تتضمن هذه الورقة مجموعة من العناصر نبرز من خلالها السياق العام الذي يدور فيه النقاش حول الموضوع، قبل إبداء ملاحظات حول الكيفية التي يدار بها بعض هذا النقاش، ثم التذكير بالتطور الذي عرفته مقتضات القانون الجنائي المتعلقة بالإجهاض، وصولا إلى واقعنا الراهن الذي يطبعه الانفصام الملحوظ بين المقتضيات القانونية والواقع اليومي. وقد ارتأينا بعد ذلك تدقيق المصطلحات المستعملة للتعريف بالظاهرة محاولين إبراز أوجه النقص فيها ومقترحين بديلا لها يلامس جوهر الموضوع ثم وضعنا بعد ذلك تساؤلات حول أنواع التدابير التي يمكن اتخاذها لمعالجة الظاهرة، مركزين على مسألة المرجعية في علاقتها بالموضوع، واقترحنا بعدها توسيع دائرة المتدخلين وتحديد وسائل عملهم، مبرزين الدور المفترض لكل متدخل، حسب وجهة نظرنا، قبل الختم بمقترحاتنا الشخصية حسب ما لدينا من قناعات. وقد انتهجنا في صياغة هذه الورقة أسلوب التبسيط، مبتعدين عن النهج الأكاديمي. 1 - السياق انطلقت منذ مدة حملة حول موضوع اصطلح على تسميته ب "الإجهاض السري"، وهو تعبير يخفي وراءه جوهر الإشكال المطروح، كما سنوضح ذلك. شاركت في هذه الحملة عدة جهات من بعض مكونات المجتمع المدني ووسائل الاتصال، بما فيها القنوات العمومية، من خلال الترويج لمعطيات من قبيل أن المغرب يعرف حالات "إجهاض سري" حدد البعض أعدادها في 600 حالة يوميا والبعض الآخر في 800 حالة. وعند القيام بعملية حسابية فإن ذلك سيوصلنا إلى نتيجة أن 219000، بالاعتماد على الرقم الأول، أو 292000، بالاعتماد على الرقم الثاني، تفقد من الأجنة سنويا، بمعنى أن ما يقابل عدد سكان مدن متوسطة أو كبيرة الحجم يفتقدون كل سنة، دون احتساب حالات الإجهاض المجراة وفقا لما ينص عليه القانون. فهل هذا هو الذي يفسر كون عدد سكان المغرب الذي كان يفوق عدد سكان الجزائر قد تراجع بفارق 6.000000 نسمة، وفقا لآخر الإحصاءات والتقديرات؟ (يصل عدد سكان المغرب لأقل من 34.000000 نسمة وحوالي 40.000000 نسمة في الجزائر). لا يمكن نفي أو تأكيد ذلك في غياب دراسة خاصة، لكن المؤكد هو أن أعداد حالات الإجهاض التي تم توظيفها في الحملة الإعلامية تفتقد لأدنى قدر من المصداقية لعدة أسباب : - منها أن الإحصائيات لا ولن تعكس أبدا أية ظاهرة في حجمها الحقيقي، فهي دائما تقريبية، ومن ثم فإن الظاهرة في حجمها الواقعي شيء، وكما تبرز من خلال الإحصائيات شيء آخر، وكل خلط بينهما سيؤدي إلى خلط في الموضوع. - منها أيضا أن جريمة الإجهاض تدخل في علم الإجرام ضمن أنواع الجرائم التي عادة ما تتم في الخفاء، ومن ثم صعوبة بروزها إحصائيا. وقد حاول المختصون توظيف تقنيات للكشف عما خفي منها ومن مثيلاتها كالجرائم الجنسية... ومن هذه التقنيات محاولة معرفة ما يسمى ب "الرقم الأسود" إلا أن ذلك لم ينفع (يعطى معامل لنسبة الخفاء يختلف من جريمة لأخرى ويتم ضربه في أعداد الحالات المعروفة لكل جريمة لمحاولة معرفة الحالات الخفية منها). وإذا كانت هذه الحملة قد وصلت إلى النتيجة المقصودة، وهي الدفع نحو نقاش في الموضوع، فإنها تكون قد حققت أهدافها، بل تجاوزت تلك الأهداف، بما