طرُقنا تقتل المسافرين والعابرين..صوامعنا تقتل المصلين ومرتادي المساجد..مخافر شرطتنا تقتل المتهمين والأبرياء..ورشاتنا تقتل العمال..مخيماتنا تقتل الأطفال المصطافين..سقوف مدارسنا تقتل التلاميذ..منازلنا الآيلة للسقوط تقتل سكانها..عماراتنا الجديدة تقتل مقتني الشقق ولما تكتمل فرحتهم بمساكنهم الجديدة..معلمونا يقتلون تلاميذهم..وتلاميذنا يقتلون أساتذتهم..زوجاتنا يقتلن أزواجهن..وأزواجنا يقتلون زوجاتهن..أولادنا يقتلون آباءهم..وآباؤنا يقتلون أبناءهم..لصوصنا يقتلون َضحاياهم..ودركيونا يقتل بعضهم بعضا برصاص قيل إنه انطلق خطأ..عاطلونا يقتلون الوقت ومعطلونا يقتلهم الوقت..قتل وقتل وقتل وقتل.. ظواهر غريبة أفرزتها السنوات الأخيرة في مجتمعنا..بدأت حالاتٍ معزولة ثم أصبحت شيئا فشيئا ظواهر لافتة للنظر..وتطرح أكثر من سؤال..وتؤكد أن الأمر أصبح يستدعي التأمل فيه بعمق والبحث في أسباب الظاهرة وانعكاساتها الخطيرة على الأفراد وعلى المجتمع.. ما يحدث اليوم على طرقنا هو حرب يومية ندفع ثمنها باهظا من دموعنا وأموال خزينتا العامة..ولا شك أن الأسباب متعددة ومتداخلة وليست بشرية دائما..فالجميع يشير بأصابع الاتهام إلى الحالة المزرية لطرقنا ، حتى السيارة منها..والجميع يعلم أيضا أن حظيرة سياراتنا لا ترقى إلى المستوى المطلوب..والجهة المسؤولة عن الوضعيتين معروفة ومحددة ولا سبيل إلى إنكار تقصيرها في هذا المجال..بقي العامل الثالث وهو العنصر البشري الذي يتحمل بدوره قسطا كبيرا من المسؤولية عن هذه الجرائم اليومية البشعة..ويعلم الجميع أن الضرب بيد من حديد على مرتكبي المخالفات المميتة كفيل بردع الآخرين عن التمادي في تهورهم..ولكن شريطة تطبيق القانون دون محاباة الجهات الميسورة أو النافذة في الدولة..ولو تأملنا فئة السائقين المحترفين لأدركنا أنهم مدفوعون إلى سلوك التهور من قبل مشغليهم من جهة ، ثم من قبل أجهزة المراقبة على اختلاف أصنافها ودرجاتها ، لأنها تغض الطرف عن كثير من المخالفات التي قد تؤدي إلى مجازر حقيقية بسبب إتاوات تكون مفروضة على السائقين..لذلك ليس غريبا عندما تقف بك الحافلة عند مقهى لتناول العشاء أن يتسلل بعض السائقين إلى مخادع مخصصة لهم داخل ذلك المقهى ليعاقر ما شاء من خمر وأشكال المخدرات ، ثم يجلس خلف المقود وعقله محلق بين النجوم..والمسافر بعد تناوله وجبة العشاء يصعد إلى الحافلة ثم يخلد إلى النوم وهو مطمئن إلى أن روحه بين أيد أمينة..حتى "إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة"..وإذا كانت مدونة السير الجديدة تزعم لنفسها القدرة على الحد من هذه الظاهرة فإن المؤكد ، عندنا في المغرب ، أن المشكل لا يكمن في القوانين ، بل فيمن يطبقها وفي كيفية تطبيقها..فلدينا دائما فئة خاصة تعتبر نفسها فوق كل القوانين ، ولدينا فئة أخرى تعرف كيف تسل الشعرة من العجين..ولدينا طبعا أشخاص منعدمو الضمير يقبلون أن يساوَموا ويؤولوا بنود المدونة حسب حجم محفظة نقود مرتكب المخالفة.. جرائم الجماد لا تقل خطورة عن جرائم البشر..سقوط صومعتين في أقل من أسبوع وسقوط ضحايا تحت أنقاضهما ليس حدثا عاديا..فهل تحدد المسؤوليات ويلقى المقصرون جزاءهم ليكونوا عبرة لمن يأتي بعدهم ويدرك أن كل تقصير من قِبله لن يمر دون عقاب فيؤدي واجبه كما ينبغي..؟ أم أن الأمر سينتهي إلى أن الحادث كان قضاء وقدرا ولا راد لقضاء الله وقدره..ثم يطوى الملف على غرار الكثير من الملفات التي سبقته..وكفى الله المؤمنين القتال..لقد كدنا نجزم أن كل ملف فتح فيه التحقيق سيظل مفتوحا إلى ما لا نهاية..إلى أن تشفى النفوس وتنسى العقول ويمحو الزمن كل أثر لتلك الصدمات.. ظاهرة القتل في المؤسسات التربوية أيضا أصبحت مقلقة إلى حد كبير..فلا أحد يستطيع أن يفسر كيف تتحول مؤسسات يفترض فيها أن تهذب الأخلاق وتصقل السلوك إلى بؤر للتوتر بين أطرافها إلى حد تبادل القتل!!! كيف نفسر حادث إلقاء تلميذ من طابق علوي من قِبل معلمته؟ وكيف نبرر ترصد تلميذ لخطوات أستاذه أو أستاذته بقصد تصفيته(ها)؟ لا شك أن ثمة خللا ما يجعل منظومتنا التربوية تخرّج مجرمين وسجناء عوضا عن مواطنين صالحين..خلل ينضاف إلى الاختلالات الأخرى التي تعرفها المناهج وأساليب التقويم وضعف التكوين وغياب التكوين المستمر ، علاوة على الأوضاع المادية السيئة لرجال ونساء التعليم التي تلقي بظلالها على ظروف العمل..كل ذلك لا ينفصل عن الجو العام الذي لا يفرز إلا التوتر والانفعال بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي لا يسلم منها المعلمون والمتعلمون على حد سواء.. أما القتل المعنوي الذي يمارس بشكل ممنهج ضد المعطلين فهو أشد وطئا من أشكال القتل الأخرى لأن ضحاياه يتجرعون الموت يوميا ، ولا ذنب لهم سوى أنهم أنهوا تعليمهم العالي ليجدوا أنفسهم محرومين من أبسط الحقوق التي تكفلها كل المواثيق الدولية ، وهو حقهم في الشغل..والحقيقة أن هؤلاء "المقتولين" قد تمت تصفيتهم منذ أن تم توجيههم في دراساتهم إلى تخصصات لا آفاق لها لأن أسواق الشغل لا تحتاج إليها..إنه قتل مع سبق الإصرار والترصد ، دبرته ونفذته الجهات المسؤولة عن التخطيط ، لأنها لم تحسن ضبط الحاجيات وقراءة التوقعات المستقبلية ، أو ربما لحاجة في نفس يعقوب..وها هي جيوش من الضحايا تعاني من الموت البطيئ ، وتقتات على الوعود التي لن تتحقق ، وتنتظر "غودو" الذي لن يأتي إطلاقا.. ولعل أخطر هذه الظواهر على الإطلاق ظاهرة قتل المحارم ، ولا سيما قتل الفروع للأصول أو قتل الأصول للفروع..ظاهرة غريبة عن مجتمعنا وعن تقاليدنا وعن ديننا..ولكنها مع الأسف الشديد أصبحت واقعا مقلقا..كان هذا الصنف من الجرائم في السابق يُعزى إلى مشاكل الإرث أو الزواج والطلاق..أما اليوم فهي جرائم غير مفهومة ، ودوافعها في الغالب إما أمراض نفسية أو إدمان على المخدرات أو دوافع غير مصنفة في قاموس الجريمة..والغريب فيها أحيانا أنها تكون جرائم قتل جماعية يذهب ضحيتها ، دفعة واحدة ، عدد من أفراد الأسرة أو العائلة ، أي أن القاتل لا يتصرف تحت تأثير لحظة غضب عابرة ، بل يأخذ ما يكفيه من الوقت للتخطيط لجريمته وتنفيذها..ولا شك أن من يُقدِم على عمل من هذا القبيل لا يمكن أن يكون شخصا سويا يتمتع بكامل قواه العقلية..فمن يقتل أباه أو أمه لا يمكن إلا أن يكون مجردا من إنسانيته وفاقدا لكل عاطفة نبيلة..ومن يقتل أبناءه كذلك لا يمكن اعتباره شخصا سويا..هي دون أدنى شك حالات مرضية تستوجب التتبع والعلاج..ولكن قبل حدوث الكارثة لا بعدها..وهذا يقتضي تفعيل دور المساعدات والمساعدين الاجتماعيين والمساعدات والمساعدين النفسيين لتطويق هذه الحالات قبل أن تصل إلى مرحلة التنفيذ والانتقال إلى الفعل.. فهل نحن إذن أمام تحول خطير يشهده مجتمعنا؟ لا شك في ذلك..وهذه إرهاصاته الأولى وعلاماته الكبرى..هو تحول ، لا شك ، بطئ في سيرورته ولكنه يتخذ تمظهرات مختلفة ، منها هذه العلاقة بين أفراد الأسرة التي أصبح يطبعها التوتر والعنف..تحول عادي تفرضه حركية التاريخ وقوانين الطبيعة الكونية..والخطير هو حين يكون هذا التحول منفلتا من كل مراقبة أو قدرة على توجيهه أو التحكم فيه..ولوسائل الإعلام دور خطير في إحداث هذا التحول من خلال تأثيرها الكبير على الناس..فلا أحد يجادل أن الكثير من السلوكات المشينة التي أصبحنا نلحظها اليوم في بيوتنا وشوارعنا ومؤسساتنا العمومية هي استنساخ بليد لما يتم بثه على القنوات الإعلامية..وكأننا مع الأسف الشديد فصيلة من الناس جُبلت على تقليد كل ما هو سلبي أو متطرف..ولا تنحصر آثار هذا التقليد في حدود الأسرة وحدها بل تمتد لتشمل كل المؤسسات الأخرى في المجتمع بما فيها المؤسسة التربوية التي تجاوزتها الأحداث وانجرفت هي نفسها مع التيار ، حتى أصبحت تؤدي أدوارا مقلوبة ، سيما بعد استقالة الأسرة من كل مهامها وإلقاء كل التبعات على المدرسة وأطرها..لقد أصبحت هي نفسها مسرحا للعنف وللعنف المضاد ، وضعُف فيها الطالب والمطلوب ، وغدا طلب العلم آخر ما يُهتم به ، بعد أن كان أعز ما يطلب..