و كأن أصابعي أصيبت بتكلس مؤقت، و أضحت غير قادرة على حمل القلم، كلما سرح خيالي يفتش في حكايات و قصص دروب و أزقة المحروسة بالله سلا العتيقة، التي غلفها الصمت. سلوك غريب و ممارسات غامضة تلك التي تصدر عن أناملي، كلما هممت بالتنقيب في أعراف و ثقافة مدينتي العريقة، للحفر في تجاعيد ذاكرةها. لربما هو شعور يعكس إحساس إبهامي و سبابتي بأن لا جدوى في استلهام الماضي، و استخلاص العبر، لاستشراف المستقبل. الجميع يعلم أن مدينة سلا أصبحت بدون هوية، لا حاضر لها، و لا آمال تلوح في أفقها و تبعث على التفاؤل. فقط ماضيها يشفع، و يشهد بعظمة رجالاتها المجاهدين، الذين لم يسألوا عن جهادهم أجرا. في عيون كثيرة أقرئ لغة الصمت و الألم و الفشل و الإحباط... إحباط من يدرك وقع الغدر الذي يصيبه، حين يتصرف الناس بأنانية من خلف ظهره، ليمارسوا ساديتهم، و ينفذوا أجنداتهم المليئة بأغراضهم الضيقة. إنهم رعاة الانتهازية. في زمان كثر فيه المحبون للخير، و المبعثون للأمل. سلا تحتضر، و لا أمل في الأفق، فلندعها تموت في صمت. و لنعجل بدفنها إكراما لها. هذا مبلغ تفاؤلنا. سنقيم لها جنازة تليق بماضيها. سيكون حملها على آلة حدباء، هو آخر موعد يسجله الانتهازيون في أجندتهم. أشعر و كأن أصابعي تتحرك الآن و قد فك تكلسها، إنها تريد التعبير عن ما يخالجني من آلم و حسرة. أستنشق نفسا عميقا، من عبير طفولتي و شبابي بين أحضانك أيتها المحبوبة. كم كنت أكره نوم الناس في الليل، كم كنت أحبهم حولي، استأنس صحبتهم حتى البلج. كم كنت أعشق صباحك و أنا أترنح بين متاهات دروبك الضيقة، التي اتسخت و تعفنت من كثرة الأكياس البلاستيكية الممتلئة بالأزبال و الفضلات، الملقاة في كل مكان. كم كان يحلو لي السهر مع الرفاق و أنا أتنقل ليلا بين سينماتها الكوليزي و الملكي و لوبيرا، لمشاهدة أفلام بروس لي و ترينيتا و مول المشطة و شارلي شابلين. ليكتمل السهر بمقهى الأطلس بباب الخميس حتى الصبح. لقد أوصدت السينمات الثلاث أبوابها. و هدمت مقهى أطلس، ليصبح مكانها فضاء أريد به أن يكون حديقة عمومية، فأضحى مرحاضا عموميا طبيعيا يزكم الأنوف. و أجزم لكم أن كل الحدائق العمومية بسلا هي شبه مراحيض عمومية. و هذا نتاج طبيعي لوضع شاد، تغيبه فيه المراحيض العمومية الحقيقية، تلبي حاجة المحتاجين الكثر. لن أعدد ما لحق بك من تدمير و إهمال لمعالمك و مواقعك الطبيعية و قصباتك و أسوارك، فقد سبق و أن تكلمت عن هذا الموضوع، دون أن أجد آذانا صاغية. لا شيء يفرح بهذه المدينة، اللهم عزيمة بعض الهيئات الجمعوية و الأفراد، الذين يبادرون للتحسيس بأهمية النهوض بقطاعات حيوية حساسة، في مبادرات محمودة. فلنعقد العزم، كل من منبره، لتنشئة أجيال لها من الغيرة، ما قد يعيد مجد مدينتنا لسالف العصر و الأوان. فبقدر العزم تأتي العزائم.