عندما نتابع تصريحات ومداخلات بعض وزراء حزب "العدالة والتنمية"، سواء خلال اللقاءات الحزبية والتجمعات الانتخابية، أو من خلال التصريحات الرسمية واللقاءات والنقاشات السياسية بعد تولي الحزب رئاسة الحكومة وتحمله مسؤولية تدبير عدة قطاعات وزارية، يواجهنا السؤال حول إن كان بعض أعضاء نخبة الحزب يدركون فعلا مضمون ما يقولون، وإن كانوا على وعي بجسامة ما يصرحون به وبالكيفية التي يصيغونه بها، كما يحصل خلال تلك التصريحات التي كثيرا ما تنم عن حس اندفاعي كبير وخشونة في التعبير واستخفاف بعقول المتلقيين من المواطنين والمواطنات يصل حد الاستفزاز؟ أم أن الأمر يتعلق بخرجات مدروسة وخيارات واعية في التصور والموقف تهم السياسات العمومية والنموذج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمغرب الغد كما يتصورونه ويطمحون إليه، وهي الخيارات التي لا تنفك تفصح عن طبيعتها السياسية والإيديولوجية يوما بعد يوم، مما يدفعنا لمناقشتها وإبداء الرأي حولها والتنبيه لخطورتها على المستقبل! آخر هذه الأقوال ما صرح به وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر لحسن الداودي لإحدى الجرائد الوطنية حيث قال بأن البلاد ليست في حاجة إلى كليات الأدب بل إلى مهندسين، وعودته إلى الموضوع خلال لقاء إعلان انطلاق "البكالوريا المهنية" بالرباط، حين أطلق العنان للسانه ليتهجم بشكل عنيف، وباعتماد مضمون خطابي لا علمي وغير متزن، على مكانة الشعب الأدبية في منظومة التربية والتكوين وعلى خريجيها الذين وصمهم بأنهم عالة على أنفسهم وعلى ذويهم، ووصفهم بالخطر الداهم على المغرب، كذا! للتذكير فسؤال التوجيه المدرسي وضرورة إعطاء الأهمية اللازمة للتكوين في الشعب العلمية والتقنية، وحتى إثارة الانتباه إلى ضرورة مراجعة حيز التكوين في الشعب الأدبية بغرض ملائمة المنظومة التربوية لحاجيات سوق العمل...مواضيع قيل فيها الكثير ووجه الكثير من النقد بشأنها للمنظومة التربوية منذ سنوات، لذا فالاستمرار في هذا المسار أو تقديم إضافات واقتراحات والقيام بإجراءات تدبيرية وعلاجية، ما كان يتطلب من الوزير لغة العموميات والمصادرة والتعنيف والحكم القيمي المسيء. لست أدري حقيقة إن كان الوزير الذي يتولى تدبير وزارة من أكثر الوزارات والقطاعات العمومية تطلبا للرزانة والإلمام السياسي والاطلاع على الأدب والفنون وامتلاك الوعي الفكري والثقافي، يعي جيدا صريح كلامه العنيف وأبعاد الأحكام القيمية التي تسيء إليه قبل غيره، أم أن كلامه لا يعدو كونه تعبيرا صريحا عن تصور حزبه وجماعته للأدوار المراد للمدرسة المغربية ولمنظومة التربية والتكوين أداءها، والتي يتضح كل مرة بأن الأدب والعلوم الإنسانية والفن والتربية عليه، وكل ما يرتبط بها من مواد وشعب، تعد أبغض المجالات وأتفه المعارف وأثقلها بالنسبة للجماعة الإسلامية، وذلك سواء عن جهل أو عن إدراك إيديولوجي وسابق إصرار! فهل يشكل الأدب وخريجو شعبه الخطر حقا، وعلى من؟ ربما كان الأمر كذلك بالفعل، لكن ليس على مردودية المدرسة والجامعة واستقرار المغرب ومشروعه التنموي، بل على نمط الإنسان والقالب التربوي الذي ربما يبتغي السيد الداودي وجماعته سبك الأجيال القادمة على شاكلته، وعلى النموذج المجتمعي والتصور القيمي والتكويني المنمط الذي يطمحون لإرسائه. لنذكر بالسؤال الإنسي والتربوي الذي ما لبتت تطرحه عدة مجتمعات وأنظمة سياسية وتعليمية ونخب علمية وثقافية: ما جدوى تدريس الأدب والفنون في الأنظمة التربوية العصرية وفي مدرسة اليوم؟ فقد أوضحت العديد من الدراسات والنقاشات الفكرية والبيداغوجية التي تناولت السؤال بأنه بالاطلاع على إنتاجات الثقافات والآداب والفنون وتذوقها وتحليلها خلال مسار الدراسة والتنشئة الاجتماعية يتمكن الفرد والتلميذ من بناء معنى وجوده ويدرك هويته واختلافه، ذلك أن الإبداع يعكس الواقع والحساسيات الجمالية، وينشر قيم الرغبة والحرية، وهو انتفاض ضد الاستلاب وأشكال الخنوع والتنميط والقوالب الجاهزة. وكما عبر عن ذلك جاك لاكان بكل عمق، فبتدريس الأدب والفنون تواجه المدرسة وتستوعب أشرس أشكال الهوس القابعة في الإنسان: الجهل والضغينة. وبالمقابل علينا أن نتساءل لماذا تناصب بعض التيارات المحافظة، الدينية والسلطوية، العداء المنهجي لكل مناحي العلوم والإبداع الإنسانين التي من شئنها بناء الفكر وتربية الحس النقدي والروح النسبية وعلى رأسها الآداب والفنون والعلوم الإنسانية كالفلسفة وعلم النفس والسوسيولوجيا والتاريخ والسيميولوجيا وعلم الأديان المقارن...الجواب الواضح يعود لكون هذه المعارف والآداب والفنون لها القدرة على تحرير الفكر من دوغمائيات العقل الأحادي عبر تكوين مقدرات تحليلية فعالة وبناء فهم وإحساس عميقين بالحالة الإنسانية في أبعادها الفردية والجماعية وموقعتها وجوديا وقيميا ورمزيا بما يكفي من التجرد والإدراك الكفيل بكشف زيف الأساطير المؤسسة لمختلف أشكال الاستبداد الفكري والسياسي، خاصة المرتكز على خوصصة واستغلال المقدس. بالفعل، ليس مستغربا صدور مثل هذه التصريحات من منتسب للحزب الذي وصف أحد واعظيه الفن التشكيلي ب"الزبالة"، وتزامنها مع تحركات ماكرة تستهدف النيل من حضور مادتي الموسيقى والفنون التشكيلية في المدرسة المغربية ومنهاجها الدراسي...كما أن هذه المواقف لا يمكن إلا أن تعتبر عادية عندما تصدر عن تيارات سياسية تقوم على اليقينيات والمسلمات وفكر المطلق وأخلاق السمع والطاعة، وهي التيارات الذي لا تنفك تنادي بأهمية امتلاك ناصية العلوم، لكنها تقف في ذلك عند "العلوم الشرعية" والعلوم المحضة كالرياضيات والفيزياء والكيمياء...باعتبار أن هذه الأخيرة، وعلى أهميتها الكبيرة، علوم مجردة من أي حمولة قيمية، وبالتالي فأقصى ما تحققه هو تكوين ذكاء تطبيقي وخبرة عملية تخصصية لدى الفرد، مما يسهل على أصحابنا تصيد الهشاشة الفكرية وملء الفراغ الوجداني لدى فئات واسعة من الشباب المنتسبين للحقول العلمية والمفتقدين لكثير من ملكات الوعي والحس النقدي والحصانة الفكرية. ولا أدل على هذا ملاحظة كيف أصبحت بعض كليات العلوم ومدارس المهندسين مسارح لخطاب الدوغما وللاحتفاء بوعاظ التطرف والمهرجين ممن يثيرون انبهار "العقل العلمي" ومهندسي المستقبل، بعد أن كانت هذه المدارس في الماضي نموذجا