للوصول إلى دواوير قبيلة "أيت علي" بتراب جماعة "تابيا"، البالغ عددها 38 دوارا، يكفي ركوب إحدى سيارات النقل "السري" بمدينة هوارة، ففي محطة النقل تركن سيارات مهترئة، محاطة بسكان بدويين تظهر على قسمات وجوههم علامات البؤس والفقر. نساء في لباسهن التقليدي "أملحاف"، ورجال بجلابيبهم التقليدية، أو بعض المسافرين القادمين من مدن الدارالبيضاء والرباط لزيارة ذويهم، بيد أن أول عبارة يطلقها أصحاب السيارات بلكنة أمازيغية : "إسْ رَتْغليت سْتمزيرت" أي (هل ستشد الرحال إلى القرية؟). مسالك طرقية وعرة المسافة في اتجاه أيت علي تقارب الأربع ساعات، تتوزع بين طريق معبدة وصولا إلى سوق جماعة "لاثنين نتوفلعزت"، لتبدأ رحلة أخرى لمدة ساعتين في مسالك طرقية وعرة بين أشجار الأركان واللوز، التي تزخر بها المنطقة في منعرجات جبال الأطلس الصغير. قبل الوصول إلى "لاثنين نتوفلعزت"، تمر الرحلة عبر طريق يسميها سكان أيت علي ب" أغراس ن اسندالن" أي "طريق سندالة"، عبارة عن منعرجات طرقية تم الانتهاء من تعبيدها قبل سنوات، قلصت المسافة بين "لاثنين نتوفلعزت" وهوارة إلى ساعتين عوض الخمس ساعات، التي لاتزال ذكراها حية في ذاكرة سكان قبيلة أيت علي، حينما كانت هذه الطريق تشكل بالنسبة إليهم كابوسا وعبئا ثقيلا عندما يرغبون في زيارة أقاربهم أثناء فصل الصيف أو في إحدى الأعياد، إذ كانوا ملزمين بقضاء ست ساعات على الطريق، مع ما يرافق ذلك من مشقة ومعاناة السفر. في الطريق إلى سوق "لاثنين نتوفلعزت" توقف صاحب السيارة، لبضع لحظات، مخاطبا الركاب "كوزات ونا راد اسغ كرا" ) هل من أحد يريد أن يقتني شيئا ما)، فهذا السوق يعتبر بمثابة باحة استراحة جبلية للسكان لقضاء مآربهم واقتناء ما يلزمهم من سلع، قبل أن يواصلوا مسيرهم في اتجاه سوق جماعة "تابيا". كانت الساعة تشير إلى حوالي الحادية عشرة صباحا، حينما أمر صاحب سيارة النقل الركاب بالالتحاق بالسيارة، حيث لا تسمع وسط القرويين إلا أصوات تحمد الله على التساقطات المطرية التي عرفتها المنطقة مؤخرا، وتساؤل عن مستقبل منطقتهم في ظل استمرار عزلتها. في انتظار "أغراس".. بعد أن أعياهم الانتظار لسنوات، استبشر سكان أيت علي، قبل أشهر، خيرا بعد إعطاء انطلاقة أشغال الشطر الثاني للمسلك الطرقي الرابط بين جماعة "تابيا"، قيادة "أيت عبدالله"، دائرة "ايغرم" إقليمتارودانت و"أيت واسو" بإقليم اشتوكة أيت باها على طول 26.7 كلم وبتكلفة مالية قدرها 38.5 مليون درهم بعدما أعطيت في وقت سابق أشغال الشطر الأول الرابط بين أيت عبد الله وجماعة تابيا على طول 37 كلم بتكلفة مالية قدرها 40.5 مليون درهم. ففي العاشر من يونيو من العام الماضي، خرج سكان دواوير أيت علي عن بكرة أبيهم للاحتفال بما اعتبروه "فتحا"، بعد إعطاء أشغال انطلاق الطريق الرابطة بين جماعة "تابيا" و"أيت واسو"، وهي المبادرة التي تدخل في إطار برنامج التأهيل الترابي المدعوم من