تحل ذكرى تاسوعاء وعاشوراء على إيران هذه السنة في وقت تشرف فيه المهلة المحددة للمفاوضات النووية بين إيران ومجموعة 5+1 على الانتهاء. وقد كان لهذا التزامن صدى واضحاً على مستوى الملف النووي حيث تم تداوله في الكثير من مراسيم العزاء والاحتفاليات المتعلقة بشهر محرم وبذكرى عاشوراء. ولم يتجل ذلك فقط في انتقادات بعض المدّاحين وقرّاء المراثي الحسينية لما أسموه "عشاق التسوية مع العدو"، في إشارة منهم إلى الرئيس حسن روحاني ومؤديه، بل تعداه إلى تعليق لافتات عملاقة مضمونها ينتقد المحادثات الجارية بين إيرانوأمريكا بخصوص المسألة النووية، ويصوّرها كأنها محادثات مع قاتلي الإمام الحسين في ساحة كربلاء يوم عاشوراء، في انتهال واضح من الثقافة المذهبية الشيعية. وليس الإفادة من المفاهيم المرتبطة بعاشوراء الشيعية للإعراب عن موقف سياسي بالأمر الجديد في إيران، ذلك أن قادة الجمهورية الإسلامية دأبوا على هذا الأمر. ونستحضر في هذا المقام كلمة لآية الله علي خامنئي، مرشد الثورة، ألقاها السنة الماضية على أعضاء (هيأة مقاتلي الإسلام)، حيث قال : "كلُّ من يحب الإمام الحسين فهو يرتبط بالإسلام السياسي...فمن الخطأ أن يتوجس المرء من التطرق لقضايا الإسلام السياسي وهو في مأتم حسيني أو مجلس عزاء عاشورائي". لكن ما يجعل من كيفية التوظيف السياسي للجناح المحافظ الحاكم لمراسيم شهر محرّم هذه السنة في إيران، شيئاً مختلفاً، هو تزامنه مع قرب الحسم في التوافق من عدمه بشأن ملف ثقيل وباهظ ومكلّف لإيران، ألا وهو الملف النووي. وهو الملف الذي بدأت المفاوضات بشأنه قبل أكثر من سنة، يبحث عن مخرج له داخلياً بتوظيف معجم مذهبي (شيعي). وبالرجوع إلى التاريخ الإسلامي وإلى تجربة "صلح" الإمام الحسن بن علي مع معاوية بن أبي سفيان، فإنها تعتبر من جملة هذه التوظيفات المذهبية، لأنها تضع الكثير من المعتقدين بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران في مقابل سؤال محوري : هل تتخذ الحكومة الإيرانية بشأن ملفها النووي مع الغرب صلح الإمام الحسن بن علي مع معاوية بن أبي سفيان أنموذجاً تحتذي به، أم تسلك طريق الحسين بن علي الثوري وترفض التسوية ؟ مع العلم أن كلاًّ من الحسن والحسين يعتبران إمامين معصومين لدى الشيعة. ظل قيام الإمام الحسين على صلح الإمام الحسن : لقد اعتبر الثوريون، الذين وصلوا إلى سدة الحكم بعد استقرار نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، كلمة "التسوية"، سُبّة منذ الوهلة الأولى، وكان من الطبيعي ألا يقبلوا بتجارب التسوية والصلح على شاكلة صلح الحسن بن علي مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين. دأبت وسائل الإعلام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية على تمجيد أخلاق الإمام الثالث الحسن بن علي في مناسبة ذكرى مولده وذكرى استشهاده، لكنها لا تبدي تعلقاً وحماسة بسلوكه السياسي. وإن فعلت ذلك، فهي تصوره على أنه خيانة من أتباع الحسن دفعته مكرهاً إلى عقد الصلح مع معاوية. نجد هذا في الوقت الذي تحفل فيه وسائل الإعلام الإيرانية بمناسبة وبغير مناسبة بالحياة السياسية للإمام الحسين بن علي. وهو الإمام الذي لم يستسلم للعدو ولم يقبل بالتفاوض والتسوية معه، وضحى بنفسه وأقربائه من أجل هدفه. فاتُّخذ رمزاً، وكان فعله وسلوكه السياسيين موضوع كتب عديدة ومحاضرات وندوات سياسية ومذهبية لا تعد ولا تحصى. وقد حضرت رمزية الحسين الثورية