مجلس النواب يصادق بأغلبية 171 برلمانيا ومعارضة 56 على مشروع قانون المالية لسنة 2025    جدد دعم المغرب الثابت لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة :جلالة الملك يهنئ الرئيس الفلسطيني بمناسبة العيد الوطني لبلاده    المغرب: زخات مطرية وتياقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج 'حوارات'    خناتة بنونة.. ليست مجرد صورة على ملصق !    محكمة فرنسية تأمر بالإفراج عن الناشط اللبناني المؤيد للفلسطينيين جورج عبد الله بعد 40 عاما من السجن        إجلاء 3 مهاجرين وصلوا الى جزيرة البوران في المتوسط    البرلمانيين المتغيبين عن أشغال مجلس النواب يقدمون مبررات غيابهم ويؤكدون حضورهم    حماس تعلن استعدادها لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب للضغط على إسرائيل    مكتب الصرف يطلق خلية خاصة لمراقبة أرباح المؤثرين على الإنترنت    جثة عالقة بشباك صيد بسواحل الحسيمة    حماس "مستعدة" للتوصل لوقف لإطلاق النار    لوديي يشيد بتطور الصناعة الدفاعية ويبرز جهود القمرين "محمد السادس أ وب"    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة    هذه اسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    قتلى في حريق بدار للمسنين في إسبانيا    اقتراب آخر أجل لاستفادة المقاولات من الإعفاء الجزئي من مستحقات التأخير والتحصيل والغرامات لصالح CNSS    المركز 76 عالميًا.. مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب ضمن خانة "الدول الضعيفة"        كارثة غذائية..وجبات ماكدونالدز تسبب حالات تسمم غذائي في 14 ولاية أمريكية    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    التوقيت والقنوات الناقلة لمواجهة الأسود والغابون    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    بمعسكر بنسليمان.. الوداد يواصل استعداداته لمواجهة الرجاء في الديربي    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    الأحمر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    فيضانات إسبانيا.. طبقا للتعليمات الملكية المغرب يعبئ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني    تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب            الأردن تخصص استقبالا رائعا لطواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    حرب إسرائيل على حزب الله كبدت لبنان 5 مليارات دولار من الخسائر الاقتصادية    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سرحان: اللغة العربية "تشرملت".. والدارجة السوقية ازدهرت
نشر في هسبريس يوم 31 - 10 - 2014

أبرز الشاعر المغربي، سعد سرحان، أن العربية عاشت صراعات طويلة مع الفرنسية ابتدأت مع عهد الحماية، ولم تنته بتعريب التعليم الذي انطلق منذ عقود، مضيفا أنه "لا عربية المغاربة تحسنت ولا فرنسيتهم حافظت على مستواها، فوحدها الدّارجة ازدهرت خصوصا في شِقِّها السوقي ".
وفي موضوع دعوة رجل الأعمال، نور الدين عيوش، إلى اعتماد الدارجة، لفت سرحان ضمن مقال توصلت به هسبريس، إلى أنه في أمريكا، تشومسكي من يتحدث في أمر اللغة لمكانته المرموقة، وليس هذا الثري أو ذاك حتى لو كان روكفيلر" وفق تعبيره.
وفيما يلي نص مقال الشاعر سعد سرحان الذي اختار له عنوان "لسان الحليب":
لسان الحليب
التشرميل اللغوي
حتى عهد قريب، كانت الحدود بين العربية والدّارجة شبه مُرَسَّمة، وكان حسن الجوار يطبع العلاقة بينهما. فكان الآباء، وأغلبهم لم يلجوا المدارس قط، يستمتعون ب"القمر الأحمر" و"راحلة" بنفس القدر الذي يفعل أبناؤهم ب"بنت بلادي زينة" و"يا المسرارة"، مثلما كانوا جميعا يستمتعون ب"الرّسالة والحرّاز والمعلم عزّوز والأزلية..." غير آبهين لأمر اللغة. فالوحش في العربية هو نفسه الوحش في الدارجة، أما الفلا فلم تكن تبعد عن الفلاة بأكثر مما يبعد الراديو عن منجد الطلاب.
لم تكن اللغة العربية تستعصي على أحد. فبشغف كبير كان الآباء يتابعون المسلسلات التاريخية، وبمثله كان الواحد منهم يضع المذياع على أذنه ويصيخ السمع لإذاعة لندن وكأنها تُسِرُّ إليه وحده عظائم الأمور.. أمّا الأمهات فكنّ يصادقن مذيعات الصباح ببرامجهنّ التي ما كان لها أن تنجح لولا لحمة الموضوع وسداة اللغة.
ولم تكن الدّارجة يومًا مرفوضة من قِبَل المتعلمين، وإلا لكانوا قلبوا الصينية بكؤوسها على ناس الغيوان. لقد كان للدّارجة فضل كبير على الجيل الذي أنتمي إليه. ففي الوقت الذي كان أجدادنا ما زالوا يجترّون بطولاتهم في لاندوشين، كانت القاعات السنيمائية تعرض كل أسبوع أفلاما هندية وأخرى صينية، فنرى على أيّ أبطال انتصر أجدادنا وفي أيّ أرض ضربوا وأيّ نساء ركبوا...
لقد كان الأمر يتعلق بأضغاث أفلام، للرّكلة فيها صوت وللقفزة فيها آخر، أما أصوات الممثلين فقد كنّا مرغمين على قراءة أسفل الشاشة لنعرف ما تقول، وهو ما كنا نضحّي به غالبا في سبيل الجمال الهندي قبل أن يظهر ملاك الرحمة، المرحوم ابراهيم السايح، الذي أنطقَ نجومَ الهند وجميلاتها بدارجة مغاربية كأن أجدادنا علّموهم إياها قبل أن يعودوا ظافرين. فكانت الدّارجة بذلك هي اللغة الأولى التي استفدنا منها في الترجمة حتى قبل أن نستفيد من ترجمات المنفلوطي التي لا تَقِلُّ إِضحاكًا.
في الإعلام كما في الإعلان بدأت الدّارجة تربح مساحات أكبر، فبها تدبلج المسلسلات الرخيصة وبها يتمّ الإعلان عن البضائع الأرخص، مستهدفة بذلك العامة، لأن الخاصة غالبا ما تشاهد الأفلام العالمية بلغتها الأصلية، وتقتني الماركات الثمينة التي لا تستطيع الدّارجة الْمْكَرّدَة الإعلان عنها.
لقد أريدَ للدارجة أن لا تكتفي بكونها لسانًا بتحويلها إلى قلم يكتب بنفس حروف العربية. هكذا صارت اللوحات الإشهارية تُكتب بالدّارجة، وفرنسية الأفلام المغربية تظهر مترجمة أسفل الشاشة إلى الدّارجة، فيما دارجتها تظهر مترجمة إلى الفرنسية الفصحى في مماحكات واضحة للعربية مكتوبةً ومنطوقةً.
ليس سهلا على العربية أن ترى حروفها "تُمتهن" كتابةً في لغة الشوارع والأسواق، هي التي عاشت الشفاهة قبل قرون وكان انتقالها إلى الكتابة ثم وضع النقاط والحركات على حروفها على يد كبارها، ودُوِّنَ أول ما دُوِّنَ بها ديوانُها والذّكْرُ.
لقد خُطَّ الحرف العربي على جلود الغزلان ونقش على صفائح الذهب وعلى أبواب القصور وقباب المساجد، وبه كتبت المخطوطات التي ضمنت للعرب مكانا في رَفِّ التاريخ... ومنذ قرون وهو فن قائم بذاته، فكيف، بعد هكذا مجد، تستعمله الدّارجة مكتوبًا في الترويج لحفَّاظات الرّضّع؟
فلو اقتصر الأمر على الكلام لكان مفهوما كونه موجها لغير المتعلمين، أمّا أن يتحوّل إلى الكتابة، فهو موجّه إلى من يستطيع القراءة، ومن يقرإ الدّارجة يقرإ العربية أحسن، اللهم إذا كان وراء الأكمة من وراءها، خصوصًا وأنّ الحقول التي تزدهر فيها الدّارجة توجد في القلب من ضيعة عرَّابها ونسله النجيب.
ليس سهلا على العربية أن ترى أختها الخلاسية تُدفع دفعًا إلى سرير الكتابة حيث فحولة القلم، فما من أخت تقبل بأختها ضرّة.
لقد عاشت العربية صراعات طويلة مع الفرنسية ابتدأت مع عهد الحماية، ولم تنته بتعريب التعليم الذي مرّت حتى الآن عقود على بدايته، فلا عربية المغاربة تحسنت ولا فرنسيتهم حافظت على مستواها، وحدها الدّارجة ازدهرت كما لم يسبق لها أن فعلت، خصوصا في شِقِّها السوقي والبذيء. ومَثَل العربية والفرنسية هنا كمَثل العايق حاضي الفايق والدّارجة هي الدمدومة اللي قاضية حاجة في نفس عيوش بعدم تركها.
طيلة حقبة التعريب التي أشرفت على نهايتها بانطلاق العمل بالباكالوريا الدولية، كان فضاء القسم وزمنه مقسمين بين الدّارجة والعربية: الأولى للكلام والثانية للكتابة. لذلك، فإن الدعوة إلى التدريس بالدّارجة تبدو نافلة لأنها حاصلة. أما إذا كان المقصود هو كتابة الدروس بالدّارجة، فإن المغرب سيحتاج إلى إنشاء مكتب لتحديث التدريج، نقترح أن يترحم على الراحل الكبير أحمد الأخضر غزال بتدريج شاهدة قبره، قبل أن يتحفنا بإصدار كتيبات لتدريج كل المواد الدراسية دون استثناء يتعلم منها المدرسون قبل التلاميذ مقابل الكلمات التالية بالدّارجة: المثلث، المربع، الموازي، الدالة، المقارب المائل، البتلة، الأُسْدِية، العصارة الهضمية، الكتلة الحجمية، شبه الموصلات، التفاعل الكيماوي،الغدة الكظرية، المسيرة الخضراء، معركة وادي المخازن،المفعول به، الإحليل والخصيتان... وآلاف غيرها، فيعرف المدرسون قبل التلاميذ مرة أخرى أنهم طاعنون في الجهل، جهل الدّارجة الفصحى.
لحسن حظّي أني استمتعت بالأزلية في ذلك الزمن البعيد، قبل أن يصبح ذو يزن حَلُّوفْ دْ لْخْلا،وشامة صاطة، وميمون الهجام العشير، وسعدون الزنجي العزوة، وقبل أن يسمّى السيف مسطرة نكاية في المدرسة والقانون معا، وقبل أن تسمّى غزوات ذي يزن وجيشه تشرميلا. وعلى ذكر هذه الأخيرة فهي عندي كلمة السنة بلا منازع، فهي استعارة لذيذة جدًّا لولا ما يُراق على جوانبها من كيتشب.
هَرَّمْني قِيبارْ
حين سأل القاضي الشبان الثلاثة عن تهمتهم ردّ أحدهم قائلا: "والو نعاماس غير فبلاصت ما نبقاو ناشرين الكَدِّيدة، ولاَّ نبقاو خيطي زيطي، كَلنا نخويو النّْمَر وحنا ندوزو عند الكَراب تقضّينا واحد الربعة ديال البَطَّات، وخرجنا للخلا يلاه بدينا نْكَفْحو فْلْعَبَّار اللوّلن وهي تطوّط علينا الواشمة، نزلو الحناش وقرقبو علينا سْوارت الرّبح" .
وفي محكمة أخرى تقدمت امراة من القاضي تشكو غياب زوجها: "آسي القاضي راجلي غبر ليه الشقف. مشى وخلاني عريانة كَريانة. راه قلّبت عليه حياط مياط ما خليت عليه لا حاحة لا ملاحة لا قصيبة العواد".
وفي حكاية ثالثة أن حافلة سياحية توقفت بأحد ربوع المغرب فنزل راكبوها ليأخذوا صورا تذكارية مع الجمال (بفتح الجيم أو كسرها سيان) ، وبينما هم كذلك، لاحظت إحداهن حاديا صغيرا يضع عصابة على رأسه، فسألته، عبر المرشد السياحي، عن مُصابه، فكان جوابه "هَرَّمْني قيبار" فسُقط في يد المرشد وفي لسانه معا.
هذه نماذج لمغاربةٍ لم يتأثر لسانهم بدرس في المدرسة أو إشهار في التلفزيون أو قصيدة من قصائد الملحون... لذلك فهم يتكلمون دارجة لا تضاهيها فصاحةً سوى لغةُ بدو الصحراء. فخيطي زيطي وحياط مياط وعريانة كريانة.. تُذكِّر على الفور بشذر مذر والحابل والنابل وحيص بيص الذي وقع فيه المرشد أمام السائحة، أما لا حاحة لا ملاحة لا قصيبة العواد، فهو التحدي الذي رفعته المرأة المغلوبة على أمرها، دون أن تدري، في وجه باقي اللغات. ولو قُيِّض لدارجتنا المغربية أن تنجب سيبويها خاصا بها لكان هؤلاء بالنسبة إليه بمثابة الأعراب بالباب.
لكي يخفّفوا الحكم عن أنفسهم، ولكي تُحمل شكواها على محمل العدل، ولكي يُعرِب عن مصابه للعجم ويستدرَّ منهم بعض الكرم، لا بد أن الشبان والمرأة والطفل استعملوا أحسن ألفاظهم وأكثرها وضوحا... ومع ذلك لم يَفُقها في الوضوح سوى ما عكسته قسمات القاضيين والمرشد.
