الظاهري لهذا الجرم فوجد أنه يعادل درجتن (كانت آلياته غير دقيقة). ولرؤية كرة ما على زاوية مفتوحة بقدر درجتين يلزم إبعادها عن أبصارنا بمسافة تعادل 30 مرة قياس قطرها (تقريبا). وبهذا يكون القمر، حسب تقدير أرسطرخس، بعيدا عن الأرض بقدرعشرة أمثال قطر جرمنا المعروف إذاك بشكل مشرف. أما الطريقة التي استعملها أرسطرخس لتقدير بعد الشمس وحجمهما فإنها تعتمد على قياس الزاوية التي رأى عليها هذا النير عند التربيع، أي عندما يكون نصف القمر مضاء ونصفه الآخر مظلما. فبآلياته التي لا يمكن مقارنتها بآلياتنا الحديثة، وجد أن تلك الزاوية تعادل 87 درجة. وإذا ما رسمنا مثلثا قائم الزاوية وتبلغ زاويتاه الأخرتين قدر 87 و 3 درجات فإنه بإمكاننا أن نحصل على كل الأطوال بمجرد معرفتنا لطول الظلع الذي يفصل بيننا وبين القمر، وهذا ما كان أرسطرخس قد قام بتقديره أول الأمر. فالرسم، على الرمل مثلا، كافي في هذا المقام ويغني عن أي معرفة رياضية بحساب المثلثات. لا يحتاج أرسطرخس لأكثر من قياس الأضلاع بمسطرة ليحصل على نسب المقاييس الكونية. وعلما أن قطر الشمس الظاهري يعادل، حسب قياساته، قياس "قرص" القمر تقريبا (درجتين) لزم عن ذلك أن يكون قطر الشمس أعظم من قطر القمربما يعادل 18 إلى 20 مرة. وأخيرا يتأكد أرسطرخس من خلال عملية حسابية أن حجم الشمس يفوق حجم أرضنا ب 212 إلى 343 مرة. وإن كان قد تبين لنا اليوم أن الشمس أعظم من ذلك بكثير جدا، فإنه لا يسعنا إلا أن نعبر عن إعجابنا بهاته الطريقة الهندسية الرائدة. والأهم من هذا كله هو أن أرسطرخس يستنتج من حسابه أنه لا يليق بالشمس أن تدور حول الأرض : من غير المعقول أن تطوف الأجرام العظيمة الحجم حول جرم ضئيل كأرضنا. فالعكس عنده أقرب إلى المعقول : أول تفسير فيزيائي لسبب الدوران. وهكذا يقدم أرسطرخس المهندس نموذجا قوامه أن الأرض والأجرام المتحيرة تدور حول الشمس. ويقدم أرسطرخس في نفس الآن تفسيرا صحيحا لظاهرة الفصول إذ يعتبر أن قطب الأرض مائل بالنسبة لمستوى مدارها حول الشمس. أما الإعتراض القائل بأننا لا نلاحظ اقتراب الأرض من جزء بالسماء ثم الإبتعاد عنه، فإنه يفسره بالمسافة الهائلة التي تفصلنا عن النجوم الثابتة. بهذا يكون أرسطرخس قد اكتشف بفضل الهندسة والحساب سر المجموعة الشمسية. وتقدم منظومته حلا لعدة مشاكل كانت مستعصية على الفهم. لم يأخذ التابعون بهذا النموذج أو بنموذج هيرقليدس بل اختاروا عوضا عنهما، نماذج عسيرة ومعقدة مليئة بالزخرفة الفلكية ودوائرها. ولقد أضافوا إليها عبر القرون دوائر إضافية ليحاولوا التوفيق بين نظرياتهم وبين الظواهر السماوية المحيرة والمتحيرة، دون التقدم بها إلى تصورات ترضيهم كل الرضى. وسيشكك في تلك النماذج وفي نتائجها كل من سوسيجين وابن الهيثم وابن رشد وغيرهم، شكوكا وقف عليها كل علماء العرب والمسلمين دون أن يتجرؤوا على التخلص من قبضتها. لم يتخلصوا ولم نتخلص من قبضة الشيخين أفلاطون وأرسطو إلا عندما