نعلم بأن باشلار في المرحلة الأخيرة من وجوده المثابر والخصب، كان قارئا مولعا بالشعراء المعاصرين. لكنه ظل، وفيا للشعراء الذين افتتن بهم خلال سنوات مراهقته، لاسيما بودلير : ((تلتهم العالم حينما تكون سعيدا. وعندما تستعيد ذاكرتك الروائح الكبيرة التي تهيئ الولائم. أتصور، وقد أضحيت بودليريا ،بأنني ألتهم الذكريات))(2). لا يتركنا، لكي نسرف كثيرا في توظيف الماضي، فإن باشلار وهو يكتب هذه السطور خلال نهايات عمره، ظل يحلم بطفولته وذكرياتها. عبر كل هذا المقطع حول الروائح الغابرة، وأريج الطفولة، يتحدث مثل بودليري مقتنع، أو كشاعر أحيانا، ثم في الغالب كفيلسوف مرهف يرفض الغنائية، لكنه يقبل ذلك الارتجاج، الذي بدونه يبقى الأسلوب باردا: ((الروائح ! أول شهادة عن انصهارنا في العالم (...) معطف مبلل، كل طفولاتي أثناء شهر أكتوبر، وكل تلك الجرأة وأنا تلميذ، تنبعث ثانية في ذاكرتي. لقد استمرت الرائحة بين ثنايا الكلمة)) (3). فباشلار ، أولا وقبل كل شيء حالم بالكلمات. يفكر في بودلير ، بطريقة متميزة وخاصة مقارنة مع باقي كل الشعراء الآخرين، أو يقاربه بروح أخرى مضطربة مثل باسكال. كان دائما لشاعر ديوان: أزهار الشر . هذا الإحساس بالدوامة : ((يا للحسرة ! كل شيء هاوية، فعل، رغبة، حلم، كلام ! ...)). يعلق باشلار على بودلير، ببعض الصيغ الغريبة : ((كل العناصر لها هاويتها، كل الأفكار لها لجتها. إن بودلير يضاعف باسكال ))(4). هل نصدق ؟ أن الفيلسوف نفسه أصابته دوخة، أحس بها حينما صعد إلى غاية برج سهم كاتدرائية ستراسبورغ : ((حصل لدي انطباع بانهيار فظيع داخلي))(5). ميز باشلار في كتابه عن الشاعر لوتريامون ، وهو يدرس المجازات والانمساخات الشعرية، بين تطابقات "محض شكلية"، كما تبلورت مع نصوص بول إلوار، ثم التطابقات البودليرية التي تميزت ب "ماديتها القوية". لذلك، اقترح تصنيف الشعراء إلى أسرتين كبيرتين: أولئك الذين يعيشون في زمان حميمي، عمودي. ثم آخرون، يتماهون بزمان أفقي، يظل في صيرورة أبدية. ينتمي للصنف الأول بودلير ومالارميه. في حين نجد ضمن النوع الثاني شعراء أمثال لوتريامون وإلوار. لكل واحد، من هؤلاء شعريته، جدليته، ديناميته وكذا تخيله الخاص. يمثل نيتشه بالتأكيد، لدى فيلسوف المتخيل، ذلك الهوائي هنا تكمن أصالته الذي لا يحتفظ من مزايا الهواء غير قوة انقباض العضلات : البرد والخلاء :((يجسد الهواء الخالص، وعيا باللحظة الحرة)) (6).حر، منفتح، ومتوجه إلى المستقبل. على النقيض، فإن أرضيا مثل بودلير، متأثر بالروائح التي تجره إلى الماضي: ((روائح، أرواح، أفكار، أسرار : مجموعة كلمات من أجل تحديد عالم الذاكرة)( يكتب سارتر. بالروائح اللطيفة أو الثقيلة، يتخلص شاعر : أزهار الشر، من الزمان والضجر، أي وضعه القاتل. تعمل الروائح على فك مرساة حلم اليقظة الشعري، بشكل أفضل من الأصوات والأشكال والألوان: ((على الأقل