وإذا كان المبنى في هذه الأمثلة يحول دون الوصول إلى المعنى، فإن المعنى في غيرها مُكتفٍ بمناعته. ففي حكاية قديمة أن لصا أفلت بالمسروق فيما ألقي القبض على شريكه، وبعد مدة مر بصاحبه وهو يقوم بالأعمال الشاقة تحت الحراسة، وما إن رآه من بعيد حتى خاطبه: "مابين إِيَّه ولاواه تدبير عنداك تبدل النّقرة بالقزدير مول ربعة تباع بربعين هزّ ونزّل بعشرين دخَّل وخرَّج بعشرة تلاتين وخمسة عند مولات الكَصة". الكلمات في هذا الخطاب بسيطة لفرط تداولها، ومع ذلك فهي عصية إلَّا على المُخاطَب. أما نحن فنحتاج إلى ظروف النص لنعرف أن الأمر يتعلق بحصان بسرجه ولجامه وأن نصف ثمن المسروق تسلمته زوجة السجين كما تقتضي أخلاق شريكه.
تختلف الدوارج المغربية من منطقة لأخرى ومن مدينة لأخرى كما تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية... حتى أنه حيث تُعَرِّش "نتينا والبهلان... والمشية بالقالة والحشية بالميتر" تعشش دارجة من قبيل "الدزداز ويد المهراز دْريوْسة خو طوطو مول الفاصمة زنداكي ديال سنيما بوجلود" و"بَّاكْ الحلوي مول القَنَّارية عطيه ربعطاش يرد عليك ست وتلاتين" .فكيف سنفهم هذه الدُّرَر من النثر المغربي الرفيع في غياب ظروف النص؟
إننا لا نعرف الكثير عن عامية المغاربة خلال القرون الماضية، لكن الأمثلة التي أوردت، وهي غيض من فيض، تدل على ان بعض عاميتنا لا يقل استغلاقا، مبنى ومعنى، عن فصحى العصر الجاهلي.
لسان المغاربة
تسمَّى الدّارجة المغربية دارجة لأن الناس درجوا على استعمالها في حياتهم اليومية، وتسمى عامية لأنها لغة العامة من الناس، وتسمى لهجة لأنها غير معيارية، وتسمى لغة لنجاحها الباهر في جعل "كلها يلغي بلغاه" في إشارة بليغة للتعدد. وإذا جاز لنا أن نفعل، فإننا سنُجمل كل هذه التسميات في واحدة: "لسان المغاربة"، على غرار "لسان العرب" مع فارق أن ما من قاموس يمكن أن يحيط به طالما أن أهله يبدعون به يوميا صفحات جديدة.
يدين اللسان المغربي بالكثير للفصحى، ليس فقط لجهة الكلمات، وإنما أيضا لجهة البلاغة بكل عناصرها. ولما كنا بصدد ورقة فقط، فسنكتفي ببعض الأمثلة. ففي منطقة من المغرب، إذا أتى الواحد فعلا مشينا قيل عنه "قفّرها" وفي أخرى يقال "خْلاها"، ورغم أن المنطقة الأولى قد تكون هي الأبعد عن الثانية، فإن القفر هو الأقرب إلى الخلاء. وكما أن الفصحى تكرم الميت قبل دفنه فإذا هو: مات وقضى نحبه ولقي حتفه والتحق بالرفيق الأعلى...فإن اللسان المغربي يذرف على الميت غير قليل من العبارات (وليس العبرات)، أشهرها أنه "علّق الصّباط" و"عَبَّا لعجين".
أما الأولى فمستعارة من كرة القدم، ذلك أن اللاعب اذا اعتزل يعلق حذاءه الرياضي لعدم حاجته اليه، وكذلك يفعل الميت حين يعتزل الحياة. وأما الثانية، ابنة المدينة العتيقة، فشديدة التوفيق، ذلك أن اللوح الخشبي الذي يُحمَل عليه العجين والمنديل الأبيض الذي يُلَفّ فيه يُذكِّران بالنعش والكفن، أما الميت فليس سوى عجينة الصلصال، تلك التي كانها قبل أن تنفخ فيه الروح. ولعل التحليل النفسي أن يضيء لنا النفس الأمارة باللهو عند واضع العبارة الأولى، حيث الحياة ليست سوى لعبة يمكن اعتزالها، والنفس الأمارة بالسوء عند واضع الثانية، حيث الميت ينتهي لا محالة في جهنم انتهاء العجين في الفرن.
وبعيدا عن الموت قريبا من الحياة، يلاحظ أن التحرش الجنسي حفيد الغزل، حفيده غير المهذب. فقديما كانت النساء الجميلات طرائد العشاق، فهن الغزالة والظبية والريم والمَهاة... ولم يكن من سبيل إلى قلوبهن سوى سهام الغزل، فأبدع الانسان أجمل فصل في ديوان العرب. أما الحفيد الفظ، فلم تجد الطرائد من حوْلٍ وحيلة أمامه سوى التحول إلى أسلحة أين منها السهام، فإذا هذه قرطاسة وتلك قنبلة... وليس أغرب مما حدث للغة مع التحرش سوى ما حدث لقط المختبر. فقد دخل القط غرفة العمليات فإذا هو قط، mon chat, chat, cat فخرج وهو عبارة عن "مُشَّة" بعد أن تغير اسما وجنسا.
ومن لغة الأم أستَلُّ هذه العبارة "قْلي الفول وشَدّْ المرسول"، وهي الرسالة الشفوية التي كنتُ كلما حملتها إلى الجيران يحتفظون بي عندهم حتي تفرغ أمي من شغل أو تعود من مشوار. ولن أعرف إلا بعد سنوات أن لِرسالةِ أمي شبيهات في الفصحى حمل إحداها طرفة بن العبد فحملته إلى حتفه، وذهب المملوك جابر بأخرى مكتوبة فوق رأسه فذهبت برأسه.
والجدة؟ ألسنا مدينين للغتها بالكثير؟ لقد كانت الجدة بالنسبة لأجيال عديدة هي الحضانة والحصانة من العقاب، هي الدروس والعِبَر والرسوم المتحركة... بأحاجيها تستدر منا النوم، فإذا نحن أمام مكر الثعالب وحكمة القنافذ وطبائع باقي الحيوانات. تعلمنا منهاالكثير قبل أن نقرأ كليلة ودمنة. وفوجئنا بعد الدخول الى المدرسة بانتحال حكمتها "والله وما قْفَلتيه لا فوَّرتيه" وقد صارت حكمة اليوم "من جدّ وجد ومن زرع حصد".
هذا بعض من لسان المغاربة، اللسان الذي لا يجوز أن نُخرجه في وجه الفصحى حتى لا نكون كمن يهجو مَن عَلَّمَهُ نظم القوافي.
انشطار الشخصية
أثناء اجتيازه لفرض محروس في مادة الفيزياء، وظف تلميذ عبارة فرنسية أنَّث بها مذكرا، فكلفه ذلك خصم نقطة، وهو ما لا يمكن أن يحدث في حصة الفرنسية لو أن نفس التلميذ خلط بين الكتلة والوزن. فمدرس الفرنسية مكتف بفرنسيته ولا يضيره ألا يفرق بين مفهومين فيزيائيين، أما مدرس الفيزياء فيحتاج ليس فقط إلى إبداء فرنسيته عند الضرورة، وإنما إلى إظهار ولائه لها بعقاب من يسيء إليها. لنفرض أن تلميذنا أنث ذلك المذكر في فرض اللغة الفرنسية، سيخصم له الأستاذ نقطة، وهذا من حقه، فيكون المسكين قد عوقب في اللغة كمادة وكأداة للتدريس. الأستاذ مرَّ بالكثير من الأخطاء اللغوية في نفس الفرض دون أن يشير إلى أي منها، فهو أستاذ للفيزياء وليس للعربية. التلميذ وظف بعض الكلمات العامية في الفرض عجزًا عن إيجاد مقابلها الفصيح أو ظنا منه أنها فصيحة لفرط سماعها في الفصل الدراسي. فماذا فعل الأستاذ الذي يستعمل الدّارجة للتواصل مع التلاميذ؟ لقد حاصر تلك الكلمات بدوائر حمراء و أوسعها علامات تعجب.
يلخص هذا المثال بعضا من الوضع اللغوي داخل الفصل الدراسي، حيث الفرنسية هي "الأخت الكبرى"، وحيث الضحية هو الأستاذ أيضا بوصفه الدليل القاطع على أن المدرسة المغربية قد تصيب بانشطار الشخصية وليس بانفصامها فقط.
