نقصد بالقومية في هذا المقال، ذلك الشعور بالانتماء إلى وعاء ثقافي أو لغوي أو جغرافي موحد، والإيمان بالتاريخ والمصير المشتركين، وذلك بين عدة شعوب قد تفرقها الحدود السياسية. ولا نقصد بها أي فكر فاشي أو عنصري أو شوفيني قائم على أساس عرقي ضيق أو على احتقار الأجناس البشرية الأخرى. ومن أشهر القوميات في العصر الحديث، "القومية السلافية", والتي بُنيت على أساسها دولة سابقة هي يوغوسلافيا عن طريق لم شمل 6 دُول: "صربيا، كرواتيا، البوسنة والهرسك، سلوفينيا، مقدونيا والجبل الأسود." وذلك اعتماداً على فكرة مفادها أن الشعوب "السلافية" وعلى اختلافاتها المذهبية والدينية واللغوية، توحدها هوية سلافية مشتركة. نذكر أيضاً القومية العربية، والتي لم ترَ النور سياسياً ( بالشكل الذي كان يحلم به روادها، بحيث توقفت عند حدود فدرالية جمعت سوريا ومصر لبضع سنوات قبل أن تختفي). القومية العربية كانت تحمل مشروعاً لتوحيد كل الدول ذات الشعوب الناطقة بلسان العرب، على أن تُهمَل الاختلافات الدينية والمذهبية، بل حتى العرقية. الفكرة كانت قوية في بداياتها اذ تشبعت بها، فعلياً، الكثير من الإطارات الحزبية والسياسية، إلى جانب عدد مهم من المفكرين والسياسيين من المحيط إلى الخليج. وذلك لما كان لها من فضائل سياسية وإقتصادية... تتمحور أساسا في كونها كانت ستعمل على إزالة الحدود الإمبريالية التي رسمها الاستعمار، بهدف التحكم في مناطق : شمال إفريقيا والشرق الأوسط وكذا الخليج العربي.. وتقسيمها إلى مجالات للنفوذ (استعمار عن بعد، أو ما يسمى بالنيوكولونيالية)، بين القوتين العظمتين آنذاك (بريطانياوفرنسا). كما كان سيدفع المنطقة نحو طفرة اقتصاديا ضخمة تُحقق لها اكتفاءا ذاتياً في مختلف القطاعات، لما تزخر به أراضيها الشاسعة من ثروات طبيعية، بل وبشرية أيضاً. أي أنه كان ليجعل "دولة العرب"، بالمفهوم الواسع لا الضيق، قوة إقليمية لها استقلالية في قرارها السياسي عن القوى المسيطرة على العالم آنذاك، خاصة الولاياتالمتحدة والإتحاد السوفياتي، ويغنيها عن ضرورة طلب التدخل أو التحالف مع أحدها لحل القضية الفلسطينية (التي كانت آنذاك بالفعل قضية محورية لمجمل أهل المنطقة). إلا أن هذا المشروع الوحدوي وعلى فضائله المتعددة، قد سقط ديمقراطياً في الوقت الراهن، ولم يعُد يحترم خصوصية كل جزء من المنطقة التي يستهدفها.. وذلك نتيجة تنامي الوعي القومي لل"الهويات القاتلة"، ونتحدث بالخصوص اليوم عن الهوية الكردية، في الشرق الأوسط، والهوية الأمازيغية في شمال إفريقيا، اللتين أصبحتا أكبر عائق أمام تنفيذ هذا المشروع على أرض الواقع أو حتى التفكير فيه. ولم يعد من العدل إقامة تكتل قومي كهذا على حساب هذه الهويات التي لم تعد تضع "العروبة" ضمن قاموسها السياسي والثقافي، ذلك أن غياب الشعور القومي عند فئة أو فئات من المجتمع من شأنه أن ينسف أي مشروع للوحدة على أساس قومي، ولو تحققت على أرض الواقع. ومن يوغوسلافيا تأتي الدروس.. لا نشك لوهلة واحدة أن للحالة اليوغوسلافية سياقها الخاص، بحيث عملت الإمبريالية على استغلال انهيار المعسكر الشرقي و"توازن الرعب"، لتخريب ما تبقى من المعسكر الشيوعي وضم أجزاء منه إلى مجال نفوذها.. وقد كانت يوغوسلافيا جزءاً من هذا المخطط، فتم ضرب وحدتها بوسائل مُتعددة حتى تفككت إلى دويلات. إلا أن هذا المخطط كان ليفشل أو عن الأقل ليتأخر لو لم يجد تربة ملائمة لينموا عليها، فغياب الديمقراطية عن يوغوسلافيا، واحتكار القرار السياسي من طرف المركز (حكومة بيلغراد)، أدى إلى استيقاظ وعي قومي يرى في صربيا مُحتلاً لباقي أجزاء الاتحاد اليوغوسلافي، لا جزءاً منها. كما ساهم عُنصر الدين في تسهيل عملية التفكيك، بحيث كان الصرب والمقدونيون والمونتينيغريين، حاملين للعقيدة المسيحية الأرثوذوكسية، أما الكروات والسلوفينيون فيدينون بالعقيدة الكاثوليكية، والجميع