طرف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. "أوا غيلاد أتْعدل لوقت إغتينَّا ربي، أغراس غيلاد أديزري، راد يَوي مناوت توسيوين ياضنين غيد سْلكدام"، يقول أحد الشيوخ، ويُدعى دا بلعيد، وهو يتبادل أطراف الحديث في أحد المجالس، في إشارة للطريق التي من المنتظر أن تفك العزلة بحلول عام 2016 عن دواوير أيت علي. ويضيف قائلا، بنبرة لا تُخفي الفرحة والسرور بعد إعطاء أشغال انطلاق تعبيد الطريق، بعد أن كان هذا الأمر يعد حلما في مخيلة السكان: "مَداكْ إنَّان راد إزري أغراس منشك أسكاس أدكان ميدن.. تسوتين أدزرين أرغيلا حتى يا نا اس راد زرين أغراس" (من كان يظن أنه سيتم تعبيد الطريق لقبيلة أيت علي، فقد مرت أجيال ولم يكن أحد ينتظر أن يتم تعبيد هذه الطريق). رأي دَّا بلعيد يشاطره فيه أيضا جل القرويين هنا من مرتادي سوق "الجمعة نْ أيت علي"، حيث يجمعون على أن السبيل الوحيد لفك العزلة عن المنطقة هو تعبيد الطريق بين جماعة "تابيا"، و "أيت واسو"، الذي أعطيت أشغال انطلاقتها في يونيو المنصرم. وفي انتظار تعبيد المحاور الطرقية المؤدية لقبيلة أي علي، يظل هاجس السكان حاليا، هو إعادة فتح المستوصف الصحي الوحيد بتراب الجماعة، لاسيما وأن السنوات الأخيرة شهدت وفيات أطفال ونساء جراء لدغات الأفاعي، ولسعات العقارب، حيث يجد السكان أنفسهم ملزمين بالتنقل إما في اتجاه مدينة تارودانت، أو أيت باها، وما يرافق ذلك من مخاطر الوفاة في الطريق، كما حدث، الصيف الماضي، لإحدى النسوة بدوار "توريرت"، حينما لدغت أفعى، لترديها قتيلا. المستوصف الصحي في مهبّ الريح استبشر سكان دواوير قبيلة "أيت علي" خيرا، حينما شُيِّد مستوصف صحي بمحاذاة السوق المركزي، إذ اعتبر كمؤشر لفك العزلة عن المنطقة، بما أنه سيوفر خدمات استشفائية للسكان، من الأطفال والنساء الحوامل، اللواتي يقطعن كيلومترات طويلة في اتجاه مدينة تارودانت أو أيت باها، وما يرافق ذك من مخاطر. لكن وبعد مدة قصيرة تم إغلاق المستوصف الصحي لأسباب مجهولة حسب العديد من السكان. ففي الوقت الذي كانت هناك ممرضة وطبيب يعملان في المستوصف لإسعاف السكان، فوجئ الجميع بتنقيل الممرضة والطبيب إلى وجهة أخرى، ليصبح السكان مرة أخرى أمام واقع لا يرتفع. مرضى بدون مستوصف صحي. تحكي سيّدة من المنطقة عن هذه التجربة قائلة: "استبشرنا خيرا بمجيء الطبيب، واعتبرنا أن هناك من سيعتني بالسكان، لكن لا ندري لماذا تمَّ إغلاق المستوصف وتنقيل الطبيب والممرضة". المستوصف الصحي، الذي لا يتوفر على التجهيزات اللازمة، مازال موصدا لحد الساعة، وسيارة الإسعاف الوحيدة التي تتوفر عليها الجماعة، يقول السكان إنها تستغل في غير ما وضعت له. وبالرغم من بعض الأصوات التي تعلو بين الفينة والأخرى مطالبة بإعادة فتح المستوصف، يبدو صوت السكان كصرخة في واد سحيق. في إحدى مقاهي سوق "نْ الجمعة"، يجلس رجلٌ القرفصاء على عتبة باب مقهى، بلباس تقليدي رث وبملامح