مدرسة بابل
عرفت المدرسة المغربية منذ تأسيسها حتى الآن مختلف الجنسيات. فقد درَّس بها مصريون وعراقيون وسوريون وفلسطينيون وفرنسيون وبلاجكة ورومان وانجليز وبلغار... وكلهم لهجوا داخل فصولها بلهجاتهم، وغضبوا بلهجاتهم، وشتموا بلهجاتهم التي لم يكن يُفهم منها سوى رذاذ أفواههم. لم يكونوا دكاترة ولا مبرزين ولا حملة شواهد عليا كالذين تعج بهم مختلف الأسلاك الدراسية الآن، بل إن منهم من كان مُجَندا فقط يقضي الخدمة في بلادنا. ولو استطاع تلاميذ العقود الماضية أن يُدوِّنوا الطرائف التي عاشوها داخل الفصول لأصيبت الأجيال الحالية بالذهول.
فمن منهم سيصدق أن اللغة الفرنسية التي يدرس الآن بأحدث الوسائل كانت تدرس باللغة العربية نظما في التعليم الأصيل، وهذا ما جاء في أحد دروسها:
صباحُ الخير عندهم بونجور
وصِفَةُ الدوام عندهم توجور
الرأسُ طيطٌ عندهم والعنقُ كو
وإن أرادوا كثرةً قالوا بُوكو
أما الرومان والبلغار الذين جيء بهم ذات تخفيض نهاية السبعينيات لتدريس المواد العلمية، فقد أبلوا البلاء الحسن في لغة تعلموها وهم يحزمون حقائبهم باتجاه المغرب. فهذا يقول:
Prenez une petite vacance
ويقصد الاستراحة.
وذلك يقول:
?Tu quelques cherchin
ويقصد، هل تبحث عن أحد؟
وثالث يبرّر غيابه للتلاميذ بالقول؟
Ma femme a pondu une zélève
ويقصد أن زوجته أنجبت بنتا
ومثل هذه العبارات هي ما يجهد أنفسهم فيه بعض فكاهيينا فلا ينجحون إلا أبدًا.
وفي الوقت الذي كان فيه العالم يتعلم الحلاقة في رؤوسنا دون أن نرى ما يجري في مرآة أو حتى سطل ماء، كان بعض القافزين (أتمنى إضافتها إلى العربية بمعناها الدّارج، فهي كلمة غْزالة) يرسلون أبناءهم إلى أفخم الصالونات العالمية. وهاهم الآن يقترحون تصليع الأجيال القادمة درءا لاحتمال سقوط الشعر.
لعل البعض يتمتع ببعد نظر يحسد عليه، فيرى السراب على بعد أميال وأجيال من الآن، فينصحنا بأن نعلم أبناءنا السباحة في الرمال، دون أن يدور بخلده أننا نفكر في العطش لا في الغرق.
ثمة من يتمتع بشطارة لا تفوقها إلا شطارة بنت الدرب، تلك التي باعت الدفة واشترت الكلب. لهؤلاء نقول: قد يفضح الكلب اللصوص بالنباح، لكنه أبدا لن يَصُدَّ الرياح.
الأرض والأسمدة
تتخلق الكلماتُ عادة وسط مجموعة بشرية متجانسة، لها نفس السن، نفس المستوى الاجتماعي أو نفس الحرفة... قبل أن يتم الزج بها في بحر المجتمع لتتقاذفها الألسنة بنفس المعنى الذي ظهرت به أو بآخر مختلف تماما. وعلى ذكر البحر، فنحن مدينون له بالكثير من الكلمات، أقف عند أشهرها:
Arriver
فالوصول عند البحارة كان مرتبطا بالضفة
La rive
وها نحن قرْصَنَّا الكلمة وأصبحنا نستعملها للوصول الى أي مكان. حِرَفيو الجبس يستعملون قطعة خشبية مستطيلة يسمونها "الفتقية" وهي الكلمة التي تستعمل في الدّارجة كناية عن الهمز واللمز.
أما الخراز المغربي فقد ابتكر منذ القدم نوعا من اللصاق قوامه الدقيق والماء وهو المعروف باللعاقة. ولسنا نعرف كيف أصبحت هذه الكلمة إحدى مرادفات المال. فكما أن الانسان العربي أغدق الكثير من التسميات على سيفه وناقته ونسائه... فكان ذلك مصدر ثراء للفصحى، فإن مركزية المال في الحياة المعاصرة جعلت المغربي يجترح له كثيرا من الأسماء: الفلوس، الصرف، البينكَة، الكَرمومة، التِّيبْس، المعلومة، وسخ الدنيا، يَمَّاهُم، المعتوق، الصنك، الحبّة، عينين موكا، المهدرشة، عمر... حتى أن الفقير ليس من لا يملك مالا بل هو من لا يعرف عشرين اسما له.
