رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    زاكورة تحتضن الدورة الثامنة لملتقى درعة للمسرح    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك        بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرؤية ممتنعة .. فأي هلال رأوا؟.
نشر في هسبريس يوم 18 - 07 - 2015

تحدث العلماء قديما وحديثا عن إثبات بدايات الشهور القمرية، واختلفت أقوالهم حديثا حول اعتماد الحساب الفلكي بدل الرؤية المنصوصة في الأحاديث الصحاح، غير أن جمهور العلماء على أن الحساب لا يعتمد عليه في إثبات مداخل الشهور العربية، غير أن عددا من الباحثين الفلكيين والعلماء الشرعيين دعوا إلى ضرورة الاستعانة بنتائج الحسابات الفلكية لتمحيص شهادة الشهود ورد ما خالف مسلمات العلم وقطعيات الحساب، وهو مسلك قويم ينطلق مما ثبت في القرآن والحديث، ويسترشد بما وصل إليه العلم الحديث.
انطلاقا من ذلك فإن الحسابات الفلكية حددت ولادة هلال شوال (لحظة الاقتران) في الساعة الواحدة وأربع وعشرين دقيقة -بالتوقيت العالمي الموحد- من صباح يوم الخميس مما يعني أن رؤية الهلال ممتنعة عند غروب الشمس في جميع الدول العربية والإسلامية.
في ظل هذا الواقع كان الصواب أن يعلن كل من يشترط ثبوت رؤية الهلال حقيقة إكمال الشهر ثلاثين. ولا ضير أن يعلن من يعتمد معيارا آخر غير الرؤية أن يوم الجمعة هو غرة شهر شوال، كتركيا مثلا، باعتبارها تعتمد معيار وقوع الاقتران قبل غروب الشمس. أما أن تدعي دولة اشتراط رؤية الهلال ثم تعلن ثبوتها ليلة الجمعة فهذا غير مستقيم.
لكن –ومع كامل الأسف- تتابعت إعلانات الدول عن ثبوت رؤية هلال تأبى وقوعها سنن الله الكونية، فأي هلال رأوا؟ا وعن أي قمر يتحدثون؟ا
ومن الأدلة الواضحة على عدم ثبوت رؤية الهلال في المشرق عدم ثبوتها في المغرب،لأنه -كما هو معلوم- كلما تأخر الغروب زاد احتمال رؤية الهلال بعده، لكونه يزداد بذلك بُعدا عن نور الشمس، واستمدادا له منها، ولأن المغرب يتأخر غروب الشمس فيه عن المشرق، فإن القاعدة أن "كل مغرب أولى وأحق بالرؤية من مشرقه"، فإذا رئي الهلال في مكان سهلت رؤيته في الأماكن الواقعة غربه، وهذا مسلَّم بالعلم والعقل، وعليه نص جمع من العلماء.
قال الإمام القرافي رحمه الله: "فقد يطلع الهلال في بلد دون غيره بسبب البعد عن المشرق والقرب منه، فإن البلد الأقرب إلى المشرق هو بصدد أن لا يرى فيه الهلال، ويرى في البلد الغربي؛ بسبب مزيد السير الموجب لتخلص الهلال من شعاع الشمس، فقد لا يتخلص في البلد الشرقي، فإذا كثر سيره ووصل إلى الآفاق الغربية تخلص فيه، فيرى الهلال في المغرب دون المشرق. وهذا مبسوط في كتب هذا العلم"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الرؤية تختلف باختلاف التشريق والتغريب، فإنه متى رئي في المشرق وجب أن يرى في المغرب، ولا ينعكس؛ لأنه يتأخر غروب الشمس بالمغرب عن وقت غروبها بالمشرق، فإذا كان رئي؛ ازداد بالمغرب نورا وبعدا عن الشمس وشعاعها وقت غروبها، فيكون أحق بالرؤية، وليس كذلك إذا رئي بالمغرب، لأنه قد يكون سبب الرؤية تأخر غروب الشمس عندهم فازداد بعدا وضوءا، ولما غربت بالمشرق كان قريبا منها"2.
وقال العلامة مرتضى الزبيدي رحمه الله: "وقد تختلف المطالع، وتكون الرؤية في أحد البلدان مستلزمة للرؤية في الآخر من غير عكس؛ وذلك أن الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخوله في البلاد الغربية، فمتى اتحد المطلع لزم من رؤيته في أحدهما رؤيته في الآخر، ومتى اختلف لزم من رؤيته في الشرقي رؤيته في الغربي، ولا ينعكس"3.