وجه لا تخفي معالم الفقر والفاقة، هو الآن منشغل بتهيئ كوب شاي رفقة أصدقاء من طينته، وبين الفينة والأخرى ينطلق في الحديث عن مشاكل المنطقة التي لاتنتهي. علي (اسم مستعار) ينحدر من دوار "أيت فاسك"، أب لسبعة أطفال، يقضي سحابة يومه متنقلا بين دواوير المنطقة للقيام ببعض الأشغال، تدر عليه مدخولا غير قار، بالكاد يكفيه لإعالة أسرته الصغيرة، يبدو من خلال حديثة مع أصدقائه أن له مع المستوصف الصحي حكاية خاصة. سكت علي هنيهة، قبل أن ينبس بعبارات توحي بأنه يطوي بين جناحيه سرا دفينا. فقبل سنوات عاش هذا الرجل تجربة مريرة جراء غياب المستوصف، فقد أصيبت ابنته حديثةِ الولادة في ليلة صيف حار بسُمّ لسعات عقرب قاتل، وظلت على حالها تزعق من لسعات ألمت بها لساعات، دون أن تجد من يمد إليها يد المساعدة، ليضطر علي إلى الاستعانة بأحد أصدقائه لنقلها لمستوصف جماعة "لاثنين نتوفلعزت"، في طريق غير معبدة، أملا في إنقاذ حياة الصغيرة، إلا أن القدر المحتوم، شاء أن تسلم الروح لبارئها، قبل أن تطأ أقدام أبيها وصديقه المستوصف، لتترك وفاة الطفلة في نفس الرجل وزوجته جرحا لم يندمل بعد. "كنت ناعس وأنا نسمع لبنت كتبكي، نط لقيت بلاصت في لسعاتها العقرب، كتبكي ملقيت مندير ليها، مشيت كنجري للدوار، لكن البنت توفات ليا"، يقول على أموح بدارجة مغربية ينطقها بلكنة أمازيغية، بحكم أنه كان مستقرا لمدة قصيرة بالدارالبيضاء، وعلامات الحزن تعاود الظهور على محياه من جديد، فتفاصيل ذلك اليوم المشؤوم لاتزال موشومة في ذاكرته. الفقر والتهميش يتحالفان على السكان علامات البؤس والحاجة تبدو جليّة على وجوه السكان هنا، كما هو حال إبراهيم، الذي يغني حاله عن سؤاله، رجل يقترب من الأربعين من عمره، وقد غزا الشيب مفرقيه، ينتعل "إدوكان" كما تسمى عند أهل المنطقة، وفي يده اليمنى كيس بلاستيكي يحوي بعض ما اقتناه من عند بقال السوق. يعيش إبراهيم رفقة زوجته بدوار "توريرت نبونيهي"، له طفلان أحدهما لا يفارقه، ويقطن معه بالبادية، أما الآخر فيعمل بمدينة الدارالبيضاء، وهو الذي يتكفل بإرسال مبلغ مالي كل شهر لوالده من أجل مساعدته على تكاليف الدهر. "لدي ابنٌ بمدينة الدارالبيضاء هو الذي يرسل لي بعض النقود لاقتناء ما يلزمنا". يقول إبراهيم باللغة الأمازيغية، ولا يخفي أن مصاريف المعيشة مكلفة بالبادية، وأن المبلغ الذي يتوصل به شهريا لا يكفيه، لاسيما وأن السكان يضطرون إلى اقتناء السلع أحيانا بثمن مضاعف، بسبب بعد المنطقة ووعورة مسالكها الطرقية، وفي ظل عوز سكان المنطقة، الذين يعيشون إما من خلال ما تدره عليهم أرباح بيع بعض المحاصيل الزراعية ك"أركان" و "اللوز"، أو ما يتوصلون به من ذويهم المستقرين بمدينتي الدارالبيضاء والرباط ومدن أخرى. غير بعيد عن سوق "ن الجمعة"، امرأة يوحي منظرها منذ البداية بأنها في الخمسين من عمرها، بلباسها التقليدي "تفكُّوت" ترعى قطيع غنم بالقرب من الوادي، ما