ومع الهجرات القروية ستختلط دوارج الحقول والمراعي والإسطبلات بدوارج المعامل والمقاهي والشوارع فدوارج مواقع التواصل الاجتماعي... لنصبح أمام دوارج في منتهى الهجانة. وعلى ذكر هذه، قبل عقود كا نت دارجة المدن تطلق على الصبي اسم "ليشير" وهو اسم يشير فقط الى حداثة السن ولا يحمل أي معنى قدحي، أما الآن فالصبي أصبح"برهوشا"، وهو الاسم الذي جاء من البادية ذات جفاف. ففي أكثر من صعيد، البرهوش هو جرو السلوقي من الكلبة، وحين يُطلق على أحدهم فبقصد التحقير.
لقد اغتنت الفصحى بتبنيها كلمات وتراكيب من غير رحمها أصبحت مع مرور الوقت من صميمها، وكذلك تفعل الدّارجة مع العربية وغيرها من اللغات التي مرت بالبلد. إننا أمام تراب مُشبَع بالسماد، ولئن كان من غير المعقول المطالبة بغربلته، فليس أقل من تنقيته من النباتات السّامة حتى لو كانت بجمال خضراء الدِّمن.
المذكرة
لا توفر المدرسة المغربية تعليما أوليا لأبناء الشعب، فهم يلتحقون مباشرة بالتعليم الابتدائي، والمحظوظون منهم يفعلون ذلك بعد مرورهم بالكُتّاب أو روض الاطفال. وحدها المدارس الخصوصية تستثمر في هذا النوع من التعليم، حيث الصغار بين سن الثالثة والسادسة ينفتحون على بعضهم ويتشاركون التعرف على العناصر الأولى للعالم والحياة من خلال مواد للتفتح. فالأشكال والألوان والخطوط والحركات والأصوات هي الأبجدية التي سيحتاج إليها الطفل أثناء تسميته للعالم من حوله، لذلك ينبغي أن يتعلمها بلغة يشتركها مع الآخرين. فإذ كان الضوء الأحمر يحمل نفس المعنى في العالم أجمع، فليس أقل من أن يسمي الطفل الجزر جزرا فيشترك المعنى مع مئات الملايين من الناس.
لا وجود لتعليم أولي عمومي بالمغرب، فالدعوة الى التدريس فيه بهذه اللغة أو تلك اللهجة هي أشبه بالدعوة إلى تشييد سدود في الصحراء لتخزين مياه السراب. أما التعليم الخصوصي فيبدو غير معني تماما بهذا النقاش بدليل عدم الانخراط فيه. حسبُه أنّ الصغار يعودون منه بألسنة تُعجِم فيُعجب ذلك الآباء الذين يسعدون بلسان الإبن أكثر من سعادتهم بلسان الأم.
نافلة أيضا الدعوة إلى التدريس بالدّارجة في الابتدائي، فالأمر حاصل فيه وفي غيره من الأسلاك. اللهم إذا كانت هذه الدعوة ترمي إلى إيقاف الدّارجة عند حدها، فتمنع التواصل بها ابتداء من مستوى معين، وفي هذه الحالة، فإن سعيها مشكور.
أما إذا كانت المذكرة تدعو الى تدريس الدّارجة، فالأسلاك المناسبة لذلك هي الإعدادي فما فوق. وما على الجهات الوصية سوى التفكير الجدي في الأمر. هكذا سيدرس التلميذ بدر شاكر السياب وزدي قدور العلمي، المعلقات والزجل... وسيشرح له الأستاذ معنى الكندرة والتلّيس والتغراز والمهماز والتّبْلاح وحَبّ الغاز وغيرها مما يصدح به العربي باطما من قصيدة (غدر الدنيا) لعزري العلوة سيدي امحمد البهلول أحد أكبر شعراء هذا البلد. وسيعرف التلميذ أن حادة التي يتردد اسمها كثيرا في حصص الرياضيات لها بنت يقال لها وردية، ويدرج الطيب العلج في دراسة المؤلفات ويكون ديوان المجدوب موضوع أطروحة جامعية... وهكذا سيعرف التلميذ المغربي أن هناك دارجة أنتجت أدبا صالحا للمدرسة غير تلك التي تنتج قلة أدب تفسد الشارع.