يعلم مدى التنافر الحاصل بين العقيدتين وحامليهما، وأخيراً العقيدة الإسلامية عند البوسنة. فكان كل شيء مجهزاً لإستقبال عملية "البلقنة" والتي قادتها الإمبريالية الغربية بنجاح منقطع النظير. ولهذا السبب لا نزال نرى في أي مشروع وحدوي قائم على أساس الدين الإسلامي مشروعاً آيلا للسقوط، نظراً للخلاف المحتدم بين الشيعة والسنة، بالإضافة إلى وجود طوائف إسلامية أقلية أخرى، كالدروز والبهائيين، ناهيك عن عدد لا يستهان به من المسيحيين في الشرق الأوسط واليهود في شمال إفريقيا، ما سيجعل إقامة وحدة إسلامية أمراً مستحيلا، ومجحفاً لحقوق الكثير من طوائف المجتمع الجديد المتحد. أنصار الحركة الأمازيغية ينادون بفكرة "تامزغا الكبرى"، أو الإتحاد الأمازيغي. فكرة كهذه يعاب عليها نفس ما يمكن أن يعاب على القومية العربية، فإذا كانت هذه الأخيرة تقفز على الهوية الأمازيغية في شمال إفريقيا مُحاولة "تعريبها"، فإن الأولى كذلك تتناسى الهوية العربية الحاضرة بقوة في المنطقة بلا شك. رغم كل ما قيل، فإن الوحدة باتت ضرورة ملحة وخياراً استراتيجياً للمجتمعات التي تنشد التحرر من التبعية، والاستقلال بقرارها السياسي وكذا المضي قدماً في سبيل تحقيق ذاتها وفرض نفسها قوة إقليمية أو دولية.. وهذا ما فطن له قادة الإتحاد الأوروبي، رغم كون المنطقة الأوروبية تحتوي على دول عظمى قوية اقتصاديا ولها وزنها الجيو-سياسي دون الحاجة إلى التكتل (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا).. غير أنها سارعت بإقرار مشروع الوحدة، نظراً لتحديات العالم الجديد، حيث تلعب المساحة الجغرافية دوراً حاسماً في تحديد مركز كل دولة أو تحالف في رقعة اللعبة السياسية، ويظهر ذلك من خلال مساحات الدول القائدة لعالم اليوم : ( الولاياتالمتحدة والصين وروسيا ). فعلى أي أساس يمكن بناء مشروع الوحدة للمنطقة التي تضم المغرب ؟ إذا كانت القومية العربية قد أجهضت، وفكرة الإتحاد الإسلامي تفتقر لعدة شروط تجعلها موضوعية... هُنا تبرز فكرة الوحدة المغاربية كخيار متكامل لا تنقصه إلا إرادة سياسية حقيقية ليخرج إلى حيز الوجود. بحيث لا تبدوا عليه العلل التي قد تهدد بانهياره مستقبلاً، وذلك لانسجام أجزاءه الخمسة (المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا) ووحدتها على عدة مُستويات : الهوية: تتشارك الشعوب المغاربية على مستوى الهوية في كلا الثقافتين واللغتين: العربية والأمازيغية. ما يجعلها منيعة في وجه السيناريو اليوغوسلافي. الدين: ولو أننا نؤمن بفكرة أن الدين لله والوطن للجميع، إلا أن قوة العنصر الديني وقدرته على هدم التكتلات بينة ومعروفة، لذلك تجدر الإشارة إلى أن الشعوب المغاربية موحدة على هذا المستوى أيضاً بحيث تشترك الأغلبية الساحقة منها العقيدة الإسلامية السُنية. التاريخ : لشعوب هذه المنطقة تاريخ مشترك ومتفاعل، فقد خضعت كلها للرومان في فترة معينة، ثم للخلافة الإسلامية، ثم استعمرت ونالت استقلالها بشكل متواز. كما أن الوحدة المغاربية قد سبق وتحققت على مدى قرن من الزمان في فترة حكم السلالة المُوحدية بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر. الجغرافيا : الانتماء إلى القارة الإفريقية والى شمالها بالتحديد، والى منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.. مشتركات جغرافية لشعوب المغرب الكبير. يظل مشروع الوحدة المغاربية، رغم تحقق كل شروطه الطبيعية، رهينا لشرط سياسي مفصلي، يتمثل في سيادة الديمقراطية كنظام سياسي لكافة بلدان المغرب الكبير، فحضور الديمقراطية أنجح الإتحاد الأوروبي، رغم بساطة عوامل الوحدة التي لا تتعدى العامل الجغرافي، كما أفشل الإتحاد اليوغوسلافي رغم قوة الروابط التي تجمع الشعوب السلافية. وهذه دروس ينبغي الاستفادة منها لبناء اتحاد قوي يدفع بالمنطقة إلى الأمام ولا يغرقها في صراعات هي في غنى عنها.