إذا لم يتم إعادة اكتشاف ذلك ثانية، داخل سيمفونية أو لوحة بخيال فوق طبيعي)). هكذا يلعب الخيال دورا جوهريا عند بولير وباشلار. تمثل هذه القدرة عند الأول ملكة الملكات وفق تعبير استعاره من إدغاربو فالخيال يدرك التماثلات والتطابقات. في حين لدى باشلار ، يعطي مجالا لحلم اليقظة، المبدع والمنفتح المرتبط بالإرادة أو الذاكرة، ثم نشوة الكتابة والتكلم. سواء مع بودلير أو باشلار ، فالخيال أساسي للمبدع، للقارئ والناقد. ألمح باشلار كثيرا إلى التطابقات البودليرية، كإشارة عن الفعل التركيبي للروح الغنائية : (( فسيح مثل الليل والوضوح)) (7). هذه التطابقات، قد توحد الأعلى والأدنى، اللامتناهي في الكبر باللامتناهي في الصغر، أو بشكل دقيق ضخامة أو قوة الحميمية. تخلق جدلا حيا : ((فالتطابقات في أساسها، تحتضن شساعة العالم وتحولها إلى قوة لحميمية كائننا)) (8). قراءة الشعراء نثرا أو قصيدة توقظ فينا تطابقات صحية بين مختلف الحواس، تخول لنا التلاعب بتماثلات على آلة كاتبة. "قراءة" الرسامين أيضا، راشل Rachel مثلا ! أية سعادة للأذن، أما شاغال Chagall ، فهو متعة حقيقية للأعين (9). يدرك باشلار ، كيف يتلمس ارتجاج ودوي المقاطع الفلسفية الكبرى ل بودلير : ((جانب بأكمله من روحنا الليلية،تفسره أسطورة الموت التي يتم إدراكها كانطلاقة فوق الماء (...). أيضا كم هو مدهش سمو هذا المقطع الشعري عند بودلير. صورة مثيرة تذهب إلى عمق سرنا : O mort, Vieux capitaine, il est temps ! levons l'ancre ! وكما، لو يريد منا الحلم بشكل أفضل، بخصوص هذا المقطع الشعري الكبير الذي يرفع المرساة عن الحركة الأخيرة للشاعر بودلير،يهيئ باشلار بياضا وشاطئ صمت، بعد الاستشهاد الذي ينهي العرض)) (10). باشلار منذهل لهاته الصورة الجديدة. مع أنها كتومة، فهي تجمع بين المتناقضات، وتخلق تآلفا بين الازدواجيات، ارتجاف ملتبس ومناخ شعري : (( بالتحسر المبتسم، الذي يعيشه الشاعر، يبدو بأننا نحقق التآلف الغريب بين الحسرة والسلوى. إن قصيدة جميلة، تدفعنا للصفح عن حزن قديم جدا)) (11). نعلم بأن باشلار ابتعد عن التأويل النفساني، لكي يوصي مثلا بالتطبيق الظاهراتي ، حيث العمل على إحياء وإطالة صور الشعراء. لذا، يمكننا توخي الاحتفاظ بعمق ولغز اللاوعي، وكذا الأشياء الجميلة التي نتذكرها عن ماض بعيد وحياة سابقة، داخل الأروقة الواسعة التي تشبه المغارات البزلتية Basaltiques، ومن خلال الغسق الساحر بالقرب من البحر، يجد الشاعر ثانية حياة سابقة، وأحلاما أولية : (( قبو اللاوعي ولاوعي القبو)) (12). من الضروري، أن تكون القصيدة عند بودلير انتزاعا للروح، و وتمجيدا وتساميا. مع باشلار تجعلنا نحلم، مادام أنها انبثاق وتعال للخيال، أو أيضا خلق لكائن جديد، لأكثر من كائن. القصيدة والفن، يضيف بودلير، يعملان على انتشالنا من الوضاعة والسأم والزمان. أما باشلار، فيؤكد بأن قصيدة