إن تلمح غريبا عن القرية، إلا وتنزوي متوارية عن الأنظار، فمظاهر الحشمة والوقار حاضرة بقوة عند أهل قبيلة أيت علي. اسمها "فاظمة" أم لثلاثة أطفال، زوجها يستقر بمدينة الدارالبيضاء، يعمل هناك لإعالة أسرته، وكل شهر يُرسل بعض النقود لها ولأطفالها، أو يتكفل أحد أقارب الزوجة ببيع قطعان الغنم في أحد الأعياد، وتسليم المبلغ المحصَّل عليه للزوجة. "ها نحن نكابد الحياة، نحمد الله ونشكره"، تقول فاظمة بلكنتها الأمازيغية التي توحي بالحرمان وقلة ذات اليد، لكن يبدو أن المرأة تستنكف عن أي طلب أو استجداء، فقد كانت واثقة من نفسها، ولا يظهر عليها أثر للضعف أو الاستسلام. وضع هذه المرأة لا يختلف عن أوضاع نساء أخريات بمختلف دواوير "أيت علي"، حتى الرجال هنا وضعهم ليس بأفضل من حال النساء، فالكل يتفق على أنهم والفقر رفقاء في دروب الحياة الصعبة، في منطقة تنتمي إلى "المغرب غير النافع". الحلم بتعليم أفضل قصة أطفال قبيلة "أيت علي" مع التمدرس لها تفاصيل تدحض شعارات "مدرسة النجاح" و"بيداغوجيا الإدماج"، التي يتبجح بها المسؤولون. فالمنطقة التي تضم مجموعتين مدرسيتين رئيسيتين: مدرسة الجولان، التي تشمل فرعيات: تابيا، أيت بويسف، أكرد نتغزوت، تفريت، أيت ويدرن، أزغار، إضافة إلى مجموعة مدارس تيسلان، التي تضم بدروها فرعيات "اموساول"، أيت فاسك، اميفر، تعاني من غياب التجهيزات الأساسية للتمدرس، ونقصا كبيرا في أطر التدريس. دقت الساعة العاشرة صباحا، موعد استراحة تلاميذ فرعية "تابيا"، أطفال في مقتبل العمر يتوزعون بين أقسام الأول والسادس ابتدائي، لكن يجمعهم الفصل الدراسي ذاته. المعلم هنا لا يكف عن تنبيه بعضهم إلى الالتزام بالهدوء وعدم إثارة الضجيج. سعيد تلميذ بقسم الرابع ابتدائي، ينحدر من دوار "توريرت"، يحلم بأن يصبح طبيبا في المستقبل يرقى بوضع العائلة إلى درجة اليسر، ويكون مبعث فخر للأسرة، لذلك فوالده يعض على صبره بالنواجذ في سبيل ابنه، ويمني النفس بأن يصبح سعيد ساعده الأيمن مستقبلا. "قال لي أبي ركِّز في دراستك لتصبح ذا شأن في المستقبل"، يقول أحد التلاميذ. فمعظم الآباء هنا لا يرغبون في أن يسلك أطفالهم النهج نفسه الذي سلكوه هم، حيث يرون فيهم الأمل، والمستقبل، الذي يصطدم بضعف التجهيزات المدرسية بالفرعيات المدرسية بأيت علي، التي يعاني معظمها من غياب أطر تدريس قارة، ولجن التفتيش. لذلك فالآباء لا يكفُّون عن المطالبة بمراقبة هيئآت التدريس وتوفير الدعم لأبنائهم، علاوة على أن معظم التلاميذ يضطرون إلى الانقطاع عن الدراسة عند المستوى السادس ابتدائي بسبب عدم توفر المنطقة على إعدادية، أما من تيسرت له الظروف، فيشد الرحال صوب إعدادية "أيت عبد الله" لإتمام تعليمه الإعدادي. أما التلميذ سعيد وزملاؤه فيستعدون للدخول للفصل مجددا بعد نهاية فترة الاستراحة الصباحية، وكلهم أمل في تلقي تعليم يمكنهم من الارتقاء بمستوى أسرهم، لعل المستقبل يكون مشرقا.