بشكل لافت في خطب آية الله خامنئي ورسائله. وقد اعتبر، في محاضرة أثارت الكثير من اللغط في سنة 2001، أن تجربة الإمام الحسين ذهبت أبعد بكثير من تجربة أخيه الإمام الحسن، إذ قال : "اليوم لا أمريكا ولا من هو أقوى من أمريكا يستطيع أن يفرض على العالم الإسلامي حادثة مثل حادثة صلح الإمام الحسن. فلو مارس العدو هنا ضغوطات أكبر، سوف تتجدد حادثة كربلاء". وكان مرشد الثورة الإيرانية قبل ذلك، قد سمّى سنة 2001 باسم الإمام الأول عند الشيعة، أي "سنة الإمام علي"، وهذه التسمية أوحت إلى الأذهان بأنه سيسمّي السنة الموالية باسم الإمام الثاني لدى الشيعة، أي "سنة الإمام الحسن"، لكنه لم يفعل، وسمّاها "سنة الإمام علي" مرة أخرى، ربما لتفادي التأويلات السيئة التي قد تحيط بهذه التسمية. ولم يصل دور تسمية "الإمام الحسن" حتى في السنة الموالية أيضاً، فتغاضى مرشد إيران عن هذه التسمية بالمرة، وذهب يقتفي آثار الإمام الثالث عند الشيعة، أي الإمام الحسين، فسمّى سنة 2003 "سنة العزة والفخر الحسيني". وسابقاً، وقبل آية الله خامنئي، كان آية الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، قد قال في معرض جوابه عن سؤال وُجه إليه بخصوص جهود الوساطة بين إيران والعراق خلال الحرب بينهما : "ذلك الصلح المفروض في عهد الإمام الحسن، وذلك الحكم المفروض في زمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كلاهما كان بتدبير أفراد محتالين. وهذا ينبهنا بألا نقبل بصلح مفروض ولا نستسلم لحكم مفروض". وكان قد صرّح بهذا التصريح سنتين قبل موافقته على قرار مجلس الأمن رقم 598 الذي يقضي بوقف إطلاق النار بين إيران والعراق، والقبول عملياً بالصلح والتسوية. انتقال الإمام الحسن من الهامش إلى المركز : بالرغم من كل التجارب في السنوات السابقة، فإن أهم شخصية نقلت "نموذج الإمام الحسن" من عتمة الهامش إلى منطقة الضوء في السياسة الإيرانية، كان هو شخص آية الله خامنئي، حدث ذلك في موضوع الملف النووي. مرشد إيران صرّح قبل أسبوع واحد من سفر رئيس بلاده حسن روحاني إلى نيويورك بما كان يصرّح به في السنوات السابقة، أنه معتقد ب"المرونة البطولية". وهي إشارة واضحة إلى عنوان كتابٍ كان هو نفسه قد ترجمه من العربية إلى الفارسية يحمل عنوان (صلح الإمام الحسن، أعظم مرونة بطولية في التاريخ) للشيخ راضي آل ياسين. وكانت إشارة قائد الجمهورية الإسلامية إلى "المرونة البطولية" للإمام الحسن كافية لعودة وسائل الإعلام الإيرانية لتسليط الضوء على هذا الإمام. وتبع ذلك جدل واسع بين السياسيين وتعددت التأويلات لتصريح مرشد الثورة. ما حذا به إلى بيان وتوضيح قراءته لصلح الإمام الثاني عند الشيعة، بكونه تكتيكاً يهدف إلى "الإطاحة بالعدو". وقبل أيام قليلة نشر أحد المواقع المقرّبة من الحرس الثوري الإيراني موضوعاً يقارن فيه كاتبه بين تجربة الإمام الثاني (الحسن) والإمام الثالث (الحسين)، وهو يعكس صعوبة الاختيار بين النموذجين عند الشيعة. ويختم الكاتب موضوعه بسؤال مفتوح، وهو : هل نحن في موقع مشابه لموقع الإمام الحسن حتى نُجبر على قبول التسوية المفروضة ؟ أم أنه لم يبق شيء نضيّعه ويجب أن نثور على الاستكبار العالمي وأزلامه في الداخل ثورة حسينية ؟ يبدو أن فهم المحافظين الحاكمين في إيران للتسوية النووية يرتبط بشكل كبير بطبيعة الجواب على هذا السؤال. وهو هل أن الوضع القائم في إيران وصل فعلياً إلى حدٍّ "لم يبق فيه شيء يُضيّع" ؟