أننا دخلنا مرحلة البحث عن الحلول واتخاذ تدابير... وهو شيء محمود لأنه حتى مع عدم دقة الأرقام المستشهد بها، وفي غياب دراسة في الموضوع، يمكن للمواطن العادي أن يلمس فعلا تنامي حالات الإجهاض التي تتم خارج الإطار القانوني في المجتمع المغربي، قد تزيد أعدادها وتنقص حسب المناطق، مع كل ما يصاحبها من مآسي بالنسبة للبعض، ونفع مادي بالنسبة لمن يقدمون "خدماتهم" لمعالجة تلك الحالات ("les illégalismes de fait" حسب تعبير ميشيل فوكو). 2 - كيفية إدارة النقاش حول الموضوع وإذا كانت الظاهرة موجودة فعلا واستلزم ذلك البحث عن حلول لها، فإن إدارة النقاش حولها يعرف بعض الاختلالات. من مضامين هذا النقاش على سبيل المثال محاولة الاستشهاد ببعض التجارب الأجنبية (الأستاذ شرايبي بصفته رئيسا لجمعية محاربة "الإجهاض السري"وآخرون معه) كحالة تونس وحالة تركيا، للقول بأن حالات الإجهاض لم ترتفع بعد تحريره في هذه الدول، وهو "منطق" يحاول من خلاله أصحابه طمأنة من يخشون أن يؤدي تحرير عمليات الإجهاض إلى ارتفاعها، وهو"منطق" لا يستوي من ناحيتين على الأقل : - من حيث المنهج، لأن للمقارنة محدداتها العلمية، والمقارنة في موضوع الإجهاض قد تصعب حتى داخل المغرب مثلا، بين منطقة وأخرى، وبالأحرى بين المغرب وتونس أو تركيا. - من حيث الظاهرة بحد ذاتها وكيفية التعامل معها، لأن الذي يؤدي إلى ارتفاعها أو انخفاضها ليس هو القانون المحدد لإطارها بل العوامل المؤدية إليها. و نسجل، علاقة بنفس الموضوع، أن هناك من يعتمد نفس "المنطق" في التعامل مع عقوبة الموت لطمأنة الرافضين لإلغائها، فهم يستشهدون بإحصائيات للتدليل على أن جرائم القتل في الدول التي ألغتها لم ترتفع بعد الإلغاء، عما كانت عليه قبل ذلك... - وهو "منطق" مردود على أصحابه لأنه في ماذا يفيد الإبقاء أو الإلغاء إذا كان ذلك لا يؤدي إلى الزيادة أو الانتقاص من حجم ظاهرة ما ؟ لا شك أن معالجة الموضوع بهذه الطرق ينم عن وجود خلل في كيفية طرحه، مع العلم أنه كما في الطب، كلما كانت عملية التشخيص أكثر دقة كان علاجها أكثر دقة كذلك. وهناك من يربط ظاهرة الإجهاض الذي يتم خارج ما يسمح به القانون بعامل الفقر، وهو تفسير في رأينا غير كاف. ففي علم الإجرام توجد أدبيات بينت منذ مدة عدم وجود علاقة سببية بين الفقر والسرقة مثلا. إذ نجد أن هناك عائلات فقيرة قد يرتكب أفرادها أو بعضهم أفعال سرقة كما نجد عائلات أخرى، ربما أكثر فقرا، لا تقوم بذلك؛ وهو ما يفيد أن المتحكم في تصرفات الأفراد ليست هي بعض العوامل، كما قد تبدو لنا من أول وهلة، بل أن هناك محددات أخرى وجب البحث عنها، كما في حالة الإجهاض. وهناك أيضا من ينطلق من فكرة كون الوعاء الذي يحتضن الحمل هو جسد المرأة وانه لهذا السبب تكون المرأة هي وحدها التي يجب أن يرجع لها الانفراد بقرار الإبقاء أو التخلص منه، وكأنه لم يشاركها في ذلك الحمل أي طرف آخر، مع العلم بداهة أنه لولا ذلك الطرف الآخر (في حالات الحمل الناتج عن علاقة معروف مصدرها) لما كانت المرأة قد حملت أصلا، وبالأحرى أن يكون لها حق الانفراد في التقرير بشأنه. نعتقد أنه يجب بدل مجهود في اتجاه محاولة تشخيص الظاهرة على أسس أكثر صلابة، لكون ذلك هو السبيل الوحيد الذي سيساعد على مقاربتها بطريقة أكثر ملائمة. 