سؤال واضحٌ وضوحَ الشمس في رائِعَة النهار، كما يُقال. والجوابُ الواضحُ وضوحَ السؤال أن المخزنَ يريد من جماعة العدل والإحسان أن تخضعَ له كما خضع الآخرون. من هم هؤلاء الآخرون؟ وما المقصود بخضوعهم؟ من هم هؤلاء الآخرون؟ الآخرون هنا هم المشاركون في "اللعبة السياسية"، كما صنعها المخزنُ، ووضعَ قواعدها، وحدّد شروط القَبول والمشاركة فيها، وهيّأ ميدانَها ورسم حدودَ هذا الميدان. بعبارة أخرى، هؤلاء الآخرون هم، بالتحديد، الأحزابُ السياسية، التي باتت تشكّل "الواجهة الديمقراطية" لدولة الاستبداد. فلولا هذه الأحزابُ التي قبلت، عن كره أو طواعيّة، عن رغبة أو رهبة أو هما معا، وفي ظروف خاصة، ولأسباب معيّنة قبلتْ أن تكون "دُميةً" بيد المخزن يلهو بها كيفما يشاء، وخادما طيّعا لا يعصِي لسيّده أمرا، وأرضا بُورا لا تُنبت إلا ما يبذُره المخزن وما يشتَهيه، ولاعبا في الملعب لا يتحرك إلا كما تتحرك الآلة المُبرمَجة وفق إشارات المُبَرْمِج[بصيغة الفاعل] وأوامره وتعليماته باختصار، لولا هذه الأحزابُ التي قبلت ورضيت، لسبب من الأسباب، ولهدف من الأهداف، أن تلعبَ دور الديكور في مسرحية رديئةٍ نصّا وإخراجا، لَمَا كان للاستبداد في بلادنا هذه الصولاتُ والجولات، ولما كان عُمْرُ دولة الجبر والتعليمات قد طال إلى هذا اليوم، ولما كان سيفُ الظلم والإكراه والإذلال والإهانة والاحتقار قد أرْدَانا إلى الحضيض الذي نحن فيه، في مجتمعنا وفي مؤسساتنا وفي سائر خدمات شؤوننا العامة. في هذه الأيام انفجر الأستاذ مصطفى الرميد، وهو رئيس فريق حزب العدالة والتنمية في مجلس النواب، انفجارا له، في اعتقادي، مغزى كبير، وهو مثال حيّ ومعبّر لِما أنا بصدده الآن؛ لقد انفجر الرجل بعد أن بلغ به الضغطُ مبلغا لم يعد يحتمله. لماذا؟ لأنه باختصار رفضَ أن يظلّ ديكورا في واجهةٍ ليس وراءها إلا القمع والمنع والإذلال والإكراه، أيْ رفضَ أن يلعب دور "الكومبارس" في المشهد السياسي والبرلماني المغربي، حسب تعبير النائب المنفجر. لقد فضح الأستاذ الرميد، بالكلام القليل الذي صرّح به، اللعبةَ التي يُسمّونها "ديمقراطية"، وكشفَ، بتجربة الممارس الذي خالطَ وعايش ورأى وسمع وكابد وتأذّى وصبر وتحمّلَ وتحمّل كشفَ عن المخبوء وراء الشعارات والأشكال والأصباغ؛ مُمثّلون للمواطنين يُراد لهم أن يكونوا "ممثّلين" حقيقيين في مسرحية حقيقية. وإذا ما أراد هذا النائبُ أو ذاك أن يخرق قواعد التمثيل، وسعى متمردا من أجل ممارسة مهامّه كما يجب، فإنه يُواجهُ بأنواع من التضييقات والإهانات التي عبّر عنها نواب حزب العدالة والتنمية. كونوا ديكورا، كما هو مُبَرْمَجٌ لكم في اللعبة، واسكتوا، يقول لسانُ حالِ دولة المخزن، وإلا فأنتم تُسيئون إلى حرمة المؤسسات، وتستخفون بإرادة المواطنين الذين وضعوا ثقتهم فيكم. وقدْ يُتّهمُون، اليوم أو غدا، بأنهم خارجون على الجماعة، شاقّون لعصا الطاعة، كما اتُّهِم البرلمانيون الاشتراكيون في الماضي، حينما رفضوا الامتثال لنتائج استفتاء 30ماي1980، المتعلق بالتمديد لولاية المجلس النيابي، فلم يجدِ الحسنُ الثاني، رحمه الله وغفر لنا وله، منْ سندٍ لإدانتهم إلا أن يرميَهم، بصفته أميرا للمؤمنين، بالخروج على الجماعة. الْعَبوا