رائدا وفضاء لتكوين النخب المتنورة والنقاش حول قضايا الفكر والأدب والإبداع الإنساني! فبدون قيم الأدب والجمال والفكر المتجرد وصقل الخيال وتذوق الفنون وامتلاك الحس والفكر النقديين، سيبقى خريجو مدارسنا وثانوياتنا مجرد حاملي كفايات معرفية وتقنية مجردة وجافة، ومواطنين بدون خيال أو مقدرة إبداعية وذوق وإدراك، مما يحولهم إلى فريسة سهلة للإديولوجيات والمضامين الوجدانية التبسيطية والمتطرفة، ويقوض حسهم المواطنتي ووضعهم الإنساني. أما أسئلة البطالة وتردي مستوى التحصيل العلمي وعدم ملائمة الشواهد الجامعية لحاجيات الشغل التي يتذرع بها السيد الوزير فتلك إشكاليات مركبة آخر من يتحمل المسؤولية فيها هم أبناء الشعب الذين انبرى لتجريحهم، بينما كان المنتظر منه ومن فريقه الحكومي هو إيجاد الحلول الحقيقية لهذه المشاكل بما يقتضيه ذلك من القيام بتشخيص ودراسة معمقة وموضوعية حول أسباب تردي المستوي التعليمي بالمغرب منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، بدل سلك الطريق السهلة بازدراء حقول إنسانية وازنة وتخصصات معرفية حيوية، ومهاجمة ضحايا سياسات تربوية لم يكن لهم يد في سنها، وبأسلوب لا ينم سوى عن قلة في الحيلة وعوز في اللياقة. أما بخصوص مبادرة "البكالوريا المهنية" المستعجلة المعلن عليها، والتي جاءت تصريحات السيد الداودي في سياق التقديم لها، فتطرح بدورها إشكاليات جدية وعديدة، تربوية وإنسية في علاقة مع فلسفة منظومة التربية والتكوين والغايات الكبرى للمدرسة المغربية، ذلك أن المؤسسة التعليمية والتربوية هي قبل كل شيء فضاء لتكوين الفرد معرفيا ووجدانيا أي مجال للتنشئة الاجتماعية وبناء شخصية فعالة ومتوازنة...لذا فلا يمكن تحت أي طائل اختزال دور المدرسة المغربية في البعد التكويني العملي، أي تحويلها لمؤسسات للتكوين المهني على حساب أدوارها التربوية الأخرى، اللهم إذا ما كان الهدف هو تخريج يد عاملة طرية ورخيصة على مقاس حاجيات النخب الاقتصادية والاجتماعية المحلية والأجنبية المهيمنة. وبدل الاستشهاد بنجاح تجارب الدول الأخرى في هذا المجال فيجب أخذ هذه المقارنات بكثير من التحفظ بالنظر للفروق الذاتية والموضوعية الشاسعة بين منظومتنا الثقافية والتربوية مع نظيراتها في تلك الدول، إضافة إلى أن نظام الشعب والبكالوريا في المغرب يتضمن ومنذ سنوات عديدة تخصصات تقنية وفنية متعددة بما في ذلك جدع مشترك تكنولوجي وعلوم المهندس التي أحدثت مند 2005، والصناعة الميكانيكية والإلكترونية والكهربائية والمعمارية والأنفوغرافيا والفنون التطبيقية التي يمتد حضورها بين تخصصات وشعب البكلوريا إلى أكثر من 25 سنة، إضافة إلى اعتماد نظام أقسام التقني العالي BTS في بعض التخصصات، مما يتطلب تقييم نظام التكوين الحالي وتوسيع قاعدة المستفيدين منه، وتعزيز آفاقه المهنية قبل الخوض في أي تجربة جديدة قد لا تختلف من حيث أهدافها وبنيتها البيداغوجية ومحتوياتها التكوينية، في أحسن الأحوال، عن القائم حاليا، بل أنها قد تواجه نفس الواقع والمعيقات التي تحول دون تحقيق الأهداف التي أحدثت من أجلها وبلوغ الإنتظارات التي تعد بها!