رحل عنا اليوم عمود من أعمدة الفكر المغربي المنتج وعالم من طراز العالمية في المستقبليات، ربى على أيديه ثلة كبيرة من الأجيال، وعكف على مشروع كبير تماهى فيه عن كل أبجديات الفساد والاستبداد، ليلمس الجرح وليعالج فيه العمق، سبر أغوار النظام العالمي الجديد، وانمحاء القيم في ظل غياب قيمتها في المجتمعات والدول وغلبة النظام الرأسمالي الفرداني الذي يغلب قيمة الفرد على قيمة الجماعة والذي يستحضر إثارة المال على قيمة الإنسان، ويفضح أنساقه ويعري ألوانه ويساير أسماله. بعد الحرب العالمية الباردة التي كانت بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدةالأمريكية تنبأ المنجرة بحرب حضارية أولى، وهي حرب الخليج الأولى، فكان سباقا إلى الحديث عن صراع الحضارات أو ما يعرف أحيانا باسم صدام الحضارات في أوائل التسعينيات. ثم جاء بعده الباحثان صامويل هنتنجتون وهو أمريكي الأصل والثاني هو فرانسيس فوكوياما الياباني الأصل والأمريكي الجنسية، ليرسم معالم عالم جديد وخط مسار السياسة العالمية على مدى 30 سنة. المرحوم البروفسور المنجرة تنبأ في لقاء سابق منذ سنوات مع قناة الجزيرة بهبوب ربيع التغيير بالعالم العربي، حينما ربط استمرار الدكتاتوريات في العالم العربي باستمرار مصالحها مع الغرب، وضرب لذلك نموذجا بما حدث في العراق وما حدث للمرحوم صدام حسين حينما افترقت المصالح بين النظام الحاكم في العراق وبين الغرب. وربط المنجرة دائما أن السبب الأساسي لقيام الحروب في العالم هو غياب القيم، لينتقد المنجرة تواطئ النخب بالدول العربية مع أنظمتها المستبدة في الخارج والداخل، على اعتبار أن النخبة لم تبرهن عن دفاعها على الوطن في مجموعة من الدول والنزاعات. المنجرة رحل اليوم وترك ترسانة كبيرة من المؤلفات تحتاج إلى دراسة وعمق قويين، وتحسيس كبير من طرف الأجيال الحالية والصاعدة بقيمة هذا الرجل، وذلك يحتاج لرجال أكفاء يحملون مشعل المنجرة أينما حلوا وارتحلوا ويحملون فكره والقيم التي دافعوا من أجلها. المنجرة رحل جسدا وهذا لا ينكره جاحد، لكنه مازال حيا في قلوبنا روحا وفكرا، المنجرة في حياته كان يرفض خطاب المظلومية أو أن يحسب إلى جهة ما أو تلك، وهذا ديدن المثقف والمفكر والعالم، كان رمزا للكفاح والنضال والالتزام بمبادئه وخطه رغم كل الضغوطات الداخلية والخارجية التي كانت تظهر من خلال الندوات والمحاضرات التي يحضر فيها هذا العلم الكبير. المنجرة كان يفرح دائما بالأطفال والشباب المغاربة ويبتسم قائلا "هؤلاء هم مستقبل الوطن"، المنجرة شامخ ويريد منا أن نجعله شامخا دائما في أعيننا من خلال إعلاء منارة فكره وما دافع من أجله طوال حياته بغض النظر عن كل ما دفعه من أجل ذلك، فهو نموذج لا يقل شأنا عن غاندي أو مانديلا، بل هو نموذج وطني حي عن الفكر المستنير الذي حان الوقت اليوم للعمل قدما من أجل تنزيله وتوريثه. * عضو التنسيقية الوطنية في حملة "معا من أجل تكريم الدكتور المهدي المنجرة"