فتح كبرنيك أبواب الفكر المخالف (وليس أبواب الإجتهاد كسابقيه) ثم تجرأ كاليليو على تنحية "الفيزياء" الأرسطية وإحياء فيزياء تجريبية ورياضية كان قد دشنها أرخميدس في القرن الثالث قبل الميلاد ثم جاء أخيرا كبلر ليتخلص من دوائر أفلاطون المثالية. وليستشف القارئ سر السحر الذي انبهر له كل من اليهود والمسيحيين والمسلمين طوال عدة قرون خلت، لا بد من التذكير بقصة الخلق حسب أفلاطون "الحكيم" : "وصور الخالق الكون في أحسن صورة طبيعية، منحه هيئة طيبة كروية، كل أطرافها متزنة، متماثلة من كل الجوانب، لأنه قدر أن المتماثل خير من المنحرف. وألقى على الكل سقفا مكتملا أملسا لا يشوبه عيب ولا خلل... وخصه بالحركة التي تليق بتلك الهيئة، بحركة هي أفضل الحركات السبع وأقربها إلى المثال : أداره على نفسه دون أن يُبْرحه مكانه، وأعفاه من الحركات الست الدنيئة" (4). أي إلى الوراء، إلى الأمام، إلى أعلى، إلى أسفل، إلى اليسار وإلى اليمين. هذه الرؤى لمتحدث باسم الخالق هي التي ستصبح حقيقة مكبلة لعلماء الفلك، بيزنطيين كانوا أم عربا، مسلمين أم مسيحيين أم يهودا، شرقيين أم من أوروبا. إن سحرها سيخدر أجيالا وأمما من سمرقند بأقاصي آسيا إلى باريس وانكلترا مرورا ببغداد وقرطبة. لم تتخلص البشرية إذن من قيود أفلاطون وأرسطو إلا عندما تجرأ القسيس الكاثوليكي كوبرنيك على تقديم نظريته الثورة للبابا ثم تبعه على نفس النهج الرياضي الألماني يوهان كبلر الذي قدم جهدا حسابيا مريرا توصل من خلاله للحل الصحيح الذي لم يكن كوبرنيك قد توصل إليه : مدار الكواكب إهليلجي الشكل وليس على شكل دائرة. وحركتها لاتكون حول وسط الإهليلج (القطع الناقص) وإنما حول إحدى بؤرتيه. وقوانين كبلر الفيزياءية هي التي يستعملها العالم بأسره اليوم للتحكم في مركبات الفضاء وبأقمارنا الإصطناعية وهي ما نلقنه لأبناءنا عوض النماذج التي طورها إبن الشاطر والتي استخدمها كوبرنيكوس في حساباته الخاطئة (5). لقد تُرجم أهم كتاب لأرسطرخس إلى العربية وفهم قراء هاته اللغة (كما شهد بذلك ما صرح به إبن رشد) أن الشمس أكثر حجما من أرضنا ولكنهم لم يتحلوا بالجرأة الفكرية التي تمتع بها أرسطرخس ثم كبرنيكوس من بعده. ولقد يتساءل القارئ عن السبب الذي أدى بعلماء الفلك من اليهود والمسيحيين والمسلمين للتشبث بنظريات أرسطو رغم أن عالما فذا من أمثال إبن الهيثم كان قد بين عدم قدرتها على تمثيل ما نراه من ظواهر فلكية. لقد راودني هذا السؤال ولم أجد له جوابا أفضل مما قدمه لنا إبن ميمون القرطبي اليهودي بعربية فصيحة. حظي إبن ميمون بنفس التكوين الذي حظي به إبن رشد، لكنه أُرغم، تحت حكم الموحدين بالأندلس، على التنكر لعقيدته ثم النزوح إلى مصر ليتمتع من جديد بحرية العقيدة وحرية انتقاد أرسطو، تلكم الحرية التي لم تكن من حظ إبن رشد. يعبر لنا إبن ميمون في كتابه “دلالة الحائرين” على الحيرة التي كانت تنتاب علماء زمانه : يعلمون حق العلم أن تصورات أرسطو