يحكى أنه في سالف الأزمان ، حيث كان الناس غير ما هم الآن ، كان هناك قوم جهلة يسجدون للأوثان ، الحلال و الحرام عندهم سِيان ، و يعيثون في الأرض فسادا بلا حسبان ، حتى عمّ شرهم البشر و الشجر و الحيوان ، و كأنهم حبسوا أنفسهم على الظلم و الطغيان . وكان فيهم رجل صالح يُسدي فيهم النصح لكل إنسان ، لا يكلّ و لا يملّ عن الدعوة إلى الخير و الصّدِّ عن الشر فيهم في كل آن ، يدعو قوم الفساد إلى التوبة و الصلاح علّهم يفوزوا بالجنان ، و يحذرهم من مغبة الإصرار على الشر علّهم ينجوا من النيران . ... وهكذا مكث الصالح منارا للنجاة في قومه عدة سنين ، و هذا لعمري هو دأب كل المرسلين ، و كذلك من تبعهم من الصالحين إلى يوم الدين ... ... وكذلك قيل بأن حِلم الصالحين يزيد بقدر ما يزيد جهل الجاهلين ، شعارهم الصبر على الأذى و الدعاء للقوم بالهداية بقلب سليم ، بكيد الأعداء و مكرهم هم غير آبهين ، متيقنين أن عند الله مكرهم و الله هو خير الماكرين ..؛ و احفظ الله يحفظك فإنه خير الحافظين . ولكن كلمة الله تعالى سبقت في العالمين ، أنْ لو أراد ربك لهدى الناس أجمعين ..؛ فقد رأى الصالح أن قومه غير مُبالين ، هم لكلمة الحق أشد الكارهين و لكلمة الشر أشد المحبين ، و الأبناء منهم و الحفدة لآبائهم خير الوارثين ، كأنك ربي طبعت على قلوبهم فقد عميت بصيرتهم إلى يوم الدين . رفع الصالح أكف الضراعة إلى الله رب العالمين : رب إن القوم كذبوا مقالتي و هم لها أشد المنكرين ، رب كافئهم بما هم أهل له إنهم من الظالمين ، عذبهم إن شئت أو ارحمهم فإنك أرحم الراحمين ، رب و احفظ من اتبع سبيلك من المؤمنين ، رب و لا تخزنا يوم الدين ، يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . أصبح القوم يومًا ..، فساء صباح المنذرين ، أصبحوا على غير ما افترقوا عليه إلى أسِرَّتِهم نائمين ، أصبحوا بذيول تتدلى من أعجازهم فهم من المقبوحين ، كتب الله عليهم العقاب فجعلهم من الممسوخين ، و كذلك يفعل ربك بالقوم المجرمين . ونجا الصالح بصلاحه من هذا الخِزي المهين ، و كذلك أبناؤه و حفدته ببركة صلاحه و ما أجهد نفسه فيهم بالتربية و التعليم ؛ فبقيت صورهم جميلة من المسخ محفوظين ، و كذلك عندما يحفظ ربك عباده المؤمنين . ألِف القوم ما أصبحت عليه أجسادهم القبيحة ، و أصبح للجمال عندهم المقاييس الحديثة الصحيحة : السوي عندنا من له ذيل يتدلى ، و من شذ عن ذلك فقد زاغ و تولى . فكذلك أصبح أبناء الصالح أغرابا في البلدة ، صورهم الآدمية خالفت في القوم السُّنة . يقولون عنهم مستهزئين ساخرين : ويحهم !.. ما أقبح صورهم !.. ألا يرون أنهم علينا معرة و مذلة ؟!.. واستمر الحال في عين القوم على هذه الشاكلة ؛ صورة المسخ أجمل مزية ، و صورة الآدمي أقبح رزية . فاستحكمت العادة الجديدة و أصبحت هي القاعدة الحقيقية . و هكذا عاش أبناء الصالح بصلاحهم و جمالهم وسط القوم في شقاوة ، الحرب عليهم قائمة لا تهدأ أبدا حكموا عليهم بالعداوة ، و القوم بفسادهم و قبحهم في سعادة ، يتيهون في الناس بذيولهم في أنفة و عجرفة . فسبحان الله ... من يملك حقيقة الجمال ؟ الرجل الصالح أم قومه الفجار ؟.. ... ويا أيها العقلاء النبهاء !.. بالله عليكم أفتوني : أي الفريقين يحمل حقيقة الجمال ؟ ... أو أفتوني : من يملك الحقيقة ؟ ألوط الذي دعى إلى الطهر و الحفاظ على الفطرة أم قومه الذين عيروه بالطهر و خالفوا في الناس الفطرة ؟ ... بل أفتوني : إلى ما نحتكم لمعرفة المقاييس الحقيقية ؟ ألكِتاب الحق أم للعادة الجارية ؟