قبل الزيارة المرتقبة لجلالة الملك محمد السادس لروسيا، التي تلقى بشأنها دعوة رسمية منذ أسابيع قليلة من طرف مبعوثة الرئيس فلاديمير بوتين رئيسة مجلس الاتحاد الروسي فالنتينا ماتفيينكو، هذه الزيارة التي ستكون الثانية للعاهل المغربي منذ توليه الحكم، تتكاثر الأسئلة حول علاقات المغرب بهذه الدولة العظمى العائدة بقوة إلى الواجهة الجيو-استراتيجية العالمية ومدى قدرة بلدنا على توظيف هذه العلاقات في خدمة قضايا سياسية واقتصادية حيوية بالنسبة له. نبذة تاريخية قبل الحديث عن حاضر ومستقبل هذه العلاقات لا بد من التذكير بامتداداتها التاريخية التي تعود أولاها إلى القرن الثامن عشر، وبالتحديد إلى سنة 1777 حين عرض السلطان سيدي محمد بن عبد الله على الإمبراطورة كاترين الثانية رغبته في إقامة علاقات تجارية تضمن معاملة تفضيلية للمراكب الروسية في الموانئ المغربية. وبعد قرن من الاتصالات غير المباشرة، عبر ممثلي دول أوروبية تجمعها صداقة أو مصالح مشتركة مع المغرب وروسيا، فتحت روسيا أول تمثيلية رسمية لها في المغرب وكان ذلك سنة 1897 من خلال تدشين قنصليتها بطنجة وبعدها بعامين أقام البلدان علاقات دبلوماسية استمرت حتى اندلاع الثورة الروسية. وإبان عهد الحماية، سجل التاريخ للنظام السوفييتي مواقف مؤيدة للمغرب أمام المحافل الدولية خاصة في مطالبته بالاستقلال وبعودة محمد الخامس من منفاه. وكان الاتحاد السوفييتي في مقدمة الدول المعترفة بالمغرب المستقل سنة 1956 وسباقا إلى إقامة علاقات دبلوماسية معه توسعت، في عهد المغفور له الحسن الثاني، لتشمل تعاونا ثنائيا هاما جدا أثمر بناء منشآت استراتيجية بالنسبة للاقتصاد المغربي الفتي منها، على سبيل المثال لا الحصر، مركب جرادة للطاقة الكهربائية سنة 1971، سدود المنصور الذهبي (1972) ومولاي يوسف (1974) والوحدة (1997) إضافة إلى منشآت منجمية وفوسفاطية، الفوسفاط الذي كان محور "اتفاق القرن" سنة 1978، الأول من نوعه الذي يبرمه الاتحاد السوفييتي مع بلد سائر في طريق النمو. هذا التعاون المتميز شمل أيضا تكوين الأطر العليا في مجالات حيوية كالهندسة بكل فروعها والطب والصيدلة إذ يبلغ عدد المغاربة الحاملين لشواهد المعاهد والجامعات الروسية من السبعينات إلى اليوم أزيد من 20.000 إطار يشكلون ثاني أكبر رصيد من الأدمغة المغربية المكونة في الخارج بعد نظرائهم المتخرجين من فرنسا. بعد 1991 والتحول الذي عرفه المعسكر الشرقي بحلول الفدرالية الروسية مكان الاتحاد السوفييتي، واصل المغرب علاقاته الثنائية الموروثة عن العهد السوفييتي وعززها بتكثيف تبادل الزيارات الرسمية على أعلى مستوى حيث زار جلالة الملك محمد السادس موسكو في أكتوبر 2002 ورد له الرئيس فلاديمير بوتين الزيارة إلى المغرب في شتنبر 2006، وقد تميزت الزيارة الملكية لروسيا على الخصوص بتوقيع رئيسي الدولتين لإعلان الشراكة الاستراتيجية الذي يشكل منعطفا حقيقيا وخارطة طريق فعلية لتجسيد طموح البلدين إلى تمتين وتوسيع نطاق مبادلاتهما على جميع الأصعدة. رهانات التعاون المغربي الروسي حسب المعطيات الإحصائية الرسمية، تضاعف حجم التبادل بين البلدين أضعافا عديدة بين سنة 2000 و2012 ليبلغ ما يناهز مليارين و760 مليون دولار. وإن كان هذا المؤشر الإيجابي يدل على وجود دينامية وإرادة لتطوير العلاقات التجارية، إلا أن الإمكانيات التي لم تستغل بعد أكبر بكثير من تلك المتاحة لحد الآن خاصة في مجالات غير التجارة. وحيث أن القطاع العمومي في العهد السوفييتي كان هو المحرك الأساسي لحركية الاستثمار