ويقول الدكتور الفيزيائي فؤاد الدباغ: "إن الهلال إذا رئي في بقعة ما، فإنه يجب أن يرى في البقاع الواقعة غرب تلك البقعة بوضوح أكبر، وقد يرى في موقع ما دون أن يرى في البلاد الموجودة شرقه، وذلك لأنه معلوم –كما ذكرنا سابقا- أن نور الهلال يزداد كلما بعد القمر عن الشمس"4.
هذا هو المقرر علما وعقلا وحسا، غير أن الواقع الذي نعيشه له رأي آخر، إذ نجد المشارقة دائما هم السباقين إلى الإعلان عن دخول الشهور القمرية، وهنا يطرح السؤال:
ما سبب سبق المشارقة بالإعلان عن دخول الشهر؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من الالتقات إلى من يتساءل؛ لماذا يتأخر المغاربة عن ركب الدول دائما؟ وهما سؤالان متقابلان كما ترى؛ فهل المغاربة يتأخرون؟ أم أن المشارقة هم من يتقدم؟ والقاعدة أن ما جاء على أصله فلا سؤال عليه، فأيهما الموافق للأصل؟
لو فرضنا أن المغرب هو المخالف بتأخره، فإن ذلك يعني أن الهلال يكون موجودا في الأفق ممكنَ الرؤية، وحينئذ لا يخلو الأمر من احتمالين: إما أن يراه المسئولون فيكتمون خبره، أو لا يروه؛ والثاني ممتنع، لكون ذلك يتكرر في أغلب السنوات، ومواقع الرصد في المملكة المغربية كثيرة جدا، وموزعة على الأقاليم جميعها، فإن غَبِي سنة انجلى أخرى، وإن خفي على فئة ظهر لمجموعات سواها.
أما احتمال كون المسئولين يكتمونه من بعد ما رأوه فبعيد جدا غير مستساغ، وذلك لما يأتي:
يقتضي ذلك أن يسعوا للحيلولة بين الناس وبين رؤيته، وهم منتشرون في المدن والقرى، لا يستطاع منعهم من النظر إلى السماء والتنقيب عنه، وبخاصة من قبل المشككين في إعلانات الدولة، المترقبين لفلتة تقوم دليلا على دعواهم عدمَ ضبط رؤية الهلال في المغرب، مما يجزم معه بعدم إمكان سلوك هذا السبيل.
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تفتح الباب أمام المواطنين للإدلاء بشهادات من رأى الهلال، فلا يمكن والحالة هذه أن لا يراه أحد من الناس ويراه المسئولون. ولو حدث أن الناس رأوه ولم تعلن الجهات الرسمية رؤيته، لاستنكروا ذلك ولما سكتوا، وحيث إن ذلك لم يقع، علم أنه لم يثبت قط تجاهله مع وجوده.
ما الفائدة من تعمد التأخر عن الدول الإسلامية؟ أوَفي ذلك فضيلة تغري بالسعي إليها؟! أم أن المرغوب فيه عادة عكس ذلك؟!
لهذه الأسباب وغيرها يتضح أن المغاربة على أصلهم في إثبات بدايات الشهور بأول ظهور للهلال، فيراه الناس ويعلن عنه المسئولون.
أما لو فرضنا أن إخواننا المشارقة هم من يخالف الأصل، فيتقدم بالإعلان عن دخول الشهر قبل وقته، فإننا نجد ذلك مؤيَّدا بكونهم يعلنون في كثير من الأحيان عن رؤية هلال لا يمكن أن يرى؛ إما لكونه غرب قبل غروب الشمس، أو لأنه لم يمر على ولادته إلا دقائق أو بضع ساعات، لا تكفي لمفارقته الشمس وتخلصه من شعاعها بوجه يُمَكن العين من مشاهدته كما في شهرنا هذا.
ولبيان هذا وتوضيحه، يحسن بنا أن نورد بعض النماذج لشهور أعلن عن رؤية هلالها في وقت تستحيل رؤيته لعدم وجوده في الأفق أصلا، ولعلنا نكتفي بمثال واحد، خشية الخروج عن القصد من هذه السطور، وليكن هذا النموذج هو شهر ذي الحجة سنة 1425 ه.