3 - تذكير بتطور مقتضيات القانون الجنائي المتعلقة بالإجهاض والهوة التي أصبحت تفصلها عن الواقع. من طبيعة القانون المكتوب أنه يبقى جامدا على الحال الذي يكون عليه وقت وضعه. ولتجاوز هذا الوضع يلجأ المختصون في الميدان إلى وسيلة التفسير التي تمكنهم من جعل القانون يساير التطورات التي يعرفها الوسط الذي يطبق فيه، لكن هناك مجموعة من الضوابط التي تحد من هامش الحرية في التفسير، وبالخصوص في الميدان الجنائي، مما يجعل تدخل المشرع ضروريا للتقليص بين الهوة التي قد تفصل بين النص القانوني والواقع الذي يطبق فيه. وفي موضوع الإجهاض كان النص المتضمن في مجموعة القانون الجنائي الصادر سنة 1962 لا يعاقب عن الإجهاض إذا استوجبته ضرورة "إنقاذ" "حياة" "الأم" من الخطر (الفصل 453 ) واشترط لتفعيل ذلك أن يقوم به الطبيب أو الجراح علانية، وبعد إخطار السلطة الإدارية. لكن سرعان ما تبينت أوجه النقص في هذا النص فتدخل المشرع سنة 1967 لتعديله بعدم تقرير العقاب في حالة الإجهاض إذا استوجبته ضرورة "المحافظة" على "صحة" "الأم"، واشترط لتفعيل ذلك أن يقوم به الطبيب أو الجراح علانية، و أن يتم ذلك بإذن من "الزوج"... وبما أن الهدف من هذه الورقة ليس هو الدخول في تفاصيل الوضع القانوني لعدم العقاب عن الإجهاض سنة 1962 وما عرفه من تغيير سنة 1967 نكتفي بالإشارة إلى أن الإجهاض الذي قصده المشرع هو الذي يتعلق ب "الأم" وفي إطار "علاقة الزوجية"، ولذلك اشترط موافقة "الزوج". ورغم مرور حوالي 48 سنة فإن هذا الوضع القانوني لا يثير إشكالات كبيرة في الحالات التي كان يقصدها المشرع عند وضعه للنص. مرد المشكل اليوم هو تكاثر حالات الإجهاض التي تتم خارج إطار الزوجية، والتي غالبا ما تكون المرأة هي وحدها التي تتحمل فيها التبعات لتنصل من شاركها في الحمل لسبب أو لآخر (علاقة جنسية مقبولة من الطرفين خارج الزواج – نتيجة اغتصاب – نتيجة زنا المحارم...)، وهو ما يصطلح عليه ب "الإجهاض السري". 4 - "إجهاض سري" أم "إجهاض خارج الإطار القانوني" ؟ قد يرجع أصل اصطلاح "الإجهاض السري" المستعمل من طرف الجميع إلى التعبير الوارد في الفصل 453 من مجموعة القانون الجنائي الذي قرر فيه المشرع عدم العقاب متى أجري الإجهاض من طرف الطبيب أو الجراح "علانية". وهذا التعبير بصيغته العربية (علانية) يقابل تعبير "ouvertement" في صياغة نفس النص باللغة الفرنسية (وهي صياغة للإشارة تعطي معنى مغايرا إذا نحن حاولنا البحث عن ضدها، إذ أن لفظ "ouvertement " في اللغة الفرنسية لا يقابله لفظ "clandestinement" في حين أن لفظ "سري" في اللغة العربية أي "clandestinement" في اللغة الفرنسية أقرب للتعبير عن ضد لفظ "علني" ومن ثم اعتبار كل عملية إجهاض لا تتم "علانية" عملية سرية، ولا داعي للإشارة إلى أن السبب في هذا الاضطراب المصطلحي يرجع إلى أسلوب النقل المتبع من طرف "المشرع" المغربي وإلى كون النصوص القانونية توضع أولا باللغة الفرنسية وتتم