كل من يعمل معرض للخطأ، فوحده من لا يعمل لا يخطئ. و لكن شتان بين من يرتكب خطأ بحسن نية أو عن غير قصد أو من يعتبر مسؤولا عن خطأ خارج عن إرادته، و بين من يبدد مال الدولة، مثلا... فتكييف الأفعال أو الأخطاء قضائيا يبقى شيء في غاية الخطورة لأن ارتكاب خطأ في غياب أية سوء نية قد يترتب عنه جزاءات مادية أو مالية يؤديها المخطئ للمتضرر، و أما بالنسبة لتبديد مال الدولة فالعقوبة قد تصل إلى السجن. على سبيل المثال، كثيرا ما يشتكي زبناء الشركات العقارية و غيرها من جودة الشقق أو التجهيزات التي يشترونها قبل أن تنجز، و لما يتسلمون شققهم مثلا يجدون أنها لا تشبه الجنة التي سوّقت لهم و لا ترقى إلى الرفاهية التي شاهدوها في وصلات الإشهار الجميلة زيادة. فيصابون بشيء من السوداوية تجعلهم يتذمرون إلى حد اعتبار أن كل شيء مغشوش من ألفه إلى يائه، فيتقدمون بشكاويهم. فإما أن ينتبه صاحب المشروع أو البائع في حينه في إطار الخدمة بعد البيع، و هذا شيء لا يحصل أبدا لا في مجال البناء، و لا في مجال الإلكترونيات، و لا في مجال صناعة السيارات، و لا في أي مجال آخر، و ذلك لأن "الخدمة بعد البيع" لا وجود لها بتاتا في ثقافة المغرب و المغاربة، و إما أن تصل الشكايات إلى القضاء. طيب. نأخذ على سبيل المثال شركة للإلكترونيات تساهم الدولة في رأس مالها. فإذا حصل أن اشترى زبون حاسوبا وجد فيه خللا ما، فاشتكى إلى إدارة الشركة فماطلته و لم تعر له اهتماما، فهل نتهم مصمم الحاسوب أو المساهم في عملية تركيب أجزائه مبددا لأموال الدولة و ناهب للمال العام و مشارك في سرقة الدولة مباشرة دون روية...؟ لا. بل نحكم بتعويض المشتكي حتى نزرع ثقافة "الخدمة ما بعد البيع" في المغرب عموما و لدى التجار و الصناع المغاربة و حتى نؤسس لثقافة الجودة في جميع المنتجات المغربية. نعم، الحاسوب يتكون من أجزاء عديدة و قد يحصل الخطأ أثناء عملية التركيب، و لكن في هذه الحالة على البائع أن يعوض المشتري عن الضرر الذي لحقه. في مجال السكن مثلا، فالمعتقد العام أو السائد لدى العامة هو أن المهندس المعماري مسؤول على كل شيء من الألف إلى الياء في كل مشروع معماري يرسم تصاميمه. و أما الحقيقة فهي عكس ذلك تماما. فالمهندس المعماري لا يمكنه القيام بعمل مهندس مكتب الدراسات المختص في الإسمنت المسلح أو الخرسانة المسلحة و هو عمل قائم على حسابات علمية دقيقة لا تدخل حتى في مجال تكوين المهندس المعماري. و لذلك فالمختبرات المكلفة باختبار الاسمنت و مدى مطابقته للمعايير المطلوبة لا تحتاج أن توظف مهندسين معماريين بل تحتاج إلى مهندسين مدنيين -أو إنشائيين- غير معماريين، مهندسين في كل ما يتعلق بالإسمنت المسلح و الدعامات و الأسس و تلك مهنة غير مهنة المهندس المعماري الذي يعتبر فنانا يرسم و يضع التصاميم بشكل يحافظ على جمالية العمران. المهندس المعماري يشرف من بين المساهمين على متابعة الورش بالتوجيه و الإرشاد و ليس مسؤولا على ما قد يرتكبه الآخرون من المتدخلين من أخطاء، كما أنه يتأكد من العيّنة و ليس مطلوبا منه مباشرة عمل مخابراتي أو عمل مباحث عامة ليل نهار داخل الورش طيلة فترة إنجازه، خاصة إذا كان صاحب المشروع، مثلا، شركة كبيرة مهيكلة تتوفر على موارد بشرية، "مستخدمين" أو "موظفين" بمهمات محددة أو عامة يفرضهم صاحب المشروع على أرض الواقع. لما يعمل المهندس المعماري مثلا لصالح شخصية مادية لا علاقة لها بمجال المعمار، شخص يريد بناء عمارة من 3 أو 4 طوابق مثلا، فهو يكلف المهندس المعماري بهذه المهمة و يكون آنذاك المهندس المعماري له سلطة رمزية في الورش تمكنه من متابعة الأعمال