لا صوت يعلو على صوت طلقات البنادق ولا دخان يملأ الأجواء أكثر من دخان البارود هنا بمركز المعارض محمد السادس بمدينة الجديدة، والمناسبة: انطلاق فعاليات الدورة الخامسة عشرة للمعرض الدولي للفرس. موازاة مع ذلك انطلقت أطوار الدورة السابعة للجائزة الكبرى للملك محمد السادس لفنون الفروسية التقليدية، تشارك فيها 18 سُرْبَةً من مختلف جهات المملكة، يترأسها 18 "مْقدَّمْ" وتتكون إجمالا مما يزيد عن 250 فارسا، من بينهم في الأساس أبرز المهرة المغاربة في هذا الفن الأصيل الذي يجسد الارتباط بتاريخ الأضرحة وتقاليد الأجداد. وعلى حلبة ترابية شاسعة تتنافس هذه السُّرَبُ من أجل الظفر بالرتبة الأولى في هذه المسابقة، وبالتالي التربع على عرش الفروسية بالمملكة؛ فالتنافس هنا خلال اليوم الأول من الأدوار النهائية على أشده، والتركيز في أعلى مستوياته بغرض ربح أكبر عدد من النقاط، على أن يرتفع الإيقاع خلال الأيام الأولى وانتهاء بيوم السبت الذي يصبح فيه كل المُعامِلُ اثنين بدلا من واحد. "في الكواليس" لكل سربة زيُّها الخاص وخيمتها الخاصة التي تبدأ داخلها استعدادات المشاركين قبل كل بداية، يرتدون داخلها جلابيبهم ويضعون عمائمهم ويحملون بين أيديهم بنادقهم قبل أن يمتطوا فرسانهم وكلهم عزم على البصم على أداء جيد يمتعون به الحاضرين ويقتنصون نقاطا ستكون لهم عونا في سبيل الظفر بالرتبة الأولى، تاركين النساء داخل الخيام ينتظرن الأخبار المفرحة. للبارود هنا أكثر من معنى وأكثر من دلالة. في غيابه لا تتحرك الخيول ولا تنخرط في تأدية أي حركة يستمتع بها الحاضرون، إلى درجة أن كل سربة تتوفر على فرد يتكلف خصيصا بمهمة ملء البنادق بهذه المادة، يسمى "العمّار". تحدثنا بعض الشيء إلى أحدهم، يدعى مراد المرسول، يشتغل رفقة سربة "عبد المالك بنديهاج" التي تمثل ضمن هذه المسابقة جهة فاس-مكناس. مراد أكد لهسبريس أن "عملية ملء البنادق بالبارود تتم باستحضار نية الفوز، حيث إن المهمة هنا تتمثل في أخذ المقياس الصحيح، تجنبا لأي حادث لا قدر الله. نقيس البارود هنا باستخدام كأس من المعدن، ونقوم بتمرير البارود بشكل جيد على مستوى الجّعبة (فوهة البندقية)". واتضح أن غالبية من كانوا ينشطون إلى جانب مراد في هذه العملية هم من الشباب الذين يقومون بتكرار العملية طيلة مدة التباري، مع استبعاد كل بندقية يبدو أنها ليست في أتم الصلاحية للاستعمال في هكذا مسابقة، الأمر الذي أكده مراد "العمّار" بقوله: "بالفعل، الشباب عادة هم من يقومون بهذا النشاط، وكل واحد منهم يشتغل مع سربة ويسهر على إمداد الأعضاء ببنادق جاهزة للاستعمال". يتسلم المتسابقون بنادقهم ويصطفون بشكل متناسق ينتظرون دورهم، ليأتي دور مشرفين آخرين تابعين لإدارة المعرض يسهرون على مراقبة جاهزية كل سربة على حدة من بين السّرب المشاركة، خصوصا من ناحية التأمين، إذ يقومون بمراقبة المشاركين، كل باسمه وما إن كان يتوفر على تأمين الحوادث أم لا، بحيث لا يسمحون بمشاركة أي أحد لا يتوفر على تأمين في هذا الصدد. لكل سربة فرصةُ أداء ثلاث طلقات وسلامٍ ختامي أو ما يسمى "التْسْليمَة"، فكل حركةٍ هنا محسوبة ولا مجال للخطأ لوجود جهاز تحكيمي يراقب الصغيرة والكبيرة، ويسجل ملاحظاته، مانحا النقاط للمشاركين على حسب أدائهم، ويكون معامل التنقيط واحدا في طيلة أيام التنافس، في حين يرتفع إلى اثنين في آخر يوم، أي يوم الفوز. "المنافسة على أشدها" تشارك في هذه المنافسات 18 سربة تمثل مختلف جهات المملكة، ومنها سربة الشراط عبد الفتاح القادمة من الصخيرات-تمارة، إلى جانب سربة جمعية فرسان الشمال برئاسة المقدم الكريشي البشير، في حين يقود بنخدة عبد الغاني سربته ممثلا إقليمبني ملال، إلى جانب سربة فرقة بنخدة العربي عن إقليمخريبكة. المقدم ميلود الغفداي بدوره قدِم من جهة الداخلة-وادي الذهب قائدا سربته بغرض التنافس على جائزة محمد السادس الكبرى، في وقت يمثل الحسين أكراض عبر سربته انزكان-آيت ملول وجهة سوس-ماسة على العموم، في حين حضر اليوسفيون (نسبة إلى اليوسفية) كذلك ضمن المسابقة، يمثلهم حميد سرفاق من خلال سربته التي تحمل اسم "حميد حميمصة". وتعرف المسابقة المستمرة إلى غاية الخامس من أكتوبر الجاري مشاركة سربة جمعية سيدي الغليمي للتراث عن جهة الدارالبيضاء-سطات، يقودها محمد عاد، إلى جانب المقدم شرف البحراوي الذي يتزعم سربته بحثا عن الفوز بالجائزة الكبرى التي تحمل اسم عاهل البلاد. إلى جانب هذه السُّرب تظهر أخرى تبذل بدورها مجهوداتها، بما فيها سربة عبد الكبير لمجلد التي تمثل إقليمسلا، وسربة شباب جرسيف للتبوريدة بقيادة المقدم علي حيحي عن الجهة الشرقية، ثم سربة أولاد بيطارية تحت رئاسة أيوب أبو الهون عن جهة درعة-تافيلالت. "بارودٌ وبنادق وتصفيقاتٌ" على مدار أزيد من ثلاث ساعات حاولت هذه الفرق التي تمثل فن التبوريدة الأصيل بالمغرب أن تُبرز قدراتها كاملة في هذا الإطار، كيف لا وهي التي استطاعت أن تشارك في هذا الدور بعدما فازت في مسابقات سالفة، بما فيها المسابقة التي أجريت سلفا بدار السلام. مع كل طلقة بارودٍ يغطي الدخانُ الحلبة الترابية وتتعالى أصوات الحاضرين، شبابا وكهولا، استمتاعا بمشاهدة أفضل 18 فرقة بالمغرب تتنافس على حصد أفضل جائزة وطنية، تتمثل في الجائزة الكبرى محمد السادس التي تروم أساسا تشجيع هذا الفن الأصيل الرابط بين الإنسان وأرضه. لا يكف الجمهور عن التصفيق مع نهاية كل مرحلة، بل يزداد التصفيق خلال مرحلة "التسليمة"، وقتها يحيي المتسابقون كل من يشاