تدّعي الإصلاحات الجديدة التي جاءت بها وزارة التربية الوطنية ، و خاصة مع مقاربة الكفايات و بيداغوجيا الإدماج أنها تستحضر جانب القيم و المواقف و السلوكات بقوة عكس ما كان عليه الحال سابقا ، غير أن الذي يقف على الواقع العملي لمدارسنا لا يجد لذلك أيّ أثر ، بحيث إنها تستمر في تكريس الواقع السابق على دعوى الإصلاح ، و يبقى التركيز على المعارف الجافة هو الأصل . أما القاعدة الأصيلة عندنا التي تقول بأنه لا خير في علم بلا عمل فلا نجد لها في واقع تعليمنا أية رائحة ، نقول هذا و نحن متأكدون بحكم ممارستنا للعمل التربوي أن مدارسنا لا تعمل إلا على شحن أذهان التلاميذ بركام من المعارف و إمدادهم بعدد من المهارات ؛ أما ما يتعلق بجانب القيم فلا يعدو أن يكون نسخة مكرورة لجانب المعارف بحيث إنه لا يجد لها مكانا غير ورقة الامتحان . كيف ذلك و نحن ما نزال في أجواء الميثاق الوطني للتربية و التكوين و البرنامج الاستعجالي و آخر صيحات الإصلاح التربوي و الخبراء الدوليين المستنجد بهم و الاستثمارات الضخمة المرصودة و الخطابات المطَمْئنة الواعدة بغد أفضل ؟ !.. للأسف هذا هو واقع المدرسة المغربية الذي نشهد به ؛ و هو واقع يشكو من ثغرة عظيمة لا نفهم إلى حد الساعة كيف تُتجاهل و تهمل رغم أهميتها الاستراتيجية على مستقبل البلاد . هذه الثغرة التي ننبه إليها هي : غياب التربية السلوكية العملية التي تبني في التلاميذ العادات الإيجابية التي لن يستقيم حال البلاد إلا بها ، من قبيل : احترام القانون و الانضباط للأنظمة ، و النظام ، و تحمل المسؤولية ، و احترام الوقت ، و النزاهة ..، و غيرها مما ينتج للمجتمع مواطنا صالحا . إن المدرسة من إحدى زوايا النظر مجسم مصغر للدولة ، تتوفر فيها كل مقوماتها : مجال و سلطة و شعب ( مدرسة و إدارة و تلاميذ ) . بهذا فإن المدرسة تُعِد للدولة مشاريع مواطنين ينتظر أن يكونوا مواطنين صالحين . فما هي يا ترى العلاقة القائمة داخل هذا الإطار بين هؤلاء الأطراف الثلاثة ( فضاء المدرسة و الإدارة مع هيئة التدريس و التلاميذ ) ؟ و ما هي نوعية المواطنين الذين تخرجهم مدارسنا ؟ و ما هو البديل لسد الثغرة ؟ تنطلق إجاباتنا عن هذه الأسئلة من خلال ملاحظتنا لواقع المدرسة المغربية التي نحن طرف فيها و من خلال ما يزكيه واقع بلدنا الحالي الذي هو في جزء منه ثمرة للمدرسة المغربية ، ثم نعرض لمقترح نأمل أن يكون موفقا . أولا : منطلقات : ينطلق موضوعنا هذا من المبادئ التالية : المدرسة مؤسسة تربوية رسمية للتنشئة الاجتماعية يعول عليها المجتمع لإنتاج مواطنين صالحين ؛ و إنّ ما تضعه الدول من مخططات لمشاريع مجتمعية لا بد أن تكون المدرسة في صلبه من خلال ما تحدده من مخرجات . و إن كان للأسرة و غيرها من مؤسسات التنشئة الاجتماعية من قوة في التأسيس لسلوك الإنسان و بنائه فإن المدرسة تستطيع إلى حد ما تصحيحه و إعادة بنائه من جديد بما يتوافق مع طموحات المجتمع و بما يخدم مصلحة الفرد و الجماعة معا ، و يمكن بالمدرسة على المدى البعيد إعادة تشكيل المجتمع برمته . بهذا فإن مدرسة اليوم إنما هي صورة مصغرة لمجتمع الغد . المدرسة تربي مرتاديها على ما تعودهم عليه من سلوكات عن قصد أو غير قصد ، و التلميذ يعيد إنتاج كل ذلك و ينقله إلى المجتمع في الحال و في المستقبل . السلوكات تُتعلم و تكتسب ، و من العبث حصرها بالوراثة فنسم مثلا المغاربة ( وراثة ) بسلوكات معينة و اليابانيين ( وراثة ) بسلوكات معينة و أنه لا سبيل للتغيير ..