"سياسة" التوجيه التربوي: يقول أبو علي بن سينا في كتابه " السياسة ": وإذا فرغ الصبي من تعلم وحفظ أصول اللغة نظر عند ذلك إلى ما يراد أن تكون صناعته فوجه لطريقة، فإن أراد به الكتابة أضاف إلى دراسة اللغة دراسة الرسائل والخطب ومناقلات الناس ومحاوراتهم وما أشبه ذلك، وطورح الحساب ودخل به الديوان وعني بحظه. وإن أريد أخري أخذ به فيها، بعد أن يعلم مدبر الصبي أن ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية لكن ما شاكل طبعه وناسبه، لذلك ينبغي إذا رام اختيار الصناعة أن يزن أولاً طبعه ويسبر قريحته ويختبر ذكاءه فيختار له الصناعات بحسب ذلك، فإذا اختار له إحدى الصناعات تعرف قدر ميله إليها ورغبته فيها، ونظر هل جرت منه على عرفان أولا، وهل أدواته وآلاته مساعدة له عليها أم خاذلة، ثم يبث العزم فإن ذلك أحزم في التدبير وأبعد من أن تذهب أيام الصبي فيما لا يواتيه ضياعاً. ص86 87 بتصرف ( تقديم و ضبط و تعليق : علي محمد إسبر. ط 1 2007. بدايات. سوريا ) يطرح ابن سينا مفهوما نسقيا للسياسة ملازما للوجود بعيدا عن " الميكيافيلية"، فالسياسة ترتبط بالحياة من حيث وجوب وجودها على المستوى الأخلاقي، فهي تشمل المرء و ما حوله لتنتهي إلى الحياة كلها، لهذا نقول " السياسة التربوية " و" السياسة التعليمية " و" السياسة التوجيهية ". و قد ارتبطت لديه بمفهوم "التدبير" و " الإحكام "، و محاور كتابه كالتالي "في سياسة الرجل نفسه "" في سياسة الرجل دخله و خرجه" "في سياسة الرجل أهله " و"ولده " و " خدمه "،يقول : ( أول ما ينبغي أن يبدأ به الإنسان من أصناف السياسة نفسه باعتبارها أقرب الأشياء إليه و أولاها بعنايته، فله عقل هو السائس و نفس أمارة بالسوء، و المساوئ في طبعها و أصل خلفها و هي المسوسة) ص 65. و تبدو النسقية واضحة في قوله ( فمن رام سياسة نفسه و إصلاح فاسدها، لابد أن يعرف جميع مساوئها معرفة محيطة ( معرفة مستقصاة )، و إلا كان كمن يدمل ظاهر الكلم (أي الجرح ) و الداء في الباطن.)ص 66 يبدأ التوجيه السينوي بصيغة "إذا فرغ " التي تحيل إلى مرحلة سابقة، مرحلة تأصيلية، مرحلة "الترصيص اللغوي"، مرحلة حروف الهجاء، تعلم القرآن، معالم الدين، الشعر ( خاصة الرجز لسهولته في الحفظ ) ثم مدح العلم، بر الوالدين، اصطناع المعروف، قرى الضيف و آداب المجالسة، المؤاكلة و المعاشرة و مكارم الأخلاق. إذا كان الصبي يحتاج إلى هذه الأرضية، فكم يكفي من الزمن الدراسي ليتعلم أصول اللغة ؟ و هل الأصول تختلف من مرحلة حضارية إلى أخرى أم أن الأصول أصول باختلاف الأزمنة ؟ و هل هذه الأصول مرتبطة بالبيت أم بالمدرسة ؟ دون تحديد و لا برنامجية زمانية، نقول أن أصول اللغة هي المبادئ الأولية أي " المعلوم من اللغة بالضرورة " كي يستطيع الصبي التواصل مع الواقع و استيعاب أبجديات الحياة، فالتعليم الأبجدي ليس ترفا أو مباهاة للآخرين و شحن ذهنه بمواد قد تشتت تفكيره و قد لا تنفعه في مرحلة معينة، كتعلم اللغات الأجنبية في سن مبكرة قبل ضبط "اللغة الأم "، مما يشكل " عقدة لغوية تاريخية" نبحث بعدها عن "برامج الندم" و إصلاح توجيه ما أفسده "دواء العطار"، فهناك توجيهات تربوية لا يمكن أن نكفر عن مسارها، لأنها " اتجاه معاكس" إذا أردت إصلاحها يجب العودة إلى نقطة الصفر و إلا ستصبح كل البرامج استعجالية تنتظر " الوزير الساحر" غير الواقعي الذي يضرب عرض الحائط كل الخصوصيات و كل بداية مشوار. «صناعة الكتابة ": يشير ابن سينا في توجيهه، بعد تعلم و حفظ اللغة، إلى تخصص " الكتابة " أو "صناعة الكتابة "، و للصناعة دلالة نسقية، فالصناعة أوثق و أبقى من التجارة، لأن التجارة تكون بالمال و المال وشيك الفناء عديد الآفات، و الصناعات ذوي المروءة، حسب ابن سينا، ثلاثة أنواع : نوع من حيز العقل، و هو صحة الرأي و صواب المشورة و حسن التدبير و هو صناعة الوزراء و المدبرين و أرباب السياسة. نوع من حيز الأدب، و هو الكتابة و البلاغة و علم النجوم و علم الطب، و هو صناعة الأدباء. نوع من حيز الأيد و الشجاعة، و هو صناعة الفرسان و الأساورة. فمن رام إحدى هذه الصناعات فليفز بإحكامها، حتى يكون من أصحابها موصوفا بالفصاحة.ص73 بطرح ابن سينا يتغير مفهومنا للصناعة و الكتابة و التخصصات، و يصبح لدينا تخصص " صناعة الكتابة "، و هو مشروع على الأقل نحدد به "البوصلة التربوية" و نعرف منذ البداية أن هذا الصبي هو " كاتب" ليس " كاتبا عموميا " بل كاتبا في وزارة ما، أو مؤسسة أو هيئة عليا أو كاتبا ضمن تخصص" كتابة الواقع المجتمعي" بدلالة أبعد من الاجتماعي، أو " كتابة الدولة "، فكم تستطيع الوزارة أن تحضن أو تتبنى أو توظف من كاتب ؟ لا نقصد الكتاب العامون كمهمة إدارية بل " هيآت حرفية و أوراش بنيوية و وظائفية تكتب و توثق و تبدع و لا تقتصر على الترقين بل على الكتابة المجتمعية و النفسية و الاقتصادية و الأدبية ، و يمكن أن نسميهم " أدباء الوزارات"، أو " كتاب المجتمع "، و قد تشمل الكتابة إبداعات في مجالات مختلفة، فلكل وزارة حقلها الإبداعي و نسقها المتكامل الذي يجعل منها مؤسسة تفكر في كل جوانب موظفيها و أبنائها، كما تفعل الآن بعض الشركات الحرة في إنشاء مؤسسات للحضانة ملتصقة بالشركة تحضن أبناء الموظفين، أو المؤسسات التي تمنح منحا للطلبة على أساس أن يقدموا لها خدمات بعد تخرجهم و في التخصصات التي اتفقوا عليها بداية، و قد تصبح مستقبلا كل شركة لها مدارسها و جامعاتها، و تصبح تنافسية نسقية مجتمعية للشركات، و يمكن آنذاك أن تسير الشركات الكبرى المجتمعات بعد أن تتخلى الدولة عن مهماتها. إن تخصص" صناعة الكتابة "، حسب إبن سينا، يتضمن الرسائل و الخطب و"مناقلات الناس" و"محاوراتهم" و ما أشبه ذلك، أي شمولية نبض المجتمع، و المناقلات أي كل ما يتناقله و يتداوله الناس في الأسواق و النوادي و المقاهي و الأماكن العمومية، ألم يبدع الكتاب العرب الأدباء في أجناس أدبية من نبض المجتمع سبقت "إميل زولا" في تشخيصه لأوضاع عمال الفحم و شرائح المجتمع الفرنسي ؟ ألم يكتب الجاحظ عن فئة مجتمعية نفسية هي " البخلاء" ؟ لماذا لا يقوم فنانونا المسرحيون و السينمائيون بتشخيص هذه الفئات و غيرها من أصناف المجتمع المغربي الحرفي " الصنايعي" خاصة في المدن العتيقة الذين "توجهوا" و اختاروا الحرفة حبا و طواعية ؟ ألا يمكن أن نكتب عن فئة " المتسولين المغاربة" و نقارب الحوار الاجتماعي حول الثروة و أسباب التنمية المعاقة ؟ أليست هذه فئة غير موجهة اجتماعيا و تشكل عائقا تنمويا ؟ أليس "التوجيه الاجتماعي" لماوتسي تونغ هو الذي صنع التنمية الصينية الآن و التي تقتحم العالم؟ لن نصنع دينامية المجتمع والاقتصاد المغربي بخريجي الجامعات و المدارس فقط ، فالشعب المغربي " صنايعي" بالقوة و الفعل و دليل ذلك الحرفيون المغاربة في دول الخليج و في فيلاتهم باسبانيا و بالمدن الساحلية. ليس الصنايعي هو الشخص الفاشل في الدراسة أو الأمي الذي لم يدرس أصلا، أو قدراته العقلية لا تسمح له بالتعليم، بل هو الإنسان الناجح في حياته و الذي يكسب من صنعته، يقول ابن سينا: ( إذا توغل الصبي في صناعته بعض الوغول ، فمن التدبير أن يعرض للكسب و يعرض على التعيش منها، فإذا كسب الصبي بصناعته فمن التدبير أن يزوج و يفرد رحله )ص 88، نعم سيدي ابن سينا الصنعة كسب و تعيش و زواج، لكن المشكل في عدم تدبيرنا لسياسة التوجيه. إن الصنعة هي " طريقة السبك " لكل معرفة، و حين تتعلم تصبح " صنايعي" حسب وجهتك و اختيارك، حسب مشاكلتك و ملاءمتك، تضيف لبنة إلى نسقية المجتمع لا فرق بين اللغة و الحساب. إننا محتاجون إلى تأصيل الكتابة عن الصنعة المغربية بشكلها اليومي المعيوش بتفاعلات "الصنيعية" مع واقعهم النفسي و الاجتماعي، و بتشجيع الانخراط فيها نستطيع أن نصدر " الصنعة المغربية " إلى دول العالم وفق توجيه وطني نفتح فيه الأوراش و نشجع الطاقات و نضمن الأسواق المحلية و الخارجية، و نعبئ الإعلام لتشجيع المنتوج الوطني، نقتنيه لحاجة في حب "الصنايعي" و لسواد أعينه. بذلك سنتوجه نحو "صناعة الكتابة " و سنحيي أمجاد الجاحظ وبديع الزمان الهمذاني و الحريري، الكتاب العرب الواقعيون الذين شخصوا الواقع العربي و لم يكونوا في أبراج عاجية بعيدا عن " المناقلات الواقعية ". الصنعة الأدبية العلمية: يطرح ابن سينا توجيها عقلانيا للصبي، فبعد" العلم و الحفظ اللغوي" و" صناعة الكتابة" تأتي "مطارحة الحساب" " و طورح الحساب و دخل به الديوان و عني بحظه "، فليس هناك فصل بين التخصص الأدبي و العلمي في أبجديات التوجيه التربوي، هذا الفصل القيمي بين المجالين يوجد في دولنا و تعليمنا مبكرا، لغياب النسقية، لا نميز بين " المعلوم من اللغة بالضرورة " و المشاكلة و الاحتياج الذاتي، فلا يوجد مجتمع بدون أدب، فالأدبيون ليسوا عالة على الوزارة أو أن آفاقهم محدودة و سوق الشغل مستنزفة، فلو كنا نفكر ب" عقلية نسقية " ما وقعنا في " كارثة التقاعد " المنتظرة، فلن تجد الدولة مستقبلا لا أساتذة أدبيين و لا علميين لتلبية حق الحياة و " شرعة التربية"، لأن التوجيه كان في أصله انفصاميا لا يراعي الاحتياجات و لا الاختيارات الواقعية