يقول الدكتور حمزة بن قبلان عن هذا الشهر: "أصدر المجلس في هذه المرة بيانا في بداية الأمر، بين فيه أن الذين تعود على قبول شهادتهم لم يشهدوا برؤية الهلال ليلة الثلاثاء، وكان العذر أنه غم عليهم، لذلك قرر أن بداية الشهر يوم الأربعاء، إلا أن شاهدين تقدما بأنهما رأياه في تلك الليلة، وهذا ما جعل المجلس يصدر قرارا لاحقا بأن الثلاثاء هو أول شهر ذي الحجة.
وقد جاء القرار مفاجئا للجميع، ذلك أن مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية أصدرت بيانا بأن الهلال غاب عن أرجاء المملكة كافة قبل غروب الشمس يوم الاثنين، ويعني هذا أن رؤية الهلال مستحيلة بعد غروب شمس ذلك اليوم؛ لسبب بسيط، هو عدم وجوده في الأفق"5.
بعد هذا الحدث -الذي يتكرر وقوعه6- قال الشيخ صالح اللحيدان رئيس المجلس الأعلى للقضاء في لقاء تلفزيوني موضحا –من وجهة نظر المجلس- ما وقع: "ونحن في بياننا الأخير وبياننا الأول متقيدون بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي أمرنا الله جل وعلا باتباعه في قوله جل من قائل: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، فهو صلى الله عليه وسلم أمرنا عند اختفاء القمر وتغبيته، وظهور حاجب وحصول حاجب يحجب الرؤية، أن نُعمل العدد المكمل للشهر؛ أن نتم العدة 30 يوماً، وقد فعلنا ذلك. فلما جاء ما يكشف الحقيقة ويجلي الأمر، ويثبت أن الهلال دخل ليلة الثلاثاء، عملنا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لما تبين لنا"7.
فأنت ترى –أيها القارئ الكريم- أن الدولة بأسرها لم تر الهلال ليلة الثلاثاء في حينه، وذلك لعدم وجوده في الأفق، فكيف يرى ما ليس موجودا أصلا؟! ومع هذا، وفي اليوم الثالث، يتقدم الشهود للإدلاء بشهادتهم على أنهم رأوه بأعينهم ليلة الثلاثاء.
والنتيجة أن شهادتهم الباطلة تقبل، ويغير اليوم المعلن عنه سلفا أنه يوم عرفة، ويصير يوم عرفة يوم عيد. كل ذلك بقول رجلين طاعنين في السن خالفا المقطوع به. ثم يظن أن ذلك هو شرع الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!
بناء على ما سبق فإننا نجزم بأن المملكة العربية السعودية –ويتبعها جمع من الدول- هي المسئولة عن تقدم بدايات الشهور بيوم في الغالب، إذ هي المخالفة للأصل الذي يحكم به العلم والعقل والشرع؛ من أن كل غرب أحق بالرؤية من شرقه.
والسبب في هذه المخالفة -كما يتضح بتتبع الإعلانات عن دخول الشهور لسنوات عديدة- أن المجلس الأعلى للقضاء لا يستسيغ رد شهادة الشهود لمخالفتهم مسلمات علم الفلك القطعية، بدعوى أن الحساب الفلكي لا يقوم دليلا شرعيا ترد به شهادة الشهود. والحق أن الشهادة إذا عورضت بما ينقضها ردت على صاحبها.
يقول العلامة تقي الدين السبكي رحمه الله: "ولم يأت لنا نص من الشرع أن كل شاهدين تقبل شهادتهما سواء كان المشهود به صحيحا أو باطلا..." إلى أن قال رحمه الله: "بل وجب علينا التبين في قبول الخبر، حتى نعلم حقيقته أوَّلا، ولا شك أن بعض من يشهد بالهلال قد لا يراه ويشتبه عليه، أو يرى ما يظنه هلالا وليس بهلال، أو تريه عينه ما لم ير، أو يؤدي الشهادة بعد أيام ويحصل الغلط في الليلة التي رأى فيها، أو يكون جهله عظيما يحمله على أن يعتقد في حمله الناس على الصيام أجرا، أو يكون ممن يقصد إثبات عدالته، فيتخذ ذلك وسيلة إلى أن يزكى ويصير مقبولا عند الحكام. وكل هذه الأنواع رأيناها وسمعناها.
