لم يكن يتوقع أكثر المتشائمين أن تطل علينا امتحانات الباكالوريا لهذه السنة بكل هذه البشاعة في تسريب مواد الامتحان المختلفة وبصورة أسرع من المعهود فيها منذ بدأت لعبة التسريبات على مواقع التواصل الاجتماعي، لتحول امتحانات الباكالوريا من اختبارات تقيس مدى أهلية المرشحين لنيل الشهادة، إلى فروض منزلية معدة سلفا بشكل يتساوى فيه المجد مع المستهتر والمتفوق مع الكسول والنزيه مع الغاش. لعبة التسريبات بدأت مع انتقال التلاميذ من استعمال الأساليب القديمة في الغش والمتمثلة في تلك القطع الورقية الصغيرة التي تتضمن كتابات " مجهرية " إلى استعمال آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا الحديثة من أجهزة الهواتف الذكية وحبات صغيرة تزرع داخل الأذن لتلقي الأجوبة من خارج قاعة الامتحان وربما من خارج البلاد برمتها، لكن وبما أن عقل الاحتيال يشتغل بسرعة أكثر ممن اخترعوا تلك الوسائل فقد اهتدى عباقرة الغش إلى تصوير الامتحانات ووضعها على مواقع التواصل الاجتماعي كنداء مفتوح للمساعدة، وطبعا كل هذا كان يتم بداية في ظل جهل بعض المكلفين بالحراسة أصلا بما قد يقوم به هؤلاء بهواتف كان يتم تبرير إدخالها بمراقبة الوقت أو أشياء من هذا القبيل، أو بتجاهل من بعض القائمين على الحراسة عمدا بالنظر ل " العواقب " الوخيمة التي قد تترتب عن اتخاذ إجراء في حق مترشح قد يتحول في أية لحظة إلى وحش كاسر يقوم بما لا يحمد عقباه في حق الأستاذ. بعد حالة الاستنفار التي خلقتها تلك التسريبات من طرف مختلف المتدخلين في عملية تنظيم الامتحانات، أصبح الأمر بالنسبة لبعض التلاميذ بمثابة لعبة مسلية تتمثل في إثارة حنق الدولة بتسريب الامتحانات والاستمتاع بعدها بلعبة الاختباء والتفرج على ارتباك الوزارة، حيث بدأت مدة التسريبات تتقلص تدريجيا، فبعدما كانت تسرب بعد نصف مدة الامتحان، اصبح التنافس بين المترشحين على من سيسرب الامتحان في أسرع وقت ممكن، مما جعل التنافس على أشده بينهم، ولحدود هذه المرحلة لم يكن أحد ليصف ما يحدث بأكثر من عبث تلاميذي يقابله عجز الجهات الوصية عن التصدي للظاهرة، لكن تسريبات هذه السنة ستكون بمثابة نقطة التحول التي ستنقل عملية التسريبات من مجرد عبث إلى ما هو أكبر من ذلك. إن أكبر دليل على أن التسريبات لم تعد عبثا تلاميذيا هو ما حدث في امتحان مادة الرياضيات لهذه السنة، والتي تم تسريبها ساعات قبل موعد الامتحان، مما يثير هنا مجموعة من التساؤلات حول ظروف نسخ ونقل مواد الامتحان بين المصالح المختصة، وطبيعة المشرفين على هذه العملية وظروف عملهم والهدف الحقيقي من تسريبهم لامتحان ووضعه رهن إشارة جميع المترشحين، فمن المعروف أن النيابات تتوصل بأظرفة مختومة مغلقة بإحكام وعملية فتح هذه الأظرفة والتأكد من عدم وجود شبهة فتحها قبل ذلك، يشرف عليها أساتذة وأطر إدارية وممثلون عن التلاميذ يقترحون أنفسهم في الدقائق الأخيرة مباشرة قبل بداية الامتحان، ورغم كل هذا يتم تسريب امتحان ليلة إجراءه. إن تسريبا بهذا الشكل يفرض وجوبا وجود طرف يضطلع بمنصب مهم يؤهله للتوصل بورقة الاختبار، وأخذا بعين الاعتبار وجود أكثر من شخص مشرف على هذه العملية، فإن دائرة الشبهات تتسع لدرجة الإقرار بالتواطؤ المسبق في هذا الفعل الشنيع، الذي يعرف مرتكبوه جيدا أن تسريبا بهذه الطريقة سيثير ضجة تبعثر كل الحسابات وترفع الأصوات المطالبة بمحاسبة مسؤولين من مستوى وزراء ومدراء، وسيصل مدى هذا الحدث إلى خارج البلاد ما يحمله ذلك من خطورة ضرب مصداقية الشهادة بشكل يؤدي لا محالة إلى حرمان مجموعة من حامليها من فرص استكمال دراساتهم العليا بسبب التشكيك في حقيقة مستواهم المعرفي طالما أن الشهادة التي يحملونها هي نتيجة اختبارات يعرف الجميع مسبقا فحواها. إن الطريقة التي تمت بها التسريبات الأخيرة والضجة التي نتجت عنها وعواقبها على الشهادة والمترشحين وصورة التعليم العمومي بشكل عام، هي طريقة أخرجت التسريبات من خانة عبث تلاميذي يمثل معاكسة للدولة والوزارة، إلى جريمة منظمة ترتكب في سياق حرب قذرة بين جهات تعرف جيدا أهدافها الحقيقية من وراء هذه التسريبات، حرب كبرى وقود نارها أكثر من نصف مليون تلميذ مغربي