ترجمتها للغة العربية، مع ما قد يرافق ذلك من اختلالات. وللتذكير فإنه وإلى يومنا هذا تطبق المحاكم المغربية مجرد الترجمة إلى العربية لمجموعة القانون الجنائي، اما النص الرسمي فهو باللغة الفرنسية). وتجدر الإشارة إلى أن "العلانية" التي اشترطها الفصل 453 تكون زائدة ولا معنى لها متى توفرت الشروط الأخرى (الحفاظ على صحة الأم، موافقة الزوج...) مع العلم أنه حتى في حالة توفر الشروط يكون الكتمان - لا نقول السرية - مرغوبا فيه، خصوصا من جانب المرأة المجهضة التي تكون العملية مفجعة لها في جميع الأحوال. وهناك سبب آخر يكمن وراء هذا الاستعمال المصطلحي، وهو أن حالات الإجهاض التي تتم خارج القانون تتم بشكل سري، يحاول الحفاظ كل طرف فيها على منفعته (المرأة المجهضة سعيا منها للحفاظ على سمعتها والطبيب أو غيره من مقدمي الخدمة سعيا منهم لتحقيق النفع المادي دون التعرض للعقاب – الحبس من سنة إلى 5 سنوات مع الغرامة في الحالات العادية أو السجن من 10 إلى 20 سنة في حالة موت المجهضة، وهي عقوبات ترتفع إلى الضعف في حالة الاعتياد بمقتضى الفصلين 449 و450 من مجموعة القانون الجنائي، بالنسبة للعقوبة الحبسية، ومن 20 إلى 30 سنة بالنسبة لعقوبة السجن، مع ما قد يرافق ذلك من الحرمان من واحد أو أكثر من بعض الحقوق والمنع من الإقامة). يظهر من خلال ما سبق أن لكل طرف في عملية الإجهاض خارج الإطار القانوني المصلحة الكبرى لإحاطة فعله بما يتأتى له من السرية، ومن هذه الزاوية فقط يمكن أن نتحدث عن "إجهاض سري". لكن إذا بحثنا في أسباب محاولة إحاطة عمليات الإجهاض في هذه الحالات بالسرية وجدنا أن السبب في ذلك هو مخالفتها للقانون، بل لكون القانون يعاقب عنها؛ ولهذا نقترح تسمية الأشياء بمسمياتها أي الإجهاض الذي يتم خارج القانون تيسيرا لمقاربة الموضوع بوصفه الجوهري الحقيقي، وليس من خلال الظروف التي يتم فيها وترافقه. 5 - تدابير لمعالجة النتائج أم لمعالجة الأسباب؟ لم يكن المغرب يعرف وإلى وقت قريب بعض المفاهيم كمفهوم "الأم العازبة" والكثير من ظواهر الاختلال التي تنم عن وجود أمراض اجتماعية أصبح من الصعب التحكم فيها، لدرجة أساءت كثيرا لسمعة المغرب. وما التعبير الذي استعمله أحد ممثلي دولة فرنسا في أعلى مستوياتها والنعت الذي وصف به المغرب، وما تبع ذلك من أزمة دبلوماسية لم تنكشف إلا منذ حين، لخير دليل على ذلك. وهناك الكثير من المغاربة الذين أصبحوا يخجلون من انتمائهم، نتيجة تصرفات البعض منهم. وفي مواجهة هذه الأوضاع نلاحظ أن الكثير من التدابير أصبحت تتخذ على مستوى السياسات العمومية، لكنها لا تكفي لكونها تركز على معالجة النتائج والتجليات وليس الأسباب. من المفيد أن تتكون جمعيات وأن تقام دور لرعاية الأطفال المتخلى عنهم والتكفل بالأمهات العازبات مثلا، لكن الأهم أن تعالج أسباب تلك الظواهر، وهو مشروع مجتمعي كبير يتطلب إنجازه الوقت والإمكانيات وحسن التدبير ومساهمة الجميع. ولهذا نعتقد أن مقاربة موضوع حالات الإجهاض الذي يتم خارج القانون يمكن أن تسير في أحد الاتجاهين : - إما أن تقتصر على معالجة النتائج وهي المقاربة