فيجب على الحاكم إذا جرب مثل ذلك، وعرف من نفسه أو بخبر من يثق به أن دلالة الحساب على عدم إمكان الرؤية أن لا يقبل هذه الشهادة، ولا يثبت بها ولا يحكم بها، ويستصحب الأصل في بقاء الشهر، فإنه دليل شرعي محقق، حتى يتحقق خلافه"8.
ولما لم يُسلك هذا المسلك، ظهر من يواظب على الإدلاء بالشهادة على رؤيته الهلال كل سنة، فتقبل شهادتهم ويطاعون. وفي هذا السياق يحكي لنا الشيخ عبد المحسن العبيكان غرائب ونوادر مما يقع في الشهادة بالرؤية؛ فمن ذلك حكايته عن رجل من أهل نجد "كان يشهد دائماً برؤية الهلال، فلما عين أحد المشايخ الفضلاء رئيساً لمحاكم تلك المنطقة، لاحظ على الشاهد ضعف البصر وكبر السن، فشك في أمره، فأراد أن يختبره، فطلب من الشاهد في أحد الشهور أن يريه الهلال الليلة الثانية من الشهر، فلم يستطع رؤيته؛ على الرغم من كبر الهلال ورؤية الجميع له، فهدده رئيس المحكمة إن هو شهد بعد ذلك بالعقاب".
وكان فيما حكى أيضا؛ تفاصيل ما وقع في شهر ذي الحجة السالف ذكره، حيث قال: "قامت لجنة من الفلكيين من مدينة الملك عبد العزيز بالذهاب إلى حوطة سدير، للوقوف مع الشاهد المعروف في تلك المنطقة، لأجل أن يتراءى الهلال أمامهم، وذلك في عدة أشهر، من ضمنها آخر شهر شوال وآخر شهر ذي القعدة، فلم يتمكن من رؤية الهلال، مع إمكانية رؤيته بالمرصد، ولذلك لم يؤد الشهادة كالعادة. فكيف لا يرى الهلال مع إمكان رؤيته بالمرصد لوجود اللجنة، بينما يراه مع عدم إمكانيته بدون حضور اللجنة؟ ألا يدعو هذا إلى التساؤل؟! فأصدر المجلس بعدها بياناً بإكمال شهر ذي القعدة.
ثم بعد ثلاثة أيام صدر بيان آخر؛ بأن شاهدين رأيا الهلال في بلدة لم نعرف أنه سبق لأحد من قاطنيها الشهادة برؤية الهلال. فتغير وقت الوقوف بعرفة؛ بناء على تلك الشهادة، مما سبب إرباكا للمسلمين في العالم في مواعيد الطيران وذبح الأضاحي.
وعندما ذهبت لجنة لمناقشة الشاهدين، وجدت أحدهما، واختفى الآخر، فتمت مناقشة الشاهد الحاضر من قبل اللجنة، فأفاد بأنه أذن للمغرب، وانتظر حضور المصلين، وبعد الصلاة والانتهاء من الذكر وأداء السنة الراتبة، خرج من المسجد، قال: "وإذا الهلال في وجهي" مع العلم أن الشاهدين قد جاوزا الثمانين من العمر، ومثلهما في ذلك السن لا يبصر جيدا، وليس من السهولة أن يرى الهلال صدفة بهذه الطريقة، كما أنهما لم يؤديا الشهادة إلا بعد يومين أو ثلاثة، مما يدل على خطئهما في تحديد الليلة التي رأيا فيها الهلال"9.
وهذه النماذج التي سقناها ليست شاذة في بابها، ولا هي من العثرات التي قد تلحق الاجتهاد البشري، ولكنها تمثل مسلكا غير مرضي تعتمده عدد من الدول الإسلامية10 في إثبات أوائل الشهور القمرية، حتى إن الدكتور فؤاد الدباغ ذكر دراسة إحصائية قام بها بعض الجزائريين قصد تتبع إعلانات الجزائر لبدايات شهور المناسبات الدينية في الفترة ما بين 1963 و1994 فتوصلوا إلى أن نسبة الخطأ فيها زادت عن 94% من الحالات؛ كلها تم الإعلان فيها عن رؤية الهلال في وقت تدل القواعد الفلكية على استحالة هذه الرؤية. ثم علق على ذلك بقوله: "هذه بالنسبة للجزائر، أما بالنسبة للدول المشرقية التي تعلن عادة بداية الشهر قبل البلاد المغربية، فإن نسبة الخطأ فيها بالضرورة أفحش، وتكاد تصل إلى 100%"11.