دورَ "الكومبارس"، كما يريد المُخرج المتحكم في خيوط اللعبة، وإلا فأذَنُوا بحملةٍ وحملاتٍ فيها من عناصر الضغط النفسي والتجريح الشخصي والاتهام والإدانة، ما يكفي لإرجاعكم إلى الجادّة، وجَعْلكم تلتزمون بما يجب عليكم في "دفتر التّحملات"، حينما تمّ قبولكم للمشاركة في اللعبة المخزنية. مسكينٌ هذا النائب المنفجر؛ لقد قامت دنيا آلةِ الدعاية والردع والزجر المخزني في وجهه، لأنه تجرأ أن يقول ما لا يُقَال حينما نكون من أهل الدار، ونأكل من المائدة نفسها. لم يكتفوا بما قالته في انتقاده والتشنيع عليه الصحافةُ المجنَّدةُ لخدمة المصلحة المخزنية. وأيضا لم تكن تصريحاتُ خصوم حزب العدالة والتنمية السياسيين الطاعنةُ الشاجبةُ المُدِينةُ لموقف الأستاذ الرميد بالتي تفي بالتوبيخ والإرهاب والتأثير النفسي المطلوب، ولذلك كان ضروريا أن تصدر ثلاثة بيانات من ثلاث جهات تمثل كلّها رأيَ الدولة المخزنية، وهي مكتبُ مجلس النّواب، والغريب أن من أعضاء هذا المكتب ممثلا عن حزب العدالة والتنمية، ومكتبُ مجلس المستشارين، وأربعُ وزارات في مقدمتها وزارة الداخلية أمّ الوزارات، كانت وما تزال. ثلاثةُ بيانات، منها بَيَانَا مكتبي مجلسي النواب والمستشارين، اللذان ذهَبا في الاتهام والطعن والإدانة والتّشهير كلَّ مذهب، ولم يقْتصدا ولا تحرّجا في استعمال ألفاظ وعبارات نارية تذكرنا بما قاله الحسن الثاني، رحمه الله وغفر لنا وله، في حق النواب الاشتراكيين الذين انسحبوا احتجاجا على التمديد لمجلس النواب سنة1980، في خطابه الذي افتتح به الدورة البرلمانية في أكتوبر1981.[يُراجع نصّ هذا الخطاب في الرابط التالي: (http://doc.abhatoo.net.ma/spip.php?article602)] إذن، كما في المثل الشعبي: "ليس دخولُ الحمّام كالخروج منه"، وتأويلُه أن من قبِلَ المشاركةَ في اللعبة المخزنية، عليه أن يبقى لاعبا، حسب ما هو مرسوم له، إلى آخر المطاف، وإلا فإن ثمن خروجه من اللعبة قبل النهاية سيكون غاليا ومكلفا. قلت في بداية هذه المقالة: إن المخزنَ يريد من جماعة العدل والإحسان أن تخضع له كما خضع الآخرون. ثم سألت: من هم هؤلاء الآخرون؟ وما المقصود بخضوعهم؟ وقد عرفنا، في إيجاز، من هم هؤلاء الآخرون، ونعرف فيما يلي: ما المقصود بخضوعهم؟ المقصودُ بخضوعهم أنهم رَضُوا بأن يكونوا تابعين مُذعنين طائعين، ليس لهم من الإرادة والاستقلالية ما يؤهلهم ليقولوا: "لا"، أو ليحتجوا أو يرفضوا أو يعترضوا. الخضوعُ هنا بمعنى التسليم من غير رأي ولا تفكير ولا نقاش، وهو فعلٌ يكون من المغلوب تجاه الغالب، ومن المملوك المقهور نحو المالك القاهر. يقول المخزن: افعلْ أو لا تفعلْ. فليس للخاضع أمام هذا الأمر إلا أن يقول: سمعا وطاعة، أي "نعَم سيّدي". قد يسأل سائل مخدوعٌ بالمظاهر والشعارات: كيف يمكنُ أن يَصدُق هذا على أحزابٍ لها مؤسساتٌ مستقلة، ومؤتمرات وهيآت ومجالس تَتخذ قراراتِها بحرية، وتَختار برامجها وتحدِّد توجهاتِها من غير أن تخضع لأية جهة؟ كيف يجوز أن توصف مثلُ هذه الأحزاب بأنها مستسلمة خاضعةٌ لا تقول "لا"، ولا تحتج، ولا تعترض، ولا تناقش؟ نعم، هي أحزابٌ لها ما هو معروف من المجالس والهيآت والمؤتمرات، وهي حرّة، كما يظهر، وكما نرى ونسمع، في خطاباتِها وفي قراراتها، لكن ذلك شأنٌ مع ذاتها، وبين أعضائها ونشطائها ومناضليها؛ إنّ لهم، فيما بينهم داخليا، وفيما بينهم وبين الناس عموما، أن يقولوا كيفما يحلو لهم، وأن يدبّجوا الخطب النارية، وأن يصولوا ويجولوا بالكلام في البرلمان والمهرجانات واللجان والبرامج الحوارية في الإذاعات المسموعة والقنوات المرئية، وفي غيرها من المنابر والظروف والمناسبات، لكن الشرطَ الأساسَ دائما في كل هذا، بل الخطّ الأحمر الذي وراءه الموتُ الزُّؤام، هو عدمُ الاقتراب من حِمى الدولة المخزنية. قُلْ ما تشاء فيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين الناس، ولْتتعارضْ الأحزابُ، ولْتتنابزْ بالألقاب، ولْتتراشقْ بالاتهامات والتجريحات، ولْتتهارشْ في بثٍّ مباشر على التلفاز، ولْيلغُ كلُّ واحد بلَغَاه، لكنْ بشرط أن تبقى أعتابُ المخزن مقدّسَةً مُنزّهَة مُعظَّمَة مُبَجّلة، لأنها أكبرُ وأطهر وأعلى وأشرف من أن تنزل إلى مستوى خُدّامها ومملوكيها وأعوانها. التنافسُ بين الأحزاب في النظام الديمقراطي الحقّ يكون بين برامجَ واختيارات سياسية ورؤى ومناهج متباينة ومتعارضة، وتكون الغايةُ منه حيازةَ الثقة اللازمة من أجل ممارسة سلطة فعلية في تدبير شؤون الدولة/المؤسسات. أما التنافسُُ في اللعبة الديمقراطية المخزنية، فالغرضُ منه، أساسا، هو حصول الفائز على ما يشبه الرخصة أو الامتيازَ لخدمة مشروع الدولة وتنفيذ برامجها مقابلَ ما تجود به هذه الدولة على أعوانها المُنفّذين من رواتب وعطاءات وامتيازات. الأصلُ في اللعبة أن يظهر الخاضعُ المُمثّلُ(الكومبارس) وكأنه مستقل في إرادته، وحرّ في تفكيره واختياره، ومسؤول عن برنامجه وقراراته، ووراء هذا الظاهرِ الكاذبُِ، هناك الإرادة المخزنية التي لا يجرؤ أحد أن ينافسها، أو أن يراقبها ويطالبها بحساب، صغيرا كان هذا الحسابُ أم كبيرا. عندما تتقدّم الأحزابُ اللاعبةُ المُمَثِّلَةُ الخاضِعةُ ببرامجها في الانتخابات، التي نعرف كيف تجري، وكيف يُحضّر لها، وما هي القوانين التي تتحكم فيها، وما هي الأهداف المرسومة لها- عندما تتقدم هذه الأحزاب ببرامجها، وتخطب في الناس بالخطب النارية، وترفع الشعارات، وتعِدُ وتحلف وتقول وتقول وتقول، فإنها تكون تعلمُ، والعُرفُ ونصوصُ الدستور وواقع الممارسة تؤكد هذا العلمَ، وتجعلنا جميعا نعلمُ، أنها إنما تتنافس من أجل خدمة برنامج يُحضّر في جهة أخرى ليست مسؤولة أمام أية جهة، وأنها تسعى من أجل امتيازات، مادية ومعنوية، ذاتية، حزبيةٍ أو شخصيةٍ، لا علاقة لها بخدمة المصلحة العامة، لأن الأداة الأساس التي يمكن بها خدمة الأمة، أو على الأقل يمكن بها تنفيذُ برنامج يُظن من ورائه الخيرُ للأمة، هي امتلاك صلاحية وضع السياسات وسلطةِ اتخاذ القرار، وهي أداةٌ لا يمكن أن تحصل بيد الأحزاب مهما كان فوزها ساحقا وشعبيتُها كبيرة، لأن الدستور الممنوحَ ينصّ على هذا، والعرفَ السائدَ يؤكده ويزكيه ويرسّخه. إذن، فَلِمَ التمثيلُ أمام الناس، وإطلاقُ الوعود، والحلفُ بالأيمان المغَلّظة؟ ومهما يقلْ المشاركون الخاضعون في تأويل مجريات اللعبة سياسيا وقانونيا ودستوريا، ومهما تكنْ حيلُ فقهاء المخزن الدستوريين لتسويغ هذا "المسخ السياسي"، الذي ابتُلينا به، فإن الحقيقة الناطقة التي لا تحتاج إلى تأويل أو تحايل في التفسير والتبرير، هي أن البرلمان والحكومة وسائرَ الهيئات والمجالس المرتبطة باللعبة الديمقراطية عندنا إنما هي واجهةٌ مُجَمّلَة بشعاراتِ الوقت و ألوانِه المحبوبة ومبادئه السائرة المقبولة، لإخفاء قبح الاستبداد وبشاعة سياساته وممارساته وآثاره القاتلة المدمّرة. وبعد، هذه، باختصار يُناسب هذه المقالة، هي اللعبة المخزنية. وهذا هو القانون الحقيقي الذي به تسير أمورُ السياسة، وتُدبََّر شؤونُ الدولة: دستورٌ ممنوح مكتوبٌ، يعطي الملك صلاحيات واسعة وسلطات مطلقة، ويجعله مقدسا وبمنأى عن أي نوع من أنواع المراقبة والمتابعة والمحاسبة، ودستورٌ عرفيّ أو تقليدي حسب وصف الملك الراحل في خطابه المشار إليها أعلاه يكرّس عاداتٍ وتقاليدَ وطقوساً تمثل عصارة قرونٍ وعهود من ممارسات المخزن الاستبدادية، ومؤسساتٌ تابعةٌ خاضعة مأمورةٌ مُنفِّذة، وديمقراطيةٌ شكلية ديكوريّةٌ تشهد الزورَ، وتعاضد الظلمَ، وتسكت عن أصل الداء العضالِ، داءِ الاستبداد والاستعباد. تقول الدولة المخزنية على لسان بعض خدّامها وأعوانها: إن جماعة العدل والإحسان كيانٌ ليس له وجودُ قانوني! فإن كان المقصودُ بالقانون ما هو مسطور ومبوّب في المدوّنات، وما يرجع إليه القضاة في الأحكام، وما هو مطبّق في المحاكم، فإن المخزن أولُ من يعلم أن هناك أحكاما عديدة صادرة عن محاكم مغربية، ومن مستويات مختلفة، تؤكد قانونيةَ الجماعة وشرعيَّة وجودها وسائرِ أنشطتها. إن القانون الذي يقصده المخزنيون حينما يتّهمون الجماعة بأنها خارج القانون، هو القانون المخزني الذي حاولت أن أتحدث عنه، في عناوينه الكبرى، في الفقرات السابقة؛ القانونُ الذي يُدين كلَّ منْ يقول "لا" للمخزن، ويُخرجه من جماعته، جماعةِ الخاضعين الطائعين المُمثِّلين الذين يقبلون بلعبِ أدوار "الكومبارس"، كما عبّر الأستاذ الرميد في انفجاره. الجماعةُ تقول "لا" للنظام المخزني وتعارضُه ، لأنه، ببساطة شديدة، نظامٌ استبدادي. ومن ثَمَّ، فهي ترفض المشاركة في لعبته السياسية المصنوعة على قياسه، لتمديد عمره والتمكين لدولته، لأنها لعبةٌ/مسرحيّة متحكمٌ في جميع فصولها وتفصيلاتها من الألف إلى الياء. القانون الحق، الذي يعرفه البشر الأسوياء، والحقوقيون الفضلاء، لا يكون أبدا لقمع أصحاب الآراء المخالفة، والاجتهادات المغايرة، ما دامت هذه الآراء والاجتهادات في حدود احترام آراء الآخرين وحقوقهم، وما دامت لا تدعو إلى عنف، ولا تسعى إلى فتنة، وتتفادى مِنْ أيِّ سلوكٍ أو خطاب أو طريقٍ مؤدٍّ إلى الفوضى والاضطراب وضياع الحقوق وانفلات الأمن. القانون "الإنسانيُّ"، الذي يعمل من أجله كلّ الأحرار في العالم، هو القانون الذي يجعل أمرَ الناس بينهم بالتراضي والتشاور والتعاون، لا بالإكراه والقمع والاستبداد. هو القانون الذي يحمي الحقوق ويصون الحريات في حدود هُويّة المجتمع وثوابته الحقيقية. وإن سأل سائل: وماذا تريد جماعة العدل والإحسان، والحال على ما وصفنا؟ الجوابُ في جملة مُختصرة خاتمةٍ هو أن الجماعة تريد أن تكون حرّة خارج عباءة الاستبداد، محكومةً بقانون عادل، يدفع عنها جوْر الجائرين، ويحميها من بطش المستبدين.