الأسهل. إذ يكفي في هذه الحالة القيام بحملة تحسيسية، كما هو جار الآن، وإصدار قانون يرفع الحضر عن الإجهاض، كما ينادي بذلك البعض، على أساس مرتكزات يمكن بدون عناء أن نستخرجها من الدستور ومن آليات حقوق الإنسان... يفضي تبني هذه المقاربة إلى اعتبار أن الخلل يوجد في القانون وليس في المجتمع، ولكي يساير القانون الوضع الاجتماعي وجب التدخل على مستواه. فالقانون المغربي يحرم، بل يعاقب عن الحالات التي أصبح المجتمع يجهض فيها في سرية خشية العقاب، وحتى لا يستمر اللجوء للسرية علينا أن نزيل العقاب الذي يدفع إليها، ونسمح كل سنة، بالاعتماد على نفس الأرقام المقدمة، بإجهاض 219000 أو 292000 جنينا، مع ما يستلزم ذلك من رعاية طبية واجتماعية... هذا شيء ممكن، وهو نهج سارت فيه بعض الدول وأصبحت فيه عمليات الإجهاض أكثر بروزا من الناحية الإحصائية وتجهض فيها أعداد كبيرة. - وإما أن تسير في اتجاه معالجة الأسباب، بالموازاة مع المعالجة القانونية، وهو الطريق الأصعب الذي يجب أن تسخر لسلوكه الإمكانيات الضخمة ويحتكم فيه لمرجعية يمكن على أساسها تحديد الإطار الذي يباح فيه الإجهاض، ما دام الإطار الحالي أصبح متجاوزا. 6 - مسألة المرجعية أصبحت مسألة المرجعية في موضوع الإجهاض، كما في الكثير من المواضيع المرتبطة بحقوق الإنسان، من المسائل الشائكة التي ينطلق منها الكثير دون الجهر بذلك، بين من يقف معها ومن يقول بتجاوزها، ونقصد بذلك مرجعية الدين والأخلاق. وفي الميدان الجنائي وضع بعض الفلاسفة والمنظرين نظريات منذ زمن غير قصير منها التي تقول بضرورة تجريد القانون الجنائي من كل الاعتبارات المرتبطة بالدين والأخلاق، ومنها التي تقول بعكس ذلك. بالنسبة للنظرية الأولى، يجب أن يكون دور القانون الجنائي نفعيا، وأن لا يهتم إلا بالأفعال التي يكون من شأنها عرقلة العلاقات الاجتماعية، أما غير ذلك فلا دخل فيه للقانون الجنائي. ونعرف من تجارب الكثير من الدول ما آل إليه هذا التوجه من تأثير على مقتضيات القانون الجنائي وعلى المجتمع برمته. من تجليات ذلك تحرير الإجهاض وإزالة العقاب عن العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج والسماح باقتران المثليين مع بعضهم... والسماح بتكوين "أسر" في إطار مفهوم جديد ل "الزواج" (يعبر عن هذا في فرنسا ب "الزواج للجميع" "mariage pour tous"). ويوجد عندنا في المغرب توجه يسير في هذا الاتجاه. أما النظرية الثانية، فتدعو لمعاقبة حتى الأفعال التي لا تمس بالنظام الاجتماعي وهي تخلط بين القاعدة الجنائية والقاعدة الأخلاقية ؛ وبذلك يصبح كل خطإ أخلاقي خطأ جنائيا، مما يؤدي إلى الحد من الحريات الشخصية حسب وجهة نظر منتقديها. لكن يسجل لصالحها أن الناس يميلون أكثر للاحترام التلقائي للقوانين التي يكون لها سند ديني أو أخلاقي، بالمقارنة مع القوانين التي لا يكون لها ذلك السند. وتتسع دائرة تطابق القاعدة الجنائية مع دائرة القاعدة الأخلاقية حسب الأزمنة والأمكنة. ومن هذا المنطلق نلاحظ أن موضوع الإجهاض أدرج في مجموعة القانون الجنائي ضمن مقتضيات الباب الثامن المخصص للجنايات والجنح ضد نظام الأسرة