؛ بل الأكيد هو أنّ ما يمكن تعلمه و اكتسابه يمكن تغييره و تعديله . ثانيا : مكونات الدولة المدرسة ، أية علاقة ؟ من السهل على كل زائر للمدرسة المغربية أن يلاحظ حالة الإهمال التي يعانيها فضاؤها في حديقتها ، و في ساحتها ، و في مرافقها الصحية ، و في أقسامها ..، و في كل جنباتها ؛ بحيث إن قاعدة التخريب و الإتلاف يمكن أن نقول أنها هي السائدة ... فنخلص في الأخير إلى أن فضاء المدرسة ليست له أية حرمة في أنفس الذين يستفيدون منه . و إذا كان من السهل هنا توجيه التهمة في ما يصيب المدرسة من أضرار إلى التلاميذ ، فإن هذا لا يعفي الإدارة و هيئة التدريس نفسها من تلك التهمة ، حيث نجد أن الجميع يستخف بذلك المرفق و لا يراعي له أية حرمة إلا فيمن نذر ، و تبقى تلك الأقلية الناذرة قاصرة عن تقويم أي اعوجاج في ظل أغلبية تكرس الوضع القائم . كما أنه من السهل كذلك أن يلاحظ أي زائر للمدرسة إغراق الإدارة في دورها الإداري المحض مقابل تجاهل دورها التربوي ؛ بحيث إن المدير منشغل في وصْل مدرسته بالمصالح المركزية و الإقليمية ، و إرسال تقارير و تقديم خدمات إدارية أخرى ..، و الحارس العام منشغل بالملفات و اللوائح و الشواهد و أوراق دخول المتغيبين و المتأخرين و التقارير اليومية ... كما يلاحظ إغراق المعلمين في عملهم التعليمي ( في أحسن الأحوال ) مقابل تجاهل عملهم التربوي ؛ بحيث أن المعلم منشغل بإنهاء المقرر الدراسي بأي ثمن و شحن أذهان التلاميذ ... ثم إن كل هؤلاء لا يستحضرون الجانب القيمي السلوكي في عملهم ، و يبقى الهاجس الأول لهم هو الجانب الإداري المحض أو التعليمي المحض . كما أنه من السهل كذلك أن يلاحظ أي زائر للمدرسة على بوابتها أو في ساحتها الانحطاط الأخلاقي و السلوكي للتلاميذ ، و يمكن أن نستشف ذلك من خلال ملاحظة الهندام ، و اللغة و ما تكشف عنه من قناعات و اهتمامات ، و طبيعة العلاقات المنسوجة بفضاء المدرسة و بهيأتي الإدارة و التدريس و بالزملاء ... و نضيف ملاحظة أساسية هنا ، و هي أن المظاهر المشار إليها أعلاه تتفاقم حدتها كلما ارتقينا من مستوى دراسي إلى آخر ، بحيث يمكن القول أنها ظواهر خافتة في التعليم الابتدائي ، و شديدة بالتعليمين الإعدادي و الثانوي ... و نفس هذه المشاهد يعاد إنتاجها في المجتمع من خلال ما تعززه المدرسة . ثالثا : مواطنو المستقبل ، أية حصيلة ؟ نجزم فيما يلي من خلال ملاحظاتنا بالحصيلة التالية ، و هي حصيلة نستخلصها من خلال القيم و السلوكات التي تعمل مدرستنا عمليا على تربيتها في التلاميذ : 1 المدرسة المغربية تعزز عدم احترام القانون : هذا ما يتضح من خلال المقارنة بين الأنظمة الداخلية للمدراس و سلوكات مواطني المدرسة ، فلا هيئة التدريس تحترم تلك الأنظمة ، و لا التلاميذ يحترمونها . النظام الداخلي للمدرسة نص قانوني يمكن أن نشبهه بدستور الدولة ، يحدد مجموعة من الحقوق و الواجبات ذات الصبغة التنظيمية ... غير أن الملاحظة تكشف أن لا أحد يحترم تلك النظم ، و أن أول من يخرقها هم القائمون عليها ، و على ذلك يتعود التلاميذ طيلة دراستهم : غياب الحزم و الصرامة ، خفة هيبة الإدارة في النفوس ، التحاق التلاميذ بالمدرسة بعد أسابيع من التاريخ القانوني ، و انصرافهم عنها قبل أسابيع من التاريخ القانوني ، عدم احترام مواعيد الدخول من طرف الجميع ، التجمعات الجانبية التي لا يحلو للبعض عقدها إلا في وقت العمل على حساب الحصص الدراسية ... و كل هذا أمام أنظار الجميع دون أن يحرك أحد ساكنا ، و كأنها إشارة ضمنية إلى أن هذا هو الوضع الطبيعي و العادي (1). 