في قطاعات البنيات التحتية والتجهيزات الطاقية والمنجمية في المغرب، فإنه يعول كثيرا اليوم على المبادرة الحرة لرجال الأعمال الروس والمغاربة لجلب جزء من الرساميل الروسية الضخمة وتطوير التعاون والتبادل الحقيقي في مشاريع صناعية وفلاحية وسياحية مربحة للطرفين. ويعد إنشاء مجلس الأعمال الروسي المغربي، الذي لم ينشط بعد بما فيه الكفاية، لبنة أولى يمكن أن تشكل إطارا محفزا للاستثمارات الروسية في المغرب الذي يطمح أن يصبح منافسا لمصر على مرتبة الشريك الأول لروسيا في إفريقيا. ولعل الداعي الحقيقي لتطوير تعاون اقتصادي متميز مع روسيا هو حاجة المغرب إلى الحفاظ على التوازن في علاقاته الدولية، السياسية منها قبل التجارية، خدمة لمصالحه وقضاياه وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية إذ يسجل لروسيا أنها البلد الوحيد من بين البلدان دائمة العضوية في مجلس الأمن الذي هدد سنة 2013 باستعمال حق الفيتو ضد أي قرار قد يغير من مهام بعثة المينورسو ويوسع صلاحياتها لمراقبة حقوق الإنسان بالصحراء، وسبق لروسيا أن أيدت المبادرة المغربية لإقرار حل دائم وعادل مبني على مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية المسترجعة، وقبل هذا وذاك، فبالرغم من أن روسيا هي الزّبون الأول للجزائر ومزودها الرئيسي بالسلاح، فإنها لم ترضخ أبدا لضغوط خصم المغرب بالاعتراف للجمهورية الصحراوية المزعومة. هذه المواقف الإيجابية على الصعيد السياسي التي لا يستهان بها نظرا لما تعرفه الدبلوماسية الروسية من انتعاشة قوية ودورها المحوري في العديد من القضايا الجهوية منها والعالمية، والتي تعكس رغبتها في توطيد علاقات الصداقة والتعاون بينها وبين المغرب كمخاطب لها في منطقة شمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط نظرا لموقعه الاستراتيجي في مفترق القارات، رغبة زكاها تبادل الزيارات والمباحثات على أرقى مستوى نوقشت خلالها قضايا غاية في الأهمية للطرفين كالسلام والأمن في المنطقة ومكافحة الإرهاب الدولي وغيرها من المواضيع الملحة في الأجندة الدولية والإقليمية، هذه المواقف الإيجابية إذن يجب أن تستثمر لمرور الطرفين إلى السرعة الأعلى في التعاون الثنائي بينهما وتحقيق مكاسب على أرض الواقع الاقتصادي تعكس وترسخ تطابق وجهات النظر لديهما في الساحة السياسية والمحافل الدولية. المكاسب المنتظرة من انتعاش التعاون الثنائي بين البلدين عديدة وتهم أكثر من مجال يمكن أن توجز في بضع نقاط: في مجال الصيد البحري، وبعد إعادة توقيع الاتفاقية المؤطرة لوجود المراكب الروسية في المصايد المغربية سنة 2013، السادسة من نوعها منذ 1992، يمكن التفكير في استغلال التجربة الروسية لتطوير الخبرات والقدرات المغربية في مجالات الصيد في أعالي البحار وتنويع واستكثار الثروات السمكية والأحياء البحرية والصناعات المرتبطة بها ذات القيمة المضافة العالية جدا سواء عند التصدير أو في السوق الداخلي، في مجال الطاقة، تأتي روسيا في المرتبة الثالثة من بين مزودي المغرب بالبترول، بعد السعودية والعراق، من خلال شركات عالمية وسيطة، ولا شك أن التزويد المباشر للسوق المغربي كما يرغب في ذلك الجانب الروسي سيزيد من ترسيخ المكانة الرائدة لروسيا كمزود للمغرب ويشجعها على تنمية استثماراتها في مجال التنقيب عن البترول والغاز بالمغرب وفي إنتاج الطاقة الكهربائية، في مجال التكنولوجيا، بإمكان المغرب أن يستفيد من موقعه على مرمى حجر من أوروبا وامتداده الإفريقي لجلب استثمارات روسية في مجالات الصناعات