ومن هنا يظهر بجلاء خطأ من يستحسن الصوم والإفطار من المغاربة مع المملكة العربية السعودية أو غيرها، متوهما أنه بذلك قد وافق أول بلد رأى أهلُه الهلال، وأنه أسهم في توحد الأمة الإسلامية، والواقع أنه صام وأفطر لرؤية غير صحيحة؛ يقول الدكتور فؤاد الدباغ: "نجزم بأن كثيرا من الإعلانات عن الرؤية الصادرة من البلاد الشرقية، هي إعلانات عن رؤية غير صحيحة، وبالتالي لا ينبغي الاعتداد بها ولا العمل بمقتضاها، وإن كنا مقتنعين –ونؤكد ذلك- بضرورة توحيد المسلمين في الصوم والإفطار وغيرهما من المواسم الدينية"12.
والحاصل أن على أهل المشرق اتباع إعلان بلدهم جمعا للكلمة، وعلى المغاربة اتباع بلدهم مطمئنين لصحة رؤيتهم.
ولينتبه الذين يستحبون تقليد أهل المشرق في الصوم والإفطار أنهم يقعون في خطأين اثنين:
أولهما: صيام يوم الشك الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه، وإفطار آخر يوم من رمضان.
ثانيهما: أنهم يفرقون كلمة المسلمين في البلد الواحد، من حيث أرادوا جمعها في العالم، بل قد يسببون فرقة داخل البيت الواحد؛ أحدهم صائم وأبوه مفطر، وأسرته ممسكة وهو في يوم عيد. ثم أين هي شعيرة الاجتماع لصلاة العيد؟!
والعقل يقتضي ضرورة الحرص على توحد أهل كل بلد، في انتظار توحد المسلمين في العالم توحدا كليا:
خذ ما دنا إن فاتك الأجل :: إن لم يصبها وابل فطل
وختاما أهنئ المغاربة قاطبة على ما تحظى به رؤية الهلال في هذا البلد من عناية بالغة، يطالب جمع من الباحثين بلدانهم بالاستفادة منها والسير على منوالها.
والله نسأل أن يسعدنا بوحدة الأمة وجمع شملها آمين
1)الإمام شهاب الدين أبو العباس القرافي في كتابه: "أنوار البروق في أنواء الفروق":1/83
2) ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": 25/104
3) مرتضى الزبيدي في كتابه: "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين": 4/200
4) الدكتور فؤاد الدباغ في مقال بعنوان: "إثبات أوائل الشهور القمرية بين الرؤية البصرية والقواعد الفلكية" مجلة الإلماع، العدد الثاني، رمضان 1421ه، ص: 109.
5) الأهلة: شهود المستحيل، ص: 99
6) كثيرا ما يعلن عن رؤية الهلال في وقت تمتنع فيه، غير أن المثير في هذه السنة إصدار بيانين نسخ آخرهما الأول.
7) نشر هذا اللقاء في صحيفة الشرق الأوسط السعودية عدد 9547 يوم 07 ذو الحجة 1425 ه بعنوان : "رئيس القضاء الأعلى في السعودية يكشف تداعيات الجدل حول هلال ذي الحجة".
8) فتاوى السبكي: 1/209
9) عبد المحسن العبيكان في حديث خاص لجريدة الوطن، يوم 12 رمضان 1427ه الموافق 4 أكتوبر 2006م العدد 2196
10) قد يقال: إذا سلمنا بما ذكر واعتبرناه صحيحا بالنسبة للسعودية؛ فما بال الدول الأخرى توافقها؟ وأقول: إنها جميعها بمثابة دولة واحدة، لأنها تتبنى مبدأ اتباع أول من أعلن رؤية الهلال، بالإضافة إلى مكانة المملكة العربية السعودية عند المسلمين باعتبارها مهبط الوحي ومسكن خير الخلق صلى الله عليه وسلم.
11) مجلة الإلماع، العدد الثاني، ص:108
12) مجلة الإلماع، ص:117
-باحث في المشترك بين الفقه والفلك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.