مما لاشك فيه أن الوضع السياسي الوطني يعرف حالة مخاض اشتدت منذ أحداث العيون الأخيرة، إلا أن الاستغراق في تفاصيل التدافع السياسي اليومي يحول دون الانتباه لسمات هذا المخاض وعناصره، مما ينعكس سلبا وبشكل جسيم على القدرة على التأثير في مسار هذا المخاض واستثماره لمصلحة الانفتاح السياسي والتطور الديموقراطي في البلد، وفي الوقت نفسه يحول امتلاك الفاعلين للوضوح المطلوب في الرؤية المستقبلية لآفاق الوضع السياسي، وبالتالي تحديدهم لما العمل؟ قد يكون من الصعب الادعاء في هذه المقالة بحصر مجموع عناصر اللحظة السياسية الحرجة، لكن هذا الوعي لا يمنع من استعراض المعالم الكبرى والإحالة على مؤشراته. إن السمة البارزة في هذا المخاض هي أن هناك حالة جزر وانحسار في المشروع السلطوي الجديد والذي انكشفت كل من هشاشته وقصر نظره بعد أحداث العيون، وهي حالة تناقض حالة المد التي عرفها منذ الانتخابات الجماعية ليونيو 2009 وانتهاء بالانقلاب الأبيض الذي عرفته مدينة طنجة في أكتوبر الماضي، ولعل من أهم خلاصات هذا الجزر والانحسار هو الفشل المزدوج لها على واجهتين، الأولى تهم ما يحرك نوايا نواته الصلبة والمتمثلة في سعي هذا المشروع لمقاومة فساد إدارة الدولة وخاصة منها الإدارة الترابية، والواجهة الثانية هي في تحييد وتهميش التيار الإسلامي المشارك في الحياة السياسية بعد اختلال ميزان القوى لصالحه في مقابل الأحزاب السياسية الوطنية الأخرى. بخصوص الفشل الأول، فإن المقاومة المفترضة لفساد إدارة الدولة أنتج هو الآخر فسادا أسوء وأخطر، يهدد بانهيار وتفكك التوازنات الهشة التي تحفظ استقرار التدبير العمومي وخاصة في المناطق الحرجة مثل الصحراء، ودون أن تكون لهذا المشروع القدرة على تقديم بديل يوازي فعاليتها في الضبط، اللهم إلا العمل باستراتيجية الردع والخوف، وهي الاستراتيجية التي تنجح مؤقتا لكنها تنهار أمام أي مقاومة جادة، وتفسر هذه الوضعية قسطا معتبرا من الشلل المسجل في التدبير العمومي لعدد من الملفات الحساسة في السياسات العمومية وكذا حالة التردد في التعاطي معها، وتؤثر سلبا على مصداقية الدولة في المحصلة، مثلما حصل مع ترقية والي العيون السابق والتراجع عنها واتخاذ القرار بتغييره، وذلك في ظرفية زمنية قصيرة. ولعل السبب الجوهري في هذا الفشل، هو أن التسلط بطبيعته ينتج الفساد، ونزوع هذا المشروع السلطوي لتأسيس مركز نفوذ جديد يعمل من خارج المؤسسات ويتموقع ظاهريا في المعارضة بما يحول دون محاسبته أو مساءلته إداريا وقانونيا، أدى لتوفير بنيات فساد أكبر وأخطر، وسيجعل من هذا المشروع في حالة اختناق مستمر بظاهرة الانتهازية السياسية والشخصية في بنيته، والمؤشر الدال الذي ينبغي الوقوف عنده بإمعان هو ما وقع في فاس من حل لهياكل حزب المشروع السلطوي، والتي من التبسيط اختزالها في مجرد اتهامات حزبية موجهة لهذا الحزب أو ذاك بقدر ما تعكس حالة التوتر بين محوري فساد على مستوى الدولة والمجتمع. أما الفشل الثاني، والذي يعكس مأزق المشروع السلطوي الجديد ويفرض التنبيه عليه، فهو فشله في إنتاج التوتر بين المؤسسة الملكية والحركة الإسلامية المشاركة في المؤسسات والعملية السياسية ما يناهز العقدين، والسعي لاستدراجها لمنطق المنازعة الذي يحيل على تجربة العهد الأوفقيري وأدى إلى سجن المغرب في صراع أفقد المغرب ما لا يقل عن عقدين من توجيه القدرات المتاحة للتنمية والتحديث. ودون الذهاب بعيدا في تفسير أبعاد هذا الفشل فإن الأمر يعود وبشكل أساسي لطبيعة هذا التيار الإسلامي المشارك عبر حزب العدالة والتنمية، والذي نشأ كفاعل داعم ومناصر ومجند وراء المؤسسة الملكية في المغرب، وكل محاولة لتحييده و تهميشه هي مجرد تأخير وتأجيل للمساهمة المطلوبة منه في النهضة الوطنية وفي مواجهة تحديات الوحدة والقيم والديموقراطية، ولعل التقدير الذي ناله تيار المشاركة بعد أحداث العيون بسبب من نضج مواقفه ووضوحها، ثم انخراطه في تحمل مسؤوليته الوطنية إزاء التحديات التي نجمت عنها داخليا وخارجيا والتفاعل الإيجابي معها من قبل عموم المؤسسات مؤشر دال على هذا الفشل . بكلمة، لقد ظهر أن استراتيجية التخويف من خطر إسلامي انتخابي مزعوم هو سباحة ضد التيار وحرث في البحر، لا يمكن أن يغطيه تضخيم إعلامي لحالات تساقط فردية، وتمثل شهادة على فشل سياسات التطويع والتدخل في القرار الحزبي والتي نجحت في حالات أحزاب أخرى لكنها اصطدمت بمناعة الدفاع عن استقلالية القرار الحزبي الذاتي عند تيار المشاركة الإسلامية. المطلوب اليوم تعميق الوعي بحالة الجزر والانحسار في المشروع السلطوي والتي ستأخذ وقتا مقدرا قبل اكتمالها، وهو الوعي الذي يفرض على القوى السياسية الوطنية تحمل مسؤوليتها التاريخية في اختيار الموقف اللازم في مفترق الطرق القائم في الحياة السياسية، والذي يفضي إلى مسارين، إما التعاطي باستسلامية ووهن مع المشروع السلطوي وما ينجم عنه من تفكيك للبنيات الحزبية، وضرب استقلاليتها وتحويلها إلى مجرد أدوات، وإما مسار استئناف البناء الديموقراطي المجمد منذ 2007 ومقاومة المشروع السلطوي والدفاع عن ما تقتضيه المصالح العليا لمؤسسات البلاد. *عن جريدة "التجديد"