الرقمية المتطورة الموجهة للتصدير نحو سوق يناهز أزيد من مليار من البشر اعتمادا على ما يوفره المغرب من تحفيزات ضريبية وكفاءات بشرية مؤهلة وبنيات تحتية ذات مواصفات عالمية، في مجال تكوين الأطر، تكثف روسيا من مشاوراتها مع المسؤولين في الجامعات المغربية لاستشراف آفاق إنشاء جامعة روسية بالمغرب تشمل التكوين في عدة اختصاصات كالصيدلة والطب والهندسة، هذا المشروع إن تم لا تخفى أهميته سواء في تعزيز البنيات التعليمية أو في الرفع من مستوى وتنويع التعليم العالي بالمغرب ناهيك عن توفير مبالغ هامة بالعملات الصعبة تصرف سنويا في تدريس مئات الطلبة المغاربة بالجامعات الروسية، مجال السياحة هو الوحيد، من بين المجالات الأهم المؤهلة لتطوير التعاون المغربي الروسي، الذي لم يحظ بعد بما يليق به من العناية رغم الإمكانيات الهائلة المتوفرة فيه ووجود ظرفية مساعدة على إنعاشه. فإذا كان أزيد من 15 مليون سائح روسي يزورون بلدان العالم سنويا، فإن نصيب المغرب من هذا السوق لا يزيد في المعدل عن 25.000 سائح سنويا (للمقارنة، تركيا تستقطب 2.5 مليون سائح روسي سنويا ومصر 1.5 مليون) هذه الوضعية تستوجب منا وقفة تأملية وبعض التفاصيل لفهم مكامن الخلل في سياستنا الترويجية وإصلاح مايجب إصلاحه فيها. السياحة، رهان المستقبل ؟ في مبادرة منه لتشجيع السياح الروس على زيارته، ألغى المغرب لصالحهم تأشيرة دخول التراب المغربي في 2005 ووقع مع روسيا اتفاقية للتعاون السياحي في 2006 وأحدث في 2009 مندوبية للمكتب الوطني المغربي للسياحة في موسكو. مواكبة لهذه الإجراءات، عمدت الخطوط الملكية المغربية في 0112 إلى إقامة خط مباشر بين الدارالبيضاءوموسكو اتضح لها قليلا بعد ذلك أنه غير مربح فاستبدلته بآخر غير مباشر. السؤال الجوهري المرتبط بقلة إقبال الروس على زيارة المغرب، هو: هل ما أعددنا لاستقطابهم من عروض وبرامج وسياسات ترويجية يتلاءم وأذواقهم ورغباتهم؟ واقع الحال يؤكد أن الجواب سيكون بالنفي. عدة معطيات وعوامل تتفاعل فيما بينها لتضعف قوتنا التنافسية مقارنة مع تركيا ومصر وحتى مع تونس التي مرت ولا تزال بظروف أمنية عصيبة تجعل مداخيلها السياحية في مهب الريح. إذا كان المغرب يطمح أن يجلب 2 مليون سائح روسي في أفق 2020، فعليه أن يعيد النظر كليا في سياسته السياحية الخاصة بروسيا وما يعتمد عليه فيها من مؤسسات وأشخاص ومنهجيات. من بين هذه العوامل، عدم استغلال التقارب السياسي والزيارات الرسمية وما يصاحبها عادة من تغطية إعلامية مكثفة للتعريف بالمغرب ليس فقط كشريك سياسي واقتصادي لروسيا بل وكوجهة سياحية يمكن أن تستهوي سوقا قوامه حوالي 143 مليون نسمة، أي يفوق ساكنة فرنسا وإسبانيا مجتمعتين، هذان البلدان المستأثران بحصة الأسد في ميزانية الترويج لسياحتنا في الخارج والمتراجعان سنة بعد سنة في عدد السياح الوافدين على المغرب منهما. بالفعل تم توقيع اتفاقية في مجال السياحة سنة 2006 لكنها ظلت حبرا على ورق منذ ما يقارب عشر سنوات في غياب مؤشرات عن تفعيلها من خلال برنامج ذي مضمون عملي. فلم نسمع لحد الآن عن قيام أي جهة مغربية بدراسة جدية ومعمقة تسفر عن استراتيجية حقيقية تراعي خصوصيات السائح الروسي وتلائم عقليته وترضي ميوله، ولم نشاهد حملات إشهارية ذكية ومنتظمة تخاطب السائح الروسي باللغة التي يفهمها وتبدي له محاسن المغرب التي يفضل أن يراها، كما أننا لا زلنا نلاحظ أن المتحكمين في تسويق المنتوج السياحي المغربي في روسيا هم مهنيون أتراك، لا يبرمجون المغرب إلا للفائض الذي لا تستوعبه الوجهة