لقشرات الكون لا يمكنها أن تتفق مع ظواهر السماء ولا مع ما هو متداول من نماذج هندسية عند علماء الفلك. وفي نفس الوقت يعترف بن ميمون بأنه لا يسع الفلاسفة سوى أن يقروا بأن فيزياء أرسطو هي الوحيدة التي تؤدي، بشكل منطقي، إلى تصور “محرك أول” للكون. محرك غير مادي وبالتالي لا تدركه الأبصار. كان اليهود والنصارى والمسلمون إذن في أمس الحاجة لإمام المناطقة لأنه يبرهن على وجود ذلك المحرك الأول. ختاما لهذا المقال أود التذكير بأن المنطق والرياضيات ما هما سوى آليات ذهنية لا تدلنا أبدا على محتوى النظريات الفيزيائية أو البيولوجية الصحيحة. ولا أحد يمكنه التشكيك في أن علم المنطق يشكل علما من أهم ما ورثناه عن أرسطو. ولكننا نعلم أن معرفتنا للمنطق وللرياضيات لا تجنبنا ارتكاب أخطاء فادحة كما ارتكبها أرسطو وأتباعه وكل من قام في يوم من الأيام ببرمجة الحواسيب. وفي هذا الصدد يمتعني أن أذكر بالقيامة التي قامت في بداية سنة 2009 لما تجرأ الكتاب الفرنسي Sylvain Gouguenheim على التذكير بأن أوروبا الغربية لم تتلق ميراث أرسطو ليس عن طريق الأندلس والترجمات العربية فحسب وإنما كذلك مباشرة عبر طريق أخرى. كان موقفي من تلك الزوبعة محايدا لسبب بسيط كل البساطة. فلما انتهت المعركة التي تقارع خلالها مدافعون عن فكرة وصول العقلانية الأرسطية للغرب عبر الأندلس ضدا على من يقولون بأن العقلانية لم تمر عبر الناطقين بالعربية فحسب، بعد انتهاء الزوبعة كاتبت السيد Gouguenheim وأخبرته بما يلي : “لو كان أرسطو حقا ذا فائدة لأستفاد منه البيزنطيون الذين كانوا يقرأون نصوصه مباشرة بالإغريقية، دون وسيط، قبل أن يستفيد منه العرب ثم الأوروبيون الغربيون”. فرغم انهيار العالم الأرسطي نرى أن ملاكمات ومصارعات ما زالت تنظم بين الفينة والأخرى بين من يحنون لتصوراته ولربما للبرهنة على وجود محركه الأول. ويمكنني اليوم أن أتساءل وأسأل الدكتور مَحمد الراجي : إن كان العرب والمسلمون قد أسسوا لعقلانية ولحداثة أوروبا فلماذا يا ترى لا نرى من حداثة العرب والمسلمين اليوم سوى حديثا في حديث وتشبثا بمحدثين لم يُحدثوا للإنسانية أي علم رصين ؟ ألم يحن وقت الدفن لأمواتنا ؟ [email protected] هوامش: (1) للتفاصيل يمكن مراجعة كتاب Archimède : Des spirales, De l'équilibre des figures planes, L'Arénaire, La quadrature de la parabole. Texte établi et traduit par Charles Mugler, Les Belles Lettres, Paris 1971 (2) أهم آراء أرسطو الفلكية متواجدة بكتابه ''في السماء'' Aristote, Du Ciel, texte établi et traduit par Paul Moraux, Les belles lettres, Paris 1965 (3) انظر : Platon, Œuvres complètes, Tome X, Timée-Critias Texte établi et traduit par Albert Rivaud, Paris, Les belles lettres 1963, page 152 (4) محاورة طامسيوس. Timée-Critias 33 B34 B (5) للتفاصيل يمكن مراجعة الصفحة المخصصة ل”قوانين كبلر” بويكيبيديا