عاد رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، ليشغل الرأي العام بتصريحاته عبر مجموعة من الخرجات التي قام بها مؤخرًا، إذ تحوّل الرجل إلى الوجه الأبرز في مجموعة من الجرائد المغربية خلال الأسبوع الماضي حتى والبرلمان المغربي متوقف بعد انقضاء الدورة الخريفية، فبنكيران يخلق الحديث أينما حلّ وارتحل، وليس عليه انتظار الجلسات البرلمانية كي "يتبورد" كما يحب أن يقول. تأثير بنكيران في الرأي العام لا يعود فقط إلى وظيفته كالرجل الثاني القوي في المملكة، ولكن كذلك إلى طريقته الخاصة في الكلام وفي تصريحاته المباشرة البعيدة عن الحديث الديبلوماسي الموزون التي دأب عليه الوزراء والمباشرون للسلطة التنفيذية، فبنكيران يتحدث باللسان ذاته الذي يستخدمه عامة الشعب، وبعيدًا عن المعارضين والمتعاطفين، فإن الطريقة المباشرة لبنكيران جعلته أحد صانعي الحدث في الإعلام على الدوام. ولعلّ المقارنة بين عبد الإله بنكيران، وعباس الفاسي، الوزير الأول السابق، فيما يخصّ تصريحاتهما ولغتهما المستخدمة قد لا تصح، فالخرجات الإعلامية التي قام بها الأمين العام السابق لحزب الاستقلال وهو يقود الحكومة معدودة على رؤوس الأصابع، وكان الصحافيون يعانون إذا أرادوا تضمين موادهم تصريحات لهذا الرجل، إذ كان صامتًا على الدوام، وحتى عندما يتحدث، لا يجد الرأي العام في كلامه ما يخلق ضجة كما يفعل بنكيران اليوم، بل إن عباس الفاسي، لم يكن يرّد حتى على موجات المطالب التي نادت أكثر من مرة برحيله. استطلاعات توضّح شعبية بنكيران وحكومته رغم الظروف الصعبة التي عاشها بنكيران في الآونة الأخيرة، بدءًا بمباشرة مركزيات نقابية لإضراب عام ضد سياساته، مرورًا بوفاة رفيق دربه عبد الله بها، وانتهاءً بخروج الحركات النسائية في مظاهرة تندّد ب"رجعيته"، إلّا أن ذلك لم يؤثر على شعبية الرجل في عدد من استطلاعات الرأي التي أنجزتها عدة مؤسسات مغربية، بل ارتقت شعبيته بشكل ابتهج له الرجل في الكثير من المناسبات. فآخر استطلاعات الرأي التي أجراها معهد طارق بن زياد، بيّن كيف أن ثقة المغاربة في الحكومة ارتفعت إلى 58%، بزيادة عن نسبة شهر يوليوز 2014 التي استقرت في 48%. كما أشار استطلاع رأي أنجزته مؤسسة دولية متخصّصة لحساب مجلة "تيل كيل" نهاية العام الماضي، إلى رضا المغاربة عن رئيس الحكومة بنسبة 49%، بينما عبّرت نسبة 19% عن عدم رضاها، كما عبّر من المستجوبين 54% عن ثقتهم فيه، مقابل 24% للذين لا يثقون. وفي استطلاع رأي أجرته هسبريس بداية هذا العام، أشارت النتائج إلى أن قرابة 46% من المصوّتين عبّروا عن رضاهم على أداء الحكومة، بينما وصف 29% هذا الأداء بالضعيف، إلا أن استطلاعًا آخر أجرته هسبريس شهر نونبر 2014، حول تحرّكات الحكومة، لفت إلى أنّ حوالي 65% من المصوّتين لا يثقون في أخبار بنكيران السارة. كيف يؤثر خطاب بنكيران في شعبية حكومته؟ يشير الأستاذ إدريس لكريني، إلى أن خطاب بنكيران يعطي مردودية سياسية وحزبية إيجابية تجعل شعبيته وشعبية الحكومة في تصاعد، إذ يعتمد بنكيران على ترويج سياسات الحكومة إلى أبعد مدى للرّد على خصومه عكس التجارب الحكومية السابقة، ومنها حكومة عبد الرحمن اليوسفي التي لم تتح لها إمكانية ترويج الكثير من إنجازاتها بالشكل ذاته، ممّا أدى ب"الاتحاد الاشتراكي" إلى دفع فاتورة غالية أداها من شعبيته. ويمضي لكريني الذي يدرّس الحياة السياسية والعلاقات الدولية في جامعة القاضي عيّاض بمراكش، في القول إنّ خطاب بنكيران يندرج في إطار سياق سياسي مختلف عمّا سبق، وفي سياق إطار دستوري أتاح لرئيس الحكومة الكثير من الخيارات، عكس سابقيه الذين كانوا يضطلعون بدور التنسيق بين مكوّنات الحكومة فقط. وأضاف لكريني في تصريحات لهسبريس أن بنكيران لا يختلف كثيرًا عن مجموعة من الزعماء السياسيين الذين ظهروا في مناطق كثيرة في العالم ويمتلكون خطابة سياسية وقدرة على الإقناع وعلى تركيب الأفكار وطرحها بشكل واضح، زيادة على تميّز خطاب بنكيران بالانفعال والبساطة في طرح الأفكار، بل وحتى الاعتراف