النفسية والزمنية و لا " المشاكلة و المناسبة " بتعبير ابن سينا. إن الحساب هنا ليس كمقابل لمادة الرياضيات بل مقابل لاستعمال العقل، و لا يوجد أي شخص في أي توجه لا يستعمل العقل و إلا فقد خصوصيته الإنسانية، و التوجهات الحديثة الغربية تلغي الحدود بين التخصصات، ف" جوليا كريسيفا " تجمع في أبحاثها بين الرياضيات و علم النفس و اللسانيات، و المصطلحات تهاجر بين التخصصات دون تأشيرات. و يستمر ابن سينا في رصد " فقه التوجيه " بالتركيز على الإرادة و الصناعة " ما يراد صناعته "، فالصناعة اسم عربي متأصل، استعمله العرب في الأدب فسمى أبو هلال العسكري كتابه ب"الصناعتين" أي الشعر و النثر، و سمى ابن جني كتابه " صناعة الإعراب "، و كانت تعريفاتهم تأخذ دلالاتها من المجالات الصناعية، فالجاحظ يقول : ( المعاني مطروحة في الطريق يأخذ منها العربي و العجمي، لكن العبرة في طريقة السبك..) إنها حرفة "السباكة" التي تصنع السبائك، فنحن أمام " السبك التربوي". إن " الصنعة " هي قدرات و مهارات و خبرات و كفاءات و انجازات، أليست هذه هي مكونات الطاقة البشرية ؟ فهل يعدم المغاربة هذه المكونات ؟ أليست لنا طاقات و إرادات و إمكانات؟ فلما السلبية ؟ هل يوجد شخص في الكون لا يقدر على فعل شيء؟ فالعدم لا يمكن أن يكون موجودا، هو إحساس بالوجود، فحرروا الإحساس من العدم يا "صناع التوجيه"، أنتم مصدر الطاقة لمن لا يحس بطاقته، لمن حكم على نفسه بالعدم و الموت المعنوي. لقد كان العرب "صنايعية " في الأرض لا مجال لديهم للسلبي العاجز الخامل، كانوا يفلحون الأرض بأظافرهم، و ينسجون ثيابهم و يصنعون آلياتهم، و يمشون حين يمشون. و بالخطوة و بصناعة الحدث عرفوا الفعل: ( حدث في الزمان و المكان ) دون لف أو دوران، فالحدث صناعة يخلقها "صناع التوجيه"، لديهم البوصلة و المحرار الحقيقي للتغيير. أما بعد : إن "التوجيه التربوي" ذهنية و تفكير، إستراتيجية و انجاز، مقاصد و مقاصدية، معامل لصناعة الطاقة البشرية، توجيه و تكوين ل" صنايعية" بالقوة و بالفعل، يحركون الاقتصاد و الإنتاج المحلي، و يفتحون الأوراش، و يخلقون فرص الشغل، و يحركون الإمكانات الجهوية لكل المناطق، و يبحثون عن الطاقات المتجددة. إن المغربي " صنايعي" بالتاريخ و الجغرافيا، يخرج من يده الذهب إذا أراد، أو ملك " إرادة صناعة التغيير"، فالله تعالى لم يربط التغيير بالمجتمع و لا بالنفس مباشرة، بل ب " ما بالنفس" و "ما بالقوم"، فالنفس و المجتمع يظلان بخصوصياتهما" الهوياتية"، لكن الإرادة هي " مادة الصناعة" و مجال التبلور و الصقل و التوجيه. فما الخطط التي أعددناها لتطوير توجيهنا التربوي ؟ كيف نحدد التعالقات بين التوجيهات التربوية و الأنساق المجتمعية ؟ و كيف نتجاوز إسقاط التوجيهات التربوية الغربية على نسقنا التعليمي التي لا تراعي الخصوصيات ؟ كيف نوفق بين التوجيه التربوي و التوجيه الإعلامي؟ كيف تلبي توجيهاتنا التربوية احتياجات سوق الشغل ؟ أسئلة توجيهية نتبوصل من خلالها في دراستنا النسقية لتعليمنا.