هل يمكن اعتبار المشروع الحداثي الذي يقوده "المجتمع المدني" و"الفعاليات السياسية" ذات التوجه التنويري هو المستهدف الرئيسي من قبل التطرف والإرهاب؟ أم أن البنية الثقافية والفكرية هي التي تعمل على إنتاج بعض الأنماط الفكرية المتطرفة؟ يبدو من خلال ما يقع اليوم في العالم، وما سبقه في السنوات الأخيرة، وما تشهده الساحة الدولية، أيضا، بعد ”الربيع العربي“ أن الأمور أخذت تسير وفق منطق واتجاه مغايرين. إذ أصبح الساهرون على تسيير الشأن العام أكثر اقتناعا بضرورة الانخراط في المشروع الحداثي، الذي يقتضي امتلاك الوعي السياسي والثقافي والحقوقي واستيعابه والانفتاح على باقي المكونات المعاصرة والتعامل معها في محاولة لإيجاد توافق يؤدي إلى تفاعل مجموع هذه المكونات من أجل خلق هوية حداثية. والحال أن الحكومات العربية قد حاولت أن تعيد النظر في العديد من مؤسساتها وطرائق تدبيرها للشؤون العامة، وهي بذلك تسعى إلى خلق قيم ديمقراطية وأسس ثقافية تعتمد على حقوق الإنسان والديمقراطية التي تقتضي إشراك كل الأطراف في تسيير شؤونهم، والاعتراف بالآخر، والاعتراف بحق الآخرين وحقهم في الاختلاف. لأن ذلك من شأنه أن ينمي الوعي المجتمعي ويدفع إلى حوار مفتوح على كل المكونات، يسمح بوجود حد أدنى للتوافق. وهذا ما تولدت عنه ثقافة لم تكن في السابق، وهي ثقافة »حقوق الإنسان« و»الديمقراطية« و»المفهوم الجديد للسلطة« و»دولة الحق والقانون« و»مبدأ فصل السلطات« و»مؤسسات الوسيط«/ »المؤسسات الإدارية المستقلة« وغيرها من المفاهيم التي وإن كان الاختلاف حولها وحول درجة مصداقيتها، فإنها بالكاد تؤكد على طموح نحو تأسيس دولة ومجتمع حداثيين لهما هويتهما وتقاليدهما وأعرافهما التي تميزهما عن باقي مجتمعات العالم. ولعل هذه الخصوصية هي التي تكسب هذا المجتمع خاصيته وقوته في مواجهة هويات وأنماط مغايرة. غير أن هذا الوجه لا يعكس حقيقة المجتمع السياسية والثقافية. فإذا كانت قضية الدين محسوم في أمرها باعتبار الإسلام دين الدولة الرسمي كما تنص جل الدساتير العربية، وإن المذهب السني جريا على المذهب المالكي في المغرب مثلا، هو المعتد به في الأحكام الشرعية والاجتهادات الفقية، وجل المغاربة يدينون بدين الإسلام، فإن هناك فئات عريضة لم تستطع أن تنسجم مع هذه التحولات، ولم تتمكن من استيعابها، وهي اليوم تسعى جاهدة إلى العيش في الحاضر و»الهنا« و»الآن« بمنطق مختلف ولاتاريخاني. وهذه الفئة قد تنتشر على شكل جماعات أو تيارات، وتحاول أن تقيم خارج الزمن الحاضر لتستلهم الماضي بكل قيمه وأفكاره ولغته وطقوسه لتطبقه في »الحاضر«. ذلك أن مفهوم الزمن عندها غير متعدد ولايختلف وهي ترى أنه بإمكان المرء أن يستحم أكثر من مرة في النهر الواحد وفي نفس المياه!؟ إن هذا الاتجاه الذي يقف في الجانب المقابل لتوجه الأنظمة الرسمية، وفي الطرف القصي من التاريخ المضاد لكل وعي زمني، هو الذي يجعل من الماضي ممتدا بدون حواجز، حيث يصبح الماضي حاضرا والحاضر جزء من الماضي. وليس الحاضر سوى صورة منحرفة لزمن ينبغي استعادته وتطبيقه بكل الوسائل، ومن ثم فإنه ليس بالإمكان أبدع أحسن مما كان، وإن الزمن وفق هذا التصور دائري ومغلق ومحكوم بالثبات إلى الأبد. من الطبيعي جدا أن تسود في المجتمعات عقليات التطرف مثلما تشهده اليوم أروبا، من امتدادات للنازية أو بعض التيارات الأصولية، لكن حين لاتضحي المسألة مجرد ظاهرة عابرة وتتحول إلى تنظيم له منظروه ومهندسوه وتشكل جماعة تملك رأسمالا مهما يضمن لها امتلاك أدوات التدمير والتواصل، فآنذاك تصبح للأمر دلالة أخرى ينبغي دراستها بصورة أكثر جدية. إن هذا الاتجاه المتطرف الذي يحمل في عمقه حقدا ومقاومة لكل مشروع نهضوي أو حداثي قد أصبح يهدد سلم المجتمعات في الداخل والخارج، بل أصبح عبارة عن تيار يريد أن يعود إلى الماضي ليسكن فيه ويغيب كل مظاهر التحول الزمني دون اكتراث بخطورة هذا الطرح المنسي من قبلهم. لهذا فإن الخطاب الأصولي الذي يكتسح كل أرجاء العالم، والمتشبع بالخطاب الديني والحقيقة المطلقة، كما يراها هو، هو خطاب يخلط عن عمد وبوعي ماكر خبيث بين فصل الدولة عن الدين، أي فصل السلطة السياسية عن الدين، وبين فصل الدين عن المجتمع والحياة. فإذا كان الفصل الأول ممكنا وهو ما استطاع الغرب تحقيقه بالفعل، وبذلك خرج من الظلام إلى رحاب العلم والتقدم والحرية، فإن الفصل الثاني عبارة عن وهم يروج له هذا الخطاب في محاربته للعلمانية، كي يكرس اتهامه لها بالإلحاد وبالتالي يخلق لنفسه مبررات لممارسة إرهابه. إنه خلط مقصود لذاته حتى يتم تبرير كل ممارساته اللاتاريخية واللاعقلانية المتخلفة. إنه لايستهدف الوعي بقدر ما يهدف إلى التشويش الإيديولوجي. لهذا كانت من وسائله المعتمدة للسيطرة على فئات عريضة من المجتمع هي توظيفه للخطاب الديني البسيط الذي يقوم على خلق التنافر والمعاداة والتناقض تجاه الخطاب المعاصر والحداثي، حيث يعمل على البحث في الوجوه الظلامية والمظلمة في التاريخ، ويستلهمها كسند شرعي لتأكيد شرعية وجوده وخطابه. وهكذا يقوم على الفتاوى التي تبيح العنف والقتل، بهدف إخضاع رغبة المجتمع الحداثي في التطور إلى الرجوع إلى الوراء عن طريق الترهيب والترغيب والتقتيل، واستعمال أشرس أنواع الانتقام. والحال، أن هذا الترهيب قد يتخذ عدة أشكال ضمن الإرهاب العلني الممارس بالدمار والذبح والتنكيل والسطو والسرقة وكافة أنواع الإجرام ، إلى أن يتخذ شكل الإرهاب الخفي الذي يأخذ شكل منشورات من قبيل »أهوال القبور« و »عذاب القبر«...، والفتاوي التي تكفر تارك الصلاة والمتخلي عنها وحالق اللحية، وتجعل الحجاب وفق شكل معين مفتاحا لأبواب الجنة، وغيرها من الأمثلة التي تعج بها أبواب المساجد والأسواق... إن هذا الخطاب الذي يرزح تحت نير التناقض والعماء وكل ضروب الجهل يعيش لاتاريخية خطرة، فهو يجسد التناقض ويحيا في أوحال الفراغ ولايستطيع أن يقدم بديلا حضاريا يحمل هويته ويقوي خطابه بمكونات تستطيع دفع الهيمنة القادمة من مجتمعات يعتبرونها »كافرة« أو »مرتدة«. بل عمل على خلق هوة عميقة بين فئات المجتمع الواحد! ولعل أهم تناقض يعيشه هذا الخطاب، هو رفضه لكل ما هو غربي ولكل ما له صلة بالحداثة والتحديث، ومقابل ذلك يوظف من أجل أعماله الإرهابية السخيفة أحدث التكنولوجيات والأسلحة، وأحدث أدوات الاتصال من هواتف وأنترنيت ووسائل النقل التي يستطيعون الوصول إليها...؟! إن استيراد آلة ووسيلة من الوسائل السابقة، يحمل ضمنيا نمط الوعي والنظام الفكري الذي صنعها، فكيف يمكن عزل النظام الفكري الصانع لها والهدف الذي صنعت من أجله؟ من المستحيل إقامة المسافة بينهما، بل إن استدعاء آلة غربية هو استدعاء لنمط فكري جاهز داخل سياق مناقض، مما يزيد من هوة الصراع ويزيد من مسافة التباعد. ولعل أهم نتيجة سيؤدي إليها هي توظيف آخر التكنولوجيات والتطورات التقنية وتحويلها إلى سلاح مدمر أو بالأحرى إلى استخدام الوجه السلبي لها. لأن هذا الخطاب يجد نفسه عاجزا عن تطوير آلياته والتحاور مع الخطابات الأخرى التي تختلف معه من حيث المنظور ومن حيث رؤيتها للعالم. وهو يقوم على أوهام خارج الزمن والتاريخ ويؤمن بمسلمات صنعها وسقط في تقديسها. هكذا يلف خطابه ب»المقدس« و»المطلق« ويسقط في ما كان يسعى إلى تجاوزه. كما أنه لايحمل أي مشروع فكري مستقبلي أو مشروع بديل يعمل من خلاله على إعادة بناء الذات وفق هوية منفتحة. إنه خطاب يريد أن يجعل من نفسه »الكل« و »المطلق« و»المستقبل« والحل السحري لداء التخلف من خلال قنوات بئيسة لم تقو على تجاوز أبسط المتناقضات، مما يجعلنا أمام تساؤل وهو: هل يمكن اعتبار الخطاب الأصولي خطابا يهدد مشروع الحداثة الذي اختاره المجتمع المغربي بكافة مكوناته وفعالياته، أم أنه خطاب يستهدف الهيمنة الإمبريالية ومعاداة الخطاب الثقافي الغربي/ المسيحي/ العلماني كما يدعي؟ إن النظر إلى الأمور بإمعان يضعنا في موقف الخوف والفزع من بعض الممارسات التي تتخذ شكل العنف والتقتيل والترهيب، وتتخذ شكل إنتاج ثقافة متزمتة وظلامية تحمل صراعا حضاريا عنيفا، إذ بالموازاة مع العمليات الإرهابية، في العديد من المناطق التي يقودها الأصوليون من مختلف الجنسيات، بشكل منظم، تنتشر ثقافة دينية لاعلاقة لها بالدين الإسلامي ومبادئه الإنسانية. والثقافة الإسلامية التي تهدف إلى السلام والسلم والتعايش الديني والاختلاف الثقافي. ونظرا لانتشار الجهل والأمية والفراغ الإيديولوجي والعقلانية وتراجع العديد من مكونات المجتمع المدني والسياسي على القيام بدورها في نشر ثقافة الحداثة ونشر الدين وفق مفاهيمه الحقيقية الصحيحة، فإن الخطاب الأصولي على الرغم من فقره وفراغه وتفاهته المعرفية، قد تمكن من استخدام مجموعة من الأدوات التي مكنته من اكتساح فئة عريضة من المجتمع المغربي والعربي عامة. وإذا كنا أمام خطر حقيقي يتهدد كل المجتمعات وفي كل أرجاء العالم ويتهدد السلم الكوني برمته، فإنه ينبغي، اليوم، البحث عن إواليات هذا الخطاب والوقوف على مرتكزاته والظروف العامة التي أدت إلى إنتاجه وتوالده وتزايد انتشاره، لأن ذلك من شأنه أن يجعلنا نضع أيدينا على البنى المتحكمة والمنتجة له حتى يتأتى معالجتها والقضاء عليها في مهدها. فإلى جانب مشروع التحديث والمشاريع الاستراتيجية الباحثة عن أفق لمجتمع عربي وخطاب فكري قوي، ينبغي أن نعي أننا أمام داء يعمل على تعثر هذا المشروع وأنه يضيع لنا من الوقت ما لسنا في حاجة إلى ضياعه. فيكفي ما ضاع من التاريخ ويكفي ما