بهذه الثنائية كثف الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين للمسيرة الخضراء المرحلة الراهنة التي تمر منها القضية الوطنية. هناك ثلاث دعامات قوية للوضع الشرعي الذي تمثله بلادنا؛ البيعة، النهضة التنموية، والاعتراف الدولي. كما في الماضي واليوم وغدًا، يُعد أحد الأركان الجوهرية في الأطروحة الوطنية الوحدوية هو روابط البيعة بين سكان الصحراء وملوك المغرب. بعد نصف قرن من المسيرة، يزداد هذا المعطى رسوخًا، وهو الذي احتل حيزًا بارزًا في الأطروحة القانونية والفقهية التي ترافعت بها المغرب أمام محكمة العدل الدولية، والتي أقرت بوجود هذه الروابط عبر التاريخ، وبأن الصحراء لم تكن أرضًا خلاء، وهو ما تؤكده الوثائق والأرشيفات المغربية والأجنبية أيضًا. على هذه الرابطة الدينية والروحية ما فتئ أبناء الصحراء يعلون اعتزازهم بمغربيتهم وتعلقهم بمقدسات البلاد. الركن الثاني للوضع الشرعي هو النهضة التنموية التي تعرفها الصحراء، والأمن والاستقرار اللذان تنعمان بهما. لقد كان المغرب، بقيادة المغفور له الحسن الثاني، وبعده جلالة الملك محمد السادس، على قناعة راسخة بأن أبلغ جواب على الانفصال هو التنمية. لذلك حق لنا اليوم أن نتحدث فعلًا عن نهضة تنموية تعرفها المنطقة، وهي تنمية لا تقتصر، كما سبق وأكد الملك في خطاب سابق، على البعد الاقتصادي، بل هي نهضة تنموية شاملة تضع الإنسان في قلب انشغالاتها. لذا لم يكن غريبًا أن يشمل جزء كبير من المشاريع والبرامج التي تمت وتتم ضمن تنزيل النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، والتي رصدت له الدولة أزيد من 77 مليار درهم، الثقافة والتراث الحساني. بالإضافة إلى التنمية، هناك الأمن والاستقرار، ولعل هذا أبلغ وأعمق جواب على من يدعون أنهم يخوضون حربًا ضد المغرب. فالمغرب، الذي ربح الحرب في الصحراء حتى قبل التوقيع مع الأممالمتحدة على اتفاق وقف إطلاق النار، استطاع اليوم فرض الأمن والاستقرار في الصحراء، وهي متاخمة لمنطقة الساحل والصحراء التي تغلي بالاضطرابات. كما تصدى بكل حزم وفي إطار دولة الحق والقانون لكل محاولات المس بالاستقرار في الصحراء، والتي حاول خصوم المغرب توظيفها، تارة عبر استغلال بعض المطالب الاجتماعية المشروعة، وتارة أخرى عبر توظيف خطاب حقوقي مضلل. غير أن يقظة بلادنا مكنت من إحباط كل تلك المخططات التي أصبحت جزءًا من الماضي. وعلاوة على كل ذلك، فإن الوضع الشرعي الذي تمثله بلادنا تعزز بتنامي الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء وبدعم مقترح الحكم الذاتي. وهو دعم ملموس، كانت الجمهورية الفرنسية آخر الدول الكبرى الملتحقة بهذا التوجه، الذي أوجع خصوم المغرب وجعلهم تائهين يعيشون عزلة قاتلة ظهرت بجلاء أثناء تصويت مجلس الأمن على القرار الأخير. أمام هذا الوضع الشرعي القائم على الحق والشرعية، هناك "عالم منفصل يعيش على أوهام الماضي ويتشبث بأطروحات تجاوزها الزمن". والواقع أن خطاب الجزائر والبوليساريو تجاوزه الزمن ويعاني من الجمود، وهجره حتى أولئك الذين كانوا يدافعون عنه. فبعد تسعة وأربعين سنة من المسيرة، النتيجة هي فشل البوليساريو التي قدمت نفسها في ذلك الزمن على أنها "حركة تحرر". راكمت الجبهة الفشل تلو الفشل عسكريًا ودبلوماسيًا وسياسيًا وحقوقيًا على جميع الأصعدة. لم يعد خطابها يقنع حتى أولئك الذين غرهم خطابها الحالم، فاستيقظوا على الحقيقة والواقع الذي تمكن المغرب من ترسيخه، وهو أن الصحراء في مغربها والمغرب في صحرائه. إنه لمن الغريب حقًا أن مخطط تنظيم الاستفتاء تم دفنه منذ زمن بعيد وأصبح من الماضي، والأممالمتحدة أقبرته منذ سنوات، والعالم مدرك لاستحالة تنظيمه. ولكن البوليساريو، وخلفها الجزائر، ما زالت تلوك سردية تقرير المصير والاستفتاء. إنه عالم الجزائر المنفصل عن الحقيقة، الغارق في أوهام الماضي، المتشبث بأطروحات تجاوزها الزمن. علينا التوقف مليًا عند التناقض الصارخ والمفارقة التي تعيشها الجبهة؛ فهي تطالب بالاستفتاء وترفض نداءات الأممالمتحدة لإحصاء ساكنة المخيمات، علمًا أن هذه الساكنة هي الضحية الأولى للجبهة ولأوهامها الطوباوية التي ترفض أن ترى الحقيقة. فساكنة المخيمات محرومة من حقوقها الأساسية. منذ تأسيس الجبهة لم تحقق شيئًا للصحراويين، وهي التي تدعي زيفًا أنها ممثلهم الوحيد والشرعي. هذه حقيقة تاريخية، فلماذا تصلح الجبهة إذن؟ لشيء واحد، ما زالت تصلح لخدمة أهداف السياسة للنظام العسكري الحاكم في الجزائر، في البحث عن منفذ على الأطلسي، لذلك أراد إحياء مقترحه القديم بتقسيم الصحراء الذي رفضه المغرب وأدانه في حينه، مقترحًا في الوقت ذاته "المبادرة الأطلسية" التي تستوعب، في إطار السيادة المغربية، هذه الرغبات. تدعي الجزائر أنها تدافع عن "تقرير المصير"، غير أن هذه الدعاية التي يعود عمرها إلى زمن الحرب الباردة، لم يعد يصدقها الجزائريون أنفسهم، لأنهم يعلمون أنه ملف يُراد به إلهاؤهم عن قضاياهم الأساسية: عن الديمقراطية، والتنمية، والتوزيع العادل لثروات ومقدرات البلاد، التي نهبتها العصابة. أما ما تبقى من تلك المقدرات فيصرفها العسكر في سباق التسلح واستعراض القوة العسكرية. إزاء هذا المشهد، على الأممالمتحدة أن تتوقف عن الدوران حول نفسها في البحث عن حل لهذا النزاع المفتعل، عليها أن تتجاوز الإشارات المحتشمة في تقاريرها وقراراتها إلى ما تسميه الدور الحاسم لدور الجوار، عليها أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية، عليها الانتقال إلى توضيح الفرق بين أطروحتين، بين عالمين، بين اختيارين: الوضع الشرعي أو العالم المنفصل عن الحقيقة والواقع والتاريخ والغارق في خرافات الماضي وأوهامه.