التركية، في غياب تام لشبكة مغربية لمنظمي الرحلات ووكالات الأسفار، كما أننا نلاحظ أن المسؤولين عن التخطيط بعيد الأمد للسياسة السياحية المغربية لا يقومون بالجهد الكافي لاستمالة الرساميل الروسية حتى تستثمر في التجهيزات السياحية ببلدنا. مشاركة المغرب في المعارض الروسية المختصة مهم لكنه لا يكفي لوحده لتدارك النقص التواصلي الفادح الذي يعيب سياستنا الترويجية. وكم كان شعورنا بالفخر تساوره المرارة لما تم قبل أسابيع في موسكو تقديم كتاب يحمل عنوان "المغرب في أول نظرة" لمؤلفته فيكتوريا أبراموفا، يضم مقالات وانطباعات وروايات وصور فوتوغرافية حول المغرب بأقلام وعدسات صحافيين وكتاب روس قاموا خلال شهر أكتوبر 2014 برحلة استكشافية لعدد من المدن المغربية. الفخر مرده إلى توفق الكتاب في إظهار روعة الطبيعة في المغرب وغناه الثقافي، أما الشعور بالمرارة فلأن من قام بهذا العمل الذي يسد فجوة بينة في المعلومات عن المغرب ليسوا المغاربة المعنيين أولا وقبل أي أحد بإبراز مؤهلات بلدهم. وتزداد هذه المرارة عند تصفح الأنترنيت، على سبيل المقارنة، بحثا عما تقوم به دول أخرى لجلب السائح الروسي، أو أي سائح من أي جنسية أخرى ذات قدرة شرائية مهمة، حيث يصاب المرء بالدهشة أمام الزخم الهائل من المعلومات الدقيقة والأرقام والمعطيات الإحصائية عن هذا السائح وميوله التي توفرها هذه المواقع بكل حرية وشفافية للمهتمين والتي تنم عن المهنية العالية التي تبنى بها دراسات السوق لدى المسؤولين عن ترويج المنتوج السياحي لدولة ما وحتى لجهة ما داخل الدولة في ظل المنافسة الشديدة بين الجهات، في حين يكون نصيب الباحث عن استراتيجية المغرب خيبة الأمل نظرا لضحالة ليس فقط المعلومات المتوفرة بل والأفكار والمبادرات المعول عليها لرفع حصة المغرب من السياح، الروس أو غيرهم. كخلاصة… لا بد من التأكيد على أن المراهنة على السياحة لتمتين العلاقات بين المغرب وروسيا لا تتأسس فقط على حجم المداخيل المباشرة التي يمكن أن توفرها لميزانية الدولة، والتي لا يستهان بها إذا علمنا أن السياح الروس ينفقون عبر العالم ما يناهز 45 مليار دولار سنويا بمعدل يقرب من 200 دولار يوميا لكل سائح مسجلين أعلى نسبة نمو في العالم من حيث الإنفاق في الخارج بلغت 147 بالمائة مابين 2005 و2012، وإنما أيضا على ما يتيحه الانفتاح على الإنسان الروسي وثقافته وعقليته من إمكانيات لتحويل سفر الاستجمام إلى سفر الأعمال إن نحن توفقنا في فهمه واستطعنا تقديم حزمة واسعة من عوامل الجذب لاستمالته وأجدنا استقباله وخدمته خلال مقامه السياحي. قدرة المغرب على الاستقطاب - سواء السياح أو المستثمرين - عالية لكنها تفتقد أحيانا إلى بعد النظر والجرأة اللازمين لتحويل جزء من اعتمادنا على الأسواق التقليدية للدول الغربية، والتي بلغت مداها بسبب الأزمة الهيكلية التي تعاني منها اقتصادياتها منذ 2008، في اتجاه القوى الصاعدة ومن بينها ولا شك روسيا، الاقتصاد السادس عالميا، التي تتوفر على طبقة متوسطة تقدر ب10 ملايين أسرة، متوسط دخل الأسرة الواحدة منها يبلغ حوالي 50.000 دولار سنويا ولها رغبة واستعداد لإنفاق نصيب مهم منه في زيارة العالم. هذا المعطى أساسي لفهم الزائر الروسي الذي، حسب خبراء القطاع المجتمعين مؤخرا في مراكش حول هذا الموضوع، يعتبر المغرب وجهة لا تليق به ومن هنا وجب على مسؤولينا التركيز على ضرورة تغيير الروس لنظرتهم عن المغرب، مهمة تبدو شبه مستحيلة في غياب رؤية واضحة وخطة عمل واقعية لدى القيمين على الشأن السياحي ببلادنا.