والأخلاق العامة، مما يؤشر على أن تجريمه في القانون الجنائي جاء ارتكازا على اعتبارات لها ارتباط بالأسرة والأخلاق. وعلى أساس هذه الاعتبارات، وانطلاقا من المرجعية الدينية والأخلاقية، يميل الكثير من المغاربة إلى تحديد موقفهم من الإجهاض رافضين إباحته بدون ضوابط أو حدود. ويتضح هذا الموقف جليا من خلال استجواب بعضهم – كما بثت ذلك بعض قنوات الاتصال- إذ أنهم يوافقون على تعديل مقتضيات القانون لكن وفق ما يسمح به الإسلام، كل حسب معرفته بدينه. وهم يعتبرون من يقلدون الغرب في توجهاته في عداد من ينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم" إلى آخر الحديث. وعلى أساس ما سبق يمكن القول أن الاحتكام إلى مرجعية الدين والأخلاق في موضوع الإجهاض أمر لا محيد عنه، ومن ثم كانت تعليمات جلالة الملك لتحديد الجهات المتدخلة في صياغة مقترحات التعديل. 7 - الجهات المتدخلة ووسائل العمل تم تحديد هذه الجهات رسميا في وزارة الأوقاف ووزارة العدل والمجلس الوطني لحقوق الإنسان. لكن، نظرا لطبيعة الإجهاض، نعتقد أن هناك جهات أخرى يكون لمساهمتها دور مهم في الموضوع وهي وزارة الصحة ووزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن ووزارة التربية الوطنية والتكوين المهني. - الأولى، لأنها تكون هي المؤهلة للإفتاء في الجوانب العلمية والطبية بغرض تشخيص الظاهرة وتقديم المقترحات ذات الطابع الشمولي لمعالجتها، نظرا لأن مجرد التدخل على مستوى القانون لا يكون له كبير الأثر كما أسلفنا ذلك. - والثانية، لكونها الراعية لقطاعات حيوية من قبيل التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، ولا شك في أن للإجهاض الذي يتم خارج إطار القانون ارتباط بهذه المجالات، على مستوى التنشأة داخل الأسرة وعلى مستويات التكفل بالمرأة. كما أن هذه الوزارة، وعلى غرار وزارة الصحة، تكون هي المؤهلة أكثر للقيام بعملية تشخيص للظاهرة في مجالات اختصاصها، ولتقديم مقترحات الإجراءات ذات الطابع الشمولي كذلك. - والثالثة، نظرا للدور الأساسي الملقى على عاتقها كقطاع مكمل لدور الأسرة في التربية، بغرض المساهمة في صياغة مشروع مجتمعي قوامه التربية الحسنة بكل أنواعها. ومن بين وسائل العمل، نعتقد أنه يكون من المحبذ إنجاز دراسة تشترك في إنجازها كل هذه الوزارات، كل واحدة في مجال تخصصها، بهدف القيام بعملية التشخيص وتقديم مقترحات الإجراءات. ذلك أن ما يتم التقدم به من تحاليل ومقترحات، في غياب تلك الدراسة، سيكون من قبيل التخمين لا غير. وبما أن لظاهرة الإجهاض الذي يتم خارج القانون ارتباط بما يعرفه المجتمع المغربي من تفسخ أخلاقي يفسر بعض أسباب الحمل الغير مرغوب فيه (فساد – زنا المحارم...) فإن لوزارة الأوقاف دورها في المساهمة. 8 - مقترحات التدابير انسجاما مع تصورنا المعبر عنه نقترح معالجة موضوع الإجهاض على مستويين : أ - الأول وهو مستوى القانون الجنائي والقانون بصفة عامة، ونقترح، بالإضافة إلى ما تنص عليه مجموعة القانون الجنائي حاليا (أي الحفاظ على صحة الأم) : - إباحته في حالة الاغتصاب الثابت الذي لا يمكن الوصول أو التعرف على مرتكبه. أما في حالة معرفة المرتكب فنقترح التنصيص على تدابير تضمن حقوق الطفل والمرأة المغتصبة، مع ترك الخيار لهذه الأخيرة في التقرير. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ضحايا الأفعال الإجرامية كثيرا ما يتحملون بعض مسؤولية ما يتعرضون له، كما أثبتت ذلك بعض الدراسات في تخصص علم الضحايا صدرت إحداها تحت عنوان "هل إن الضحية مذنبة؟" (La victime est-elle coupable ?). نقترح أن تمكن المقتضيات التي تتم صياغتها من فرز حالات الاغتصاب الحقيقية من الحالات التي تتم فيها علاقة تراض ثم تعود الشريكة في العلاقة لاتهام شريكها بالاغتصاب لسبب أو لآخر. - إباحته في حالة زنا المحارم الثابت، وتشديد العقوبة على الطرفين، مع مراعاة ظروف المرأة أو الفتاة. - عدم إباحته لظروف اقتصادية كما في حالة من يتذرع بعدم القدرة على إعالة الأسرة وكذلك في حالة إظهار فحوصات ما قبل الولادة وجود تشوهات تلافيا للسقوط في فخ محاولة الانتقاء التي تؤدي إلى الإبقاء على من يعتبر "سليما" فقط، وهي مسألة تحكمها اعتبارات دينية وفلسفية، إذ أن لكل واحد الحق المبدئي في الوجود. لكن التدخل على مستوى القانون الجنائي لا يكفي، ولهذا وجب تحديد مجالات القانون الأخرى ذات الصلة بظاهرة الإجهاض، وغيرها من الظواهر السلبية، والعمل على ملائمتها، وهو عمل لا يقوم به الفرد بل جماعة من ذوي التخصصات المختلفة. ب - والثاني و هو مستوى المعالجة الشمولية في إطار برنامج تنموي اقتصادي واجتماعي وثقافي وتربوي وديني للنهوض بحقوق الأفراد والمجتمع تساهم فيه كل القطاعات ذات الصلة، لأن الإجهاض الذي يتم خارج المعايير المرجعية ما هو إلا نتيجة لتضافر مجموعة من العوامل التي يجب الحد من آثارها قدر الإمكان، من خلال تدابير تتخذ على مختلف الأصعدة. ومن أبرز هذه العوامل ضعف الوازع الديني والأخلاقي واختلال التنشأة الاجتماعية، إذ يجب العمل على تقوية هذه الجوانب في شخصية الفرد، لمساعدته على ضبط تصرفاته والتحكم فيها، حتى مع وجود العوامل الأخرى المسهلة. يوجد المجتمع المغربي اليوم في وضعية "انعدام المعايير" (état d'anomie) بمفهوميهما عند كل من دوركايم (Durkheim) ومرتون (Merton)، وما الإجهاض الذي يتم خارج الإطار القانوني الحالي إلا واحدا من تجليات هذه الوضعية. ونعتقد أنه سيكون من أثر اتخاذ التدابير الشمولية التي نقترحها المساهمة في معالجة الظواهر الاجتماعية السلبية الأخرى المرتبطة بعضها بالبعض. وبما أن برنامجا من هذا القبيل لا يعطي نتائجه إلا على المديين المتوسط والبعيد، فإنه يجب التعجيل باتخاذ إجراءات كفيلة باحتواء حالات الفتيات والنساء المقبلات على الإجهاض على مستويات الرعاية الطبية والاجتماعية، تمكن من معالجة كل حالة علة حدة، يوكل أمر تفعيلها لذوي الاختصاص وفق معايير وآليات يتم وضعها، و ذلك بالموازاة مع التعديلات القانونية. وتوجد الآن بعض بنيات الاستقبال التي يمكن توسيع اختصاصاتها وملائمة وسائل عملها، منها ما يتولى المجتمع المدني تدبيره كدور الرعاية والتكفل. * أستاذ بجامعة محمد الأول وجدة *عميد سابق لكلية الحقوق بوجدة