عجلة الإنقاذ
تتخبط المدرسة المغربية في عرض بحر من المشاكل، وليس من الشهامة في شيء الوقوف عند الشاطئ ورمي عجلة الانقاذ إلى الماء حتى لو كانت هذه العجلة بحجم جزيرة. المدرسة المغربية تحتاج الى فريق من الخبراء في كثير من التخصصات ذات الصلة، خبراء غير أولئك الذين يؤكدون أن معجون الأسنان الفلاني هو الأحسن، فلا يصدقهم إلَّا "خُبْرِيّ". نحتاج خبراء يحملون آلاف الكتب في رؤوسهم وليس عشرات فقط وفي الصناديق الخلفية لسياراتهم.
ففي أمريكا، تشومسكي من يتحدث في أمر اللغة لمكانته المرموقة، وليس هذا الثري أو ذاك حتى لو كان روكفيلر. أثرياؤنا يمكن أن يخدموا المدرسة من مواقعهم بإحداث منح للمتفوقين، بالاعتماد على الكفاءات المغربية، بتشجيع الخريجين بقروض لتحقيق أحلامهم الصغيرة، بترميم المدارس ومساعدتها بالتجهيزات والمرافق الصحية... وكما تفتقت العبقرية المغربية عن السكن الاقتصادي والسيارة الاقتصادية، يمكنها أن تعمم ذلك بإحداث مدارس اقتصادية. فتتغلب لا على مشكل الوعاء العقاري وإنما على عشرات غيره. فمدرسة من ستة فصول وقاعة رياضية ومكتبة يمكن تشييدها بمعظم الأحياء، وسيكون من السهل تسييرها وحمايتها وصيانة تجهيزاتها...
وكما أن آخيل ليس كعبا فقط، فإن المدرسة ليست اللغة فحسب. أما الذين يعزفون على الوتر الحساس للأمومة، فنُذَكرهم بأن الذين التحقوا بمدارس فرنسا أيام الحماية ودرسوا بالفرنسية وينعمون بخيرات المغرب كانت أمهاتهم أميات كجداتنا، وحين صاروا آباء اختاروا لأبنائهم نفس السبيل لقناعتهم الراسخة بأن لغة الإبن لا لغة الأم ما ينفع في المستقبل. وبعيدا عن المغرب، فأبناء المهاجرين المغاربة في كل الأصقاع درسوا بلغات بلدان الاستقبال لا بلغات أمهاتهن وهاهم قد أصبحوا وزراء وبرلمانيين وكتابا مرموقين وأطرا عليا... فلا الأم، لا زوجات الأب، ولا عشيقاته يستحقن بُرورَ الابن بلغاتهن.
لسان الحليب
يدين الطفل بأسنانه الأولى لثدي أمه ولحليب الصيدلية، وهي في مقام المرضعة. ويتلقى الكلمات الأولى من لسان أمه ومن لسان مساعدة البيت. ومع مرور الوقت يصبح في حاجة إلى طعام أكثر تنوعا لا قدرة لأسنان الحليب عليه، فتتغير هذه الأسنان طبيعيا بأخرى ليست بالضرورة أجمل، لكنها أقوى. وكذلك يحدث مع لسان الحليب مع فارق جوهري، هو عدم تغييره، وإنما شحنه بلغات أكثر قدرة على صياغة العالم من حوله بكل تنوعه وتعقيداته. حتى أن الإقبال على مراكز تعلم اللغات لا يضاهيه سوى ازدهار عيادات تقويم الأسنان. أما أسفل الجسد، فلو أن الأقدام بَرَّتْ بلغة الأم، وهي المشي، لما استمتعنا بالرقص وكرة القدم والقفز بالزانة....
وبالعودة إلى اللغة، فما من جاحد ينكر دور اللغة العربية في الدفع بعجلة الحضارة الإنسانية من خلال إبداعاتها وترجماتها... فبها أَلَّف الرازي وابن سينا والأصفهاني والبسطامي وابن المقفع وسيبويه... وما من أحد من هؤلاء كانت العربية لغة أمه. أما المثال الحي، فعلا لا مجازا، فهو سليم بركات، الكردي الذي يكتب الشعر والرواية بعربية لا تُضاهَى.
توطئة
لم أكن، طيلة هذه الورقة، في وارد الدفاع عن اللغة العربية. حسبها أنها أنجبت المتنبي، كبير شعرائها، القائل على لسانها: إذا أتتك مذمّتي من ناقص... وحسبها أنها أنجبت الجاحظ، كبير نثرائها الذي نفتقده اليوم. فلو كان بيننا، هنا و الآن، لأضاف أجزاء أخرى إلى كتاب الحيوان، ولكنا عرفنا منه الكثير عن هذه القيابير التي تُهَرِّمُ كلّ شيء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.