أو لوحة يمثلان دعوة إلى السفر وحلم اليقظة والسعادة. لكن ألم يكن ل بودلير و باشلار ، إضافة إلى كل ذلك : ((توق إلى الأفكار المتناسقة بشكل صارم)) (13). لا يجب نسيان، بأن آخر صور باشلار وكذا أحلام يقظته وتأملاته كما جاءت بين طيات عمله : « شعلة قنديل » تمحورت حول حلم اليقظة الخاص : (( الذي يصنع تطابقا، فوق بودليري، توخيا للعيش في القمم)) (14). يعمل باشلار على تمديد بودلير : (( يشتغل الخيال في قمته مثل شعلة، وبين ثنايا حيز مجاز المجاز (...) علينا التنقيب عن سر الطاقات الفجائية)) (15). صور النار مهمة عند باشلار، بقدر كذلك أهمية صور الماء، ليس بمتناقضين. لقد حاول الشعراء المماثلة بينهما : (( كل شعلة، هي نار مبللة)) يكتب جوبير. وجاء في قولة شعرية ل أوكتافيوبات : (( شجرة صفصاف نارية، نافورة ماء )) (16). لاحظ هنري لوميتر، بأن كلمة "روح" تشكل إحدى الكلمات المفاتيح للشعرية والنقد البودليرين. وقد سعى باشلار ، في أعماله الأخيرة، رد الاعتبار لكلمة روح : ((القصيدة التزام للروح)) (17). بقدر، ما قد يظهر غريبا ومتهورا، هذا الإقرار. فيمكننا القول بأن القصيدة عند باشلار وبودلير ، عبارة عن صلاة : (( لأنه في حقيقة الأمر، كل شيء يصلي انطلاقا من الموقع الذي يشغله داخل الطبيعة، وينشد مديحا للنسق الإلهي حيث ينتمي، مديح روحي وعقلي، وفيزيائي أو حسي)) (18). يحاكي فيلسوف الخيال المنفتح، فيلسوف الأفلاطونية الجديدة : (( شعلة الحياة والكائن الذي يزهر، هي نزوع نحو عالم النور الخالص)) (19). هوامش : 1- Marcel Schaettel : Bachelard et Baudelaire, Bulletin des Amis de Gaston Bachelard. N° 8, , pp. 90/95. 2- Gaston Bachelard : La Poétique de la rêverie, P. 123. 3- Ibid, Page 118/119. 4- Gaston Bachelard : La Terre et les rêveries de la volonté, Page 352. 5- Ibid, Page 344. 6- Gaston Bachelard : l'air et les songes, pages 158. 7- درس باشلار، التغيرات التي تعرفها كلمة « Vaste » في النص البودليري. أنظر بهذا الشأن كتابه : « La poétique de l'espace »، ص 174/181. 8- Gaston Bachelard : la poétique de l'espace, P173. 9- Introduction à la bible de chagall (Verve n° 37/38- 1960). 10- Gaston Bachelard : l'eau et les rêves, P 103. 11- Gaston Bachelard : la poétique de la rêverie, p.99. 12- Gaston Bachelard : La terre et les rêveries du repos. P204/205. 13- Gaston Bachelard : La flamme d'une chandelle, P.111. 14- Ibid, Page 85. 15- Gaston Bachelard : La psychanalyse du feu, PP 215/216. 16- Gaston Bachelard : La flamme d'une chandelle, P. 23. 17- Gaston Bachelard : La poétique de l'espace, P. 5. 18- يستشهد باشلار بذلك على ضوء هنري كوربان. 19- Gaston Bachelard : La flamme d'une chandelle, P.86.