2 المدرسة المغربية تعزز الفوضى : ففي علاقة بالقانون و التنظيم كذلك ، يظهر أن المدرسة تربي في نفوس التلاميذ منطق الفوضى ، و يمكن ملاحظة هذا بسهولة في أوقات الدخول و الخروج و أوقات الاستراحة و في الفصول و الساحة ...: دخول و خروج عشوائيان ، لا صفوف بالمرة ، فوضى في الألبسة ، فضاءات مخربة و غير منظمة ، غياب النظافة ... كل هذا أمام استسلام بغيض من طرف أطر المدرسة . 3 المدرسة تعزز الغش و الاتكالية : فالتلميذ الذي ينتقل من مستوى إلى آخر بأقل من معدل الاستحقاق ( بدعوى إكراهات الخريطة المدرسية ) ، أو الذي يمارس الغش و بتشجيع من هيئة التدريس نفسها (2) ..، هذا التلميذ نزرع فيه بذور الغش و الاتكالية ، و نُعدُّه لمجتمعه حِمْلا ثقيلا ينتظر أن يُحمل لا أن يَحمل ، ينتظر من يتحمل عنه مسؤولياته ... 4 المدرسة تعزز الانحراف : فالمدرسة اليوم أصبحت في أحيان كثيرة ، و خاصة في مستويات الإعدادي و الثانوي ، أوكارا و تجمعات للكثير من المنحرفين ، و على يد هؤلاء يتشكل منحرفون آخرون و هكذا دواليك : كالعلاقات العاطفية و الجنسية المحرمة الشائعة بين الجنسين ، و ترويج مختلف أشكال المخدرات ، و ترويج مختلف أشكال السلوكات الشاذة و الأفكار المنحرفة التي تشكل خطرا شديدا على الأمن الروحي للمجتمع ... و الخطير في الأمر هنا أن ذلك يتم أحيانا تحت إشراف عصابات إجرامية منظمة وجدت الفراغ الذي تسلك من خلاله للعبث بمستقبل البلاد ..، مقابل صمت رهيب من طرف السلطات و استسلام مخجل من طرف أطر المدرسة . 5 المدرسة محضن لتفريخ الفساد : و هذه هي خلاصة حصيلة مدرستنا المغربية ، إنها بالفعل وكر لإنتاج كل فاسد من الأخلاق و السلوكات ، و بالتالي فإن الفساد الذي يستشري في مجتمعنا ما هو في جزء منه إلا حصيلة للمدرسة . ثم نعيد نفس الملاحظة السابقة ، و هي أن السلوكات المشار إليها أعلاه ( و غيرها مما قد يفوتنا ذكره ) تتفاقم حدتها كلما ارتقينا من مستوى دراسي إلى آخر ، بحيث يمكن القول أنها ظواهر خافتة في التعليم الابتدائي ، و شديدة بالتعليمين الإعدادي و الثانوي ؛ و الخطير في هذا الأمر أن يتمثل فيها التلاميذ سمات النضج و الاعتبار (3). ... و هكذا نخلص إلى مجتمع من سماته الأساسية : انتشار الفساد . و هذا هو واقع المغرب حاليا ، و باعتراف رسمي ، و سيظل كذلك ما لم تسد الثغرة العظيمة التي تعتور نظامه التربوي . و إذا كانت هذه السلوكات المتعلَّمة قابلة للتغيير بتصحيح الواقع الذي أفرزها فإن البديل الذي نقترحه هو أن تكون التربية على القيم التي نصبو إليها تربية عملية أكثر مما هي نظرية معرفية . رابعا : التربية العملية على القيم و السلوكات الإيجابية هي الحل : نرى بأن سد هذه الثغرة العظيمة التي يعانيها نظامنا التربوي و تصحيح هذا الانحراف لن يكون إلا بإتباع تربية سلوكية عملية داخل مدارسنا تنقل التربية على القيم من مجرد مواقف ( أو بالأحرى معارف ) مهما كانت درجة اقتناع التلميذ بها إلى عادات يمارسها بشكل يومي دون أي تكلف أو تصنع ، و يجب أن تكون المدرسة نفسها هي محضن تلك العادات . و نقترح لأجل هذا : وضع عُدة من المراسيم الشكلية التي تنظم جميع التحركات التي تتم بالمدرسة : مراسيم للدخول ، و مراسيم للخروج ، و نظام الساحة ، و مراسيم للفصول . إلخ ... و يجب أن يكون الجميع ( بما فيهم أطر الإدارة و التدريس ) مشاركين في تلك المراسيم ، بحيث يحس التلميذ أن ما يمارسه واجب جماعي يخضع له الجميع كبيرا و صغيرا ، و لا يتعالى على التزامه أي أحد ، و سيكون لمشاركة هؤلاء "الكبار " في تلك المراسيم على قناعات التلاميذ ثم عاداتهم أثر إيجابي عظيم . على هذا الأساس يجب أن تكون تلك المراسيم موضوعة على مستوى رسمي ، و موحدة على المستوى الوطني ، و أن يلزم بها الجميع ، و أن تدخل عمليا ( نؤكد على عمليا ) في تكوين أساتذة جميع الأسلاك الدراسية ... هذا الأمر يميل إلى أن يكون على شاكلة النظام العسكري ، و إنه لا عيب في ذلك ما دام أن النظام هو تعبير حضاري راقي جدا بفضله استطاعت أمم أن تنهض من تحت الركام و الرماد و تعيد بناء نفسها بشكل أذهل العالم (4). تكليف التلاميذ بخدمة فضاء المدرسة من خلال القيام بأنشطة منتظمة كتنظيف الأقسام ، و العمل في الحديقة ... و يكون ذلك بمعية العاملين بالمؤسسة بحيث يقدم الأساتذة أنفسهم المثال و القدوة الحسنة للتلميذ في تلك الخدمة . وضع عُدة من العقوبات التي نسعى من ورائها إلى أن يتحمل التلاميذ مسؤوليات أفعالهم ، لكن مع الحذر من أن يتحول مفهوم العقاب إلى عنف و انتقام ؛ لهذا وجب التفكير في طرق عقاب ذكية تصحح سلوكات التلاميذ دون أن تترك في أنفسهم آثارا سلبية . التركيز في هذه العملية ( ابتداء و انتهاء ) على أن يكون العاملون بالمؤسسة أنموذجا فيما نطالب به التلاميذ ، و نركز على هذه النقطة بالأساس لكي لا يتسلل إلى نفس التلميذ أن ما هو ملزم به خاص بالصغار فقط ، و أن الكبار لا يعنيهم من ذلك شيء ، و أن النضج يقترن بتجاوز تلك الالتزامات و التعالي عليها ... لهذا ، فكون أطر المؤسسة نماذج حقيقية يعاين فيها التلميذ ما هو مطالب به هو المحور الأساسي لنجاح العملية كلها و سد الثغرة التي أشرنا إليها . خاتمة : لقد حاولنا من خلال هذه الورقة أن نتلمس بعض الجوانب من الثغرة التي أشرنا إليها ، ثم قدمنا خطوطا عريضة لمقترح نأمل في أن يسد تلك الثغرة ؛ و إن أول نرجوه من خلال موضوعنا هذا هو أن يكون أرضية للنقاش للإحاطة بمختلف جوانبه و تداعياته على المدرسة و على المجتمع ، ثم طرح مقترحات عملية لإعادة التشكيل تعتمد بالأساس على " التعويد " بإكساب المتعلمين عادات جديدة تتماشى مع الطموحات ؛ و نذكر من جديد على أن أي مشروع مجتمعي لا بد أن يرتكز في تنفيذه على عمود المدرسة من خلال إعماله فيها ، أما الاكتفاء برفع الشعارات و النوايا فمجرد أماني غرّارة تجلعنا نلهث إلى منتهى السراب . و هذه إنما هو خطوة أولى ننتظر بعدها خطوات أخرى ، و ما الباعث على هذا سوى الغيرة على هذا الوطن و مستقبل هذا الوطن الذي تشكله المدرسة المغربية . *** (1) نستغرب حقيقة من التناقض الذي نراه بين مذكرات تصدر محددة تاريخ الدخول المدرسي بالنسبة للتلاميذ مع ما يصاحب ذلك من تعبئة إعلامية واسعة و بين واقع يشهد أن التلاميذ لا يلتحقون بمدارسهم إلا بعد أسابيع عديدة من ذلك التاريخ الرسمي ، و الأغرب من كل هذا هو تسليم الجميع بهذا الوضع . (2) تبرز هذه الظاهرة بقوة في الامتحان الإشهادي لمستوى السادس ابتدائي . (3) يمكن تحسس هذا التمثل في نظرة تلاميذ الثانية إعدادي أو الثالثة إعدادي للتلاميذ الجدد في الأولى إعدادي ، كما يمكن تحسس التضايق و التكبر الذي يحس به التلاميذ عندما يؤمرون بالانتظام في صفوف مثلا . (4) ننوه بشدة إلى الأنموذج الياباني في هذا المجال ، و يمكن تتبع ذلك بيسر من خلال البرنامج الإعلامي الرائع خواطر خمسة للإعلامي أحمد الشقيري ؛ غير أننا لا ندعو إلى النسخ الحرفي ، بل نقتبس ما يصلح لنا دون أن ننسى أن لنا تراثا زاخرا و مبدعين كثرا لا تعوزهم سوى ثقتنا فيهم .