بالأخطاء، ممّا أدى إلى تزايد شعبيته. قرارات غير شعبية يوازيها ارتفاع في شعبية بنكيران قرارات كثيرة تلك التي اتخذتها حكومة بنكيران ولم ترضِ فئات عريضة من المواطنين، آخرها الزيادة في أسعار البنزين بعد أن أكدت الحكومة سابقًا استمرارها في عملية سحب الدعم تدريجيًا عن أسعار المحروقات. ومن هذه القرارات كذلك زيادات في أسعار بعض المواد الغذائية، زيادة في أسعار استهلاك الكهرباء، مرسوم لرفع سن التقاعد إلى 65 سنة، البحث عن صيغة لرفع الدعم عن السكر وغاز البوطان. إذن كيف يحدث هذا التناقض بين سياسات غير شعبية وارتفاع في شعبية بنكيران؟ يجيب لكريني بأن ذلك ليس تناقضًا، بل قدرة من بنكيران على إقناع فئات عريضة من الشعب بحجم الإشكالات التي تواجهها الحكومة، واستغلاله لصفاء سيرة حزبه من أجل الرّد الآني على الخصوم التي ينتقدون قرارات الحكومة، إذ يعتمد بنكيران على المواجهة من جهة، ومن جهة أخرى يبيّن للمواطنين أنه يحترم آراءهم كما فعل عندما أعلن عن تأجيل مرسوم سكن رجال السلطة، بعد موجة الاستنكار التي عبّر عنها المغاربة. غير أن ارتفاع شعبية بنكيران لا يصنعه هو وحده، بل يساهم فيه كذلك قصور المعارضة البرلمانية وعدم قدرتها على إصدار مواقف واضحة ضد هذه القرارات أو عجزها عن تقديم بدائل للمشاريع الحكومية، يقول إدريس لكريني الذي يستطرد بأن ضعف المعارضة لا يخدم إجمالًا الحكومة ما دامت "قوة الحكومة في قوة المعارضة". هل يعّد بنكيران ورقة صالحة للدولة في هذا الظرف؟ تحدث بنكيران في حواره الأخير مع إذاعة ميد راديو أن من "حسناته" أن أوقف الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب، إذ عادت الطمأنينة إلى الشارع غداة تعيينه رئيسًا للحكومة. وبالعودة إلى تاريخ حركة 20 فبراير، ظهر فعلًا أنها تراجعت كثيرًا بعد انتخابات 25 نونبر 2011، إلّا أن ذلك قد لا يعود بالضرورة إلى وصول حزب المصباح إلى رئاسة الحكومة، بل هناك أسباب أخرى، منها انسحاب العدل والإحسان من الحركة، والمشاكل البنيوية التي ظهرت في هذه الأخيرة بعد قضائها عدة أشهر في الاحتجاج بالشوارع المغربية. طبيعة تواصل بنكيران مع المواطنين شكّلت إحدى أبرز معالم التغيير الذي عرفه المغرب منذ الحراك الشعبي، فالرجل يمتاز بقدرة قويّة على توظيف كلمات من المعيش اليومي للمغاربة في الرّد على خصومه حتى وإن ابتعد أحيانًا كثيرة عن ما يجب أن يمتاز به رئيس الحكومة من تحفظ، وقد أبرز المحلل السياسي منار السليمي، في ندوة سابقة، كيف أن "بروفايل" بنكيران يعدّ الأصلح لقيادة الحكومة في هذه المرحلة، وذلك راجع لطبيعته في التواصل التي تركّز على الطبقات الشعبية وليس على المؤسسات السياسية. غير أن صعود الإسلاميين في المغرب خلال هذه المرحلة لم يكن فجائيًا كما وقع في تونس أو مصر، بل كان مبرّرًا، نظرًا لقضاء حزب العدالة والتنمية مدة طويلة داخل المعارضة ولاستئناسه بالعمل السياسي، يقول لكريني الذي يستدرك القول إن "العدالة والتنمية" قدّم خدمة للدولة في مرحلة حسّاسة، جنبّها بها تفادي صدمات كان من الممكن حدوثها، خاصة وأن هذا الحزب يقتسم بعض السمات مع مطالب الشارع ومن جهة أخرى لا يتعارض مع ثوابت النظام القائم، فقد نادى بمحاربة الفساد والاستبداد، وفي الوقت نفسه يؤكد على ولائه لثوابت المملكة، خاصة المؤسسة الملكية التي يشدّد بنكيران بين كل وقت وحين على عدم صداميته معها، يردف لكريني. إجمالًا، تتعدّد الانتقادات التي ترمي بنكيران ب"الشعبوية" وبالرجل الذي يحاول العزف على أوتار عواطف المواطنين كي يجلب تعاطفهم ومساندتهم لحكومته رغم سياساتها "غير الناجعة"، وتتكرّر في الآن ذاته معالم الإشادة بخطابه الذي أعاد المغاربة إلى تتبع الجلسات البرلمانية عندما يحضر فيها مستخدمًا آليته الثقيلة لضرب خصومه وتبرير سياساته، لكن في كل الأحوال، تبقى عفوية وبساطة وعمق خطابات رئيس الحكومة، ظاهرة سياسية بسطت معالم مغرب ما بعد دستور 2011، وفتحت المجال واسعا لسؤال: هل يؤسس بنكيران لثقافة جديدة في خطابات رؤساء الحكومات المغربية القادمة؟