نعيشه من معضلات. ولقد آن الأوان لكي يقف كل من موقع مسؤوليته بخلق فضاء وثقافة حداثيين لا تغفل فيها الهوية العربية الإسلامية من حيث هي قيم ومعرفة و »ماض« بل »ماضينا«، و»الحاضر« »حاضرنا« ومستقبلنا لاستئصال مظاهر الفراغ والتطرف البئيس؛ لأنه يجب أن ندرك بأن الأصولية الإسلامية ليست إلا عباءة تلبس العجز عن تصور الغيرية خارج منطق الهوية الإقصائي -كما يرى محمد محجوب-. وليس أسلوب وتقنية العنف المرتبط بها إلا عجزا عن الحوار، والأصولية على العموم، هي هذا الفكر الذي لا يستطيع أن يتفكر الغيرية إلا كنفي متفاوت المدى للهوية. لذلك فإن كل الأصوليات يمكن تقسيمها إلى أصوليتين أساسيتين: الأولى يمكن إجمالها في الأصولية الغربية الأمريكية (أصولية التقدم نحو نهاية التاريخ بواسطة صدام الحضارات) والأصولية الإسلامية التي تدعو إلى العودة اللامشروطة إلى الماضي ومن ثم عودة إلى بداية التاريخ بواسطة العنف، وهو ما يتضمن صدام الحضارات من زاوية أخرى. وليس مهما أن يكون الأصولي في السلطة أو في المعارضة، أو أن يعارض نظاما سلطويا أو ديمقراطيا، إنما الأهم هو أن العنف عنده وسيلة عمل عادية يشرِّعها، ويأخذ بها مأخذ الغاية النبيلة، لأنه لُقِّنَ أن أفضل العبادات "الجهاد. غير أن ما ينبغي الإشارة إليه، في هذا الإطار، أنه في الوقت الذي استعارت الحكومات المسلمة الشيء الكثير من مؤسسات الغرب في مجال التطوير السياسي، والاقتصادي، والقانوني، فإنها أقلعت عن استبدال قوانين الأحوال الشخصية ذات المرجعية الشرعية/الإسلامية بالقوانين المدنية الغربية، واكتفت بإصلاح هذه القوانين من خلال بعض التعديلات التي أثرت في قوانين الزواج، والطلاق، والميراث. وأهم ما يثير في كل هذه التعديلات المتعلقة بالإصلاحات المؤسساتية والمدنية أنها جاءت من جانب الدولة، وليس من جانب الشعب. أي طرحت من الأعلى ولم تأت من الأسفل، إذ لم تكن منبثقة عن رغبة ومطالبة الشعب والزعماء الدينيين، بل من الحكام والنخب التي تنادي بالتحديث، وهي قليلة. وهذا يعني أنها فرضت وشرِّعت من الأعلى، في اعتماد واضح على خلفية تبريرية كون القلة المتعلمة والمتنورة هي التي ترسم معالم المستقبل والطريق بالنسبة للمجتمعات -محمد أركون-. لكن بقدر ما تطغى الحركات الأصولية، يزداد مجال ما لايمكن التفكير فيه اتساعا، وسيكبر الاستغلال الإيديولوجي للتراث وتتوقف كل محاولة التغيير الجذرية عن التحقق، بل هذا ما يعمق الهوة بين المسؤولين والمجتمع، ويزداد صناع السياسة ارتباكا وعبثية، مما يزيد من قوة الهامش. إن المستقبل القريب لا يحمل أي بوادر للانفراج والتخلص من الانزلاقات. حتي أن الواقع السياسي المغربي صار شبيها بسفينة داخل أهوال المحيط، وقد تعطلت بوصلتها وتخرقت أشرعتها.. والجميع ينتظر..! هل ستنتهي الرحلة بالغرق أم بالارتطام بصخور جزيرة لا نعرف عن سكانها ولغتهم وثقافتهم أي شيء، ومن ثم ينتظرنا بدء جديد ننتشل فيه من الحطام وقد ضيعنا أي أمل في العودة!؟ العودة إلي الذات، وإلي أحلامنا التي صنعناها! أم إن المسؤلين «يعرفون ماذا يفعلون» ومن ثم فالأصوليات كانت صناعة ناجعة وأداة من أدوات الحكم!