إذا كانت مقولة المجتمع المدني تنبني على التمايز والاستقلال عن المجتمع السياسي مؤسساتيا ووظيفيا. تمايز و استقلال من شأنه أن يشكل قطائع ابستمولوجية وإجرائية مع ممارسات وسلوكات برغماتية ضيقة كانت ولازالت تعشش في جسد المجتمع السياسي من وصولية وانتهازية حيث التهافت على المصالح الشخصية وشيوع المحسوبية و الزبونية والاشتغال بمنطق حربائي الغاية تبرر فيه الوسيلة الأمر الذي يكرس كل أشكال التسيب والاستهتار ويفتح الباب على مصراعيه لكل انتهازي ووصولي أن يدخل رحاب السياسة حاملا شعار التغيير ومحاربة الفساد متلبسا بلباس ديني أو قومي أو قبلي ليحقق طموحاته المكبوتة. إذ لا مجال أرحب و أفضل من مدخل السياسة لتحقيق المآرب وقطف المصالح بأسرع الطرق وأيسرها. لقد أضحت السياسة هوس الكثير من ضعاف القلوب والاستغلاليين والمتعطشين لتسلق السلم الاجتماعي ولو على حساب رقاب الناس المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة نظرا لما توفره من امتيازات وإغراءات لا تحتاج لأكثر من زرع الوهم و تجيير الواقع واستغلال بؤس الناس وفقرهم، وإذا كانت هذه هي صورة السياسي والتي لا تحتاج إلى بيان أو تفسير عن مجال بئيس يطبعه التكالب على المصالح الشخصية والسخرية والاستهانة بثقة الناس والضحك على الذقون، فماذا عن البديل الذي جاء لينصب نفسه رسولا أمينا وليحل محل السياسي، جاء ليعبر عن صوت الإنسان المقموع صوته والمكبوتة أحلامه، جاء ليعيد للإنسان إنسانيته كفرد مستقل بذاته ويحرره من أغلال الاستبداد والقهر، ثم أليست فكرة المجتمع المدني هي في أصلها انعتاق من سلطة القهر الاجتماعي ودعوة صريحة لتحقيق كرامة الإنسان من خلال تمتيعه بكافة حقوقه الأساسية وأولها تحقيق المساواة بجميع أشكالها سواء الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية، أليست فكرة المجتمع المدني في عمقها إلغاء لكل أشكال الوصاية على الإنسان وخاصة وصاية التقاليد المتحجرة الموروثة والأعراف التي تكرس الاستسلام للقدر والعبودية للسيد الذي بيده كل شيء. وما دام الحديث سيأخذنا بعيدا نظرا لتعدد الرؤى وزوايا النظر حول مقولة المجتمع المدني، أريد أن أشير إلى مجموعة من الشعارات التي طالما تغنت بها جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني كونها تمثل تطلعات المجتمع المدني المقهور وتشكل في مغرب اليوم المعادلة القوية لقوى المجتمع المتشبعة بقيم التضامن والتآزر والتكافل وأيضا تشكل الريادة في مجال التنمية البشرية حيث أصبح ركوب موجة التنمية البشرية الوسيلة الناجعة لتحقيق الثراء السريع والمضمون لما تجنيه هذه الأخيرة من ثروات طائلة من دعم هيئات وطنية ودولية، ولاشك أن العارف بأسرار المجتمع المدني بالمغرب يدرك بسهولة ودون أدنى تفكير أنه المجال المفضل اليوم أمام كل من عجز على تحقيق نزواته وأهواءه في الميدان السياسي، وبالتالي فمن الأكيد أن ما يطبع السياسة من انتهازية ووصولية قد استنسخته النخبة المتربعة على عرش جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني لتعيد تكرار نفس الأخلاقيات والسلوكيات التي ادعت أنها أتت لتجاوزها ومحاربتها بحيث لازالت عقلية السلطة والمخزنة والتسيير البيروقراطي البالي السمة الغالبة في التدبير و التأطير داخل هذه الجمعيات والمؤسسات بشكل يكذب اليافطات الرنانة التي ترفعها من ديمقراطية داخلية مزيفة ، وأيضا ما تشيعه من علاقات أفقية يحكمها منطق المشاركة الصورية، وعليه وحتى لا أذهب ثانية بعيدا ومن خلال معاينة بعض الجمعيات والمؤسسات التنموية بمختلف اهتماماتها ومجال تخصصاتها وأيضا من خلال معاينة مشاكل العاملين بداخلها وللضحايا الذين وقعوا في خيوطها تكتشف مدى زيف ادعاءات هذه الجمعيات والمؤسسات ووهم الشعارات التي ترفعها بحيث أن أول شيء يمكن الإشارة إليه هو غياب ضمانات للعاملين بها حيث يتم التعامل معهم أشبه بعبيد يفتقدون إلى أصواتهم ليعبروا بها عن مواقفهم وآرائهم وذلك في ظل عقود مجحفة يتم فسخها لأتفه الأسباب ودون إنذار أو تبرير، وهكذا إذا تضيع حقوق العاملين بها و هم أي العاملون محرك ودينامو هذه الجمعيات والمؤسسات وسر نجاحها وانتشارها لا المتربعين على الكراسي في المقرات المكيفة، وثاني شيء يمكن الإشارة إليه تعامل بعض المسيرين بهذه الجمعيات والمؤسسات التي نصبت نفسها في خدمة التنمية مع العاملين معها بعقلية استبدادية وقمعية حيث لا فرق بينهم وبين أي شرطي يمارس كبته السلطوي على الأخرين بسادية مرضية، بحيث تثير شفقتك وضع العاملين المساكين وهم يرتعشون ويرتعدون وكأنهم في جلسات استنطاق في مخفر الشرطة، الأمر الذي يفسر استمرار العقلية المخزنية في أشكالها البائدة في تصرفات وسلوكات بعض مسيري هذه المؤسسات، وثالث شيء يمكن كذلك الإشارة إليه ما يمكن أن أسميه بالعقلية الوقائية والتآمرية التي تميز سلوك بعض المسيرين بهذه الجمعيات والمؤسسات والمتمثلة في الإيقاع بالأخرين وإن أبانوا عن كفاءتهم وعن جدارتهم المهنية وذلك خوفا على امتيازاتهم وكراسيهم، وهكذا إذا كانت القيمة المضافة التي ادعت جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني أنها جاءت لتكريسها من ديمقراطية داخلية ومن مقاربات تشاركية هدفها الرقي بالإنسان لتمثل السلوكي المدني حيث جميع الناس أحرار و سواسية وأنهم يعملون لتطوير ذواتهم ووطنهم وليسوا أجراء وعبيد عند جمعيات البر و الإحسان مجرد كلام فارغ لم يعد يقنع أحدا. [email protected]