بأريحية و بدون تشويش أو إزعاج أو تجاوز لسلطته لأن آراءه و توجيهاته تكون محترمة و مطاعة في إطار تنفيذ رغبات صاحب المشروع. أما إذا كان صاحب المشروع شخصية معنوية، شركة كبيرة مهيكلة مختصة في المعمار و البناء و الهندسة لها مواردها البشرية و تتمتع بشهرة كبيرة مثلا، ففي هذه الحالة يصبح المهندس المعماري الخصوصي مجرد مرؤوس على أرض الواقع و لو كان يقدّم كمسؤول على المشروع بحكم أنه يؤشر على بعض الأوراق الروتينية الضرورية بناء على معطيات معروفة تتلخص في درجة تقدم المشروع إجمالا و بصفة شمولية، فليس مطلوب من المهندس المعماري الحسابات المدققة لكافة الكميات في ما يتعلق بكل المواد المنجزة لأن تلك مهمة متدخلين آخرين متخصصين. أما إذا وقع تقصير في الأداء من طرف بعض المتدخلين، أو أي تقصير جماعي، أو أي خطأ في التقدير يمكن إصلاحه بطرق شتى، فلا يجب لأي مسؤول أو خبير أو محقق ركوب موجة الرشق بالتهم الجنائية الكبيرة فقط من أجل "راحة البال" أو لمجرد التخلص من "جمرة حارقة"، لأن من شأن ذلك تدمير حياة أبرياء. في الحقيقة القوانين في مجال إنجاز المشاريع المعمارية كثيرة و متناقضة أحيانا في بعض بنودها و المسؤوليات تبدو متشابكة يصعب فرزها أحيانا، و لكن بإعمال قليل من المنطق ينجلي الضباب و تتضح الأمور. ولكن الظاهر أن العقلية السائدة عموما كما لدى بعض الشركات الكبرى، هو الإلقاء بكل المسؤوليات على كتف المهندس المعماري حتى لما لا يكون له أي دخل في اختيار لا مقاول و لا مختبر و لا مهندس مدني إلى آخره...، حتى لما يفرضون عليه هؤلاء المتدخلون من طرف صاحب المشروع الذي يضل فعليا المتحكم في كل شيء، مما يجعل المهندس المعماري يستعمل كشماعة تعلق عليه كل الأخطاء، و أينما كان خلل و لو خارج اختصاصه المباشر فهو يظل متهما بالمشاركة في كل الأخطاء التي قد يرتكبها الغير. القوانين في مجال المعمار تشوبها ثغرات عديدة و تشكو في كثير من الأحيان من عدم الدقة و الغموض أيضا، و العقود تحرر من طرف أصاحب المشاريع كيفما اتفق بأخطائها و تناقضاتها في بعض الأحيان، و لما نضيف إلى هذا الواقع مشكل الحكامة في الشركات العمومية و الشبه عمومية و الإدارات بصفة عامة، يتعقد ربما الأمر أكثر فأكثر لمن يبحث فعلا عن الحقيقة، خاصة بالنسبة لمن تعوزه التجربة الميدانية. بالتالي فكل محقق أو قاضي تحقيق منصف نزيه على تمام الوعي بمسؤولياته الجسيمة لا بد و أن يستحضر هذه المعطيات و أن يتأمل جيدا الوضع الحقيقي الواقعي قبل أن يحمّل المسؤولية كلها على كل المساهمين في إنجاز المشاريع المعمارية بصفة عامة و بقسوة لا تطاق. فالواقع أن لا يخلو أي مشروع من مشاكل لو نظرنا إليها بمنظار القانون الجنائي دون مراعاة ظروف العمل في الأوراش على أرض الواقع، و دون مراعاة لدرجة تدني كفاءة اليد العاملة بصفة عامة و انعدام اليد العاملة المتخصصة حقيقة، و دون مراعاة لتدني أو لمحدودية جودة المواد المعروضة في الأسواق، و دون مراعاة للأعراف و التقاليد المهنية و الإدارية المتداولة على أرض الواقع و التي وحدها تمكن من الاستمرار في إنجاز المشاريع الكبرى و المتوسطة ذات الوتيرة المتسارعة في المغرب، لأقفلنا كل المشاريع بدون استثناء، و لوجهنا تهم الاختلاس، و التزوير، و الغش، و هدر المال العام، و السرقة، و النهب، و المشاركة في اختلاس المال العام للجميع دون استثناء أي أحد، لأننا سنكون قد أعملنا قانونا جافا مجحفا لا علاقة له بالواقع المعاش في مجال إنجاز المشاريع، قانون تطبيقه في غير محله يجعل اللص الحقير و النزيه الشريف في نفس المنزلة، منزلة المجرم الخطير، فعهد تطبيق مبدأ "الحق الذي يراد به باطل" لا بد و أن يكون قد ولّى إلى غير رجعة إن شاء الله، كما أن عهد الظلم و المظالم الكبرى من المفروض طبعا أن يكون قد ولّى إلى غير رجعة إن شاء الله... على سبيل المثال، قضية "خدمة ما بعد البيع" لا يمكن تكيفها على أنها "قضية نهب أو تبديد للمال العام"، و إذا حصل ذلك لسبب من الأسباب فالأمل كبير في أن يكون قضاة التحقيقات في المستوى المطلوب بشخصياتهم القوية و المرنة و المتزنة، و بتشبثهم بروح العدل و العدالة. دينا مثال حي: شكاية المواطن الذي اقتنى شقة من شركة عقارية كبرى ذات سمعة و شهرة، يعرض فيها العيوب التي شابت شقته حسب ما ورد في بعض الجرائد. فهي شكاية حركت ملفا ضخما بحجم الحكامة الجيدة بصفة عامة، و ذلك لأن ذلك المواطن استطاع أن يسلم شكايته شخصيا للملك محمد السادس نصره الله، و هذا من حسن حظنا جميعا في المغرب و كمغاربة نطمح إلى الحكامة الجيدة، فانطلقت التحقيقات و لكن كان ما كان من توجيه تهم ثقيلة جدا مبالغ فيها كثيرا على كاهل عدد كبير من الأشخاص، و من بينهم مهندسين معماريين من أطيب خلق الله من أصحاب الأخلاق الرفيعة و النزاهة الثابتة و الروح الوطنية العالية، كانت لهم مساهمة في تتبع الأعمال من بين المشرفين على مشروع من المشاريع الذي يمتاز بجماليته المعمارية الملفتة و الملحوظة و التي تشكل لوحة فنية رائعة على أرض مدينة مغربية أبية. فحسنا فعل بعض المشتكين من جودة شقق المشروع الذين اشتروا شققا ثانية و ثالثة رغم تشكيهم من جودة شقتهم الأولى... فإذا كان هذا يدل فإنما يدل على كون المشكل متعلق بالخدمة ما بعد البيع و ليس بشيء آخر. إذا كنا نطمح و نسعى فعلا و حقيقة إلى ترسيخ قيم الحكامة الجيدة في بلدنا الحبيب فلا بد أن نفكر في الوسيلة الأنجع لتحقيق غايتنا. فالتاريخ أتبث أن المعالجة القديمة عن طريق اتخاذ أكباش فداء أبرياء و في غياب أية نية إجرامية لا تجدي نفعا، لأن المسألة أكبر من مجرد توجيه تهم جنائية أو تطبيق قوانين جنائية قاسية جدا و جامدة لا تراعي حقيقة الأوضاع على أرض الواقع، من طرف بعض القضاة ممن كان هدفهم في ما مضى إرضاء رأي عام وهمي، أو تبرير وجودهم، أو خلط الأوراق، أو إضفاء نار غضب شعبي في قلب شعب وعيه و تعليمه محدودين يريد الثأر لنفسه لأنه ملّ الفساد الإداري و الثقافي و الحقوقي و النقابي و الإعلامي و السياسي و الجمعوي و الصحفي بصفة عامة، و لم يكن آنذاك يهمّه كشعب قلبه مشحون من هم الفاسدون المفسدون حقيقة و من هم المظلومون الأبرياء أكباش الفداء في أية قضية من القضايا. ا. لا يمكن لمغرب اليوم أن يكون كمغرب الأمس. مغرب اليوم أجمل من مغرب الأمس بكثير و لا بد له أن يكون كذلك. نأمل اليوم أن يكون قضاتنا المحققون أكثر حكمة واعون تمام الوعي بمسؤولياتهم الجسيمة أمام الله و التاريخ، و أمام الملك محمد السادس نصره الله، و أمام الوطن، نأمل أن ينصتوا لضمائرهم الحية فقط، و أن لا يجعلوا أبدا قضية تقصير جماعي بحكم كثرة المتدخلين و المساهمين في تتبع ورش بناء مثلا قضية جنائية كبرى بتهم غليظة قاسية بدون أدنى رحمة بالمظلومين. الإنصاف الإنصاف إن شاء الله العلي القدير الذي حرم الظلم على نفسه و جعله محرما بين العباد. و إن كان من خلل يمكن معالجته، خارج عن إرادة المخطئين إن وجدوا، فلا يستدعي بتاتا أي تهويل مرهب مرعب مبالغ فيه لا من قبل خبراء معتمدين و لا من قبل أية جهة أخرى، خاصة لما تكون حسن النية ثابتة واضحة لا غبار عليها. فمجرد قضية "خدمة ما بعد البيع" بين صاحب مشروع و زبونه بعيدة كل البعد عن "تبديد المال العام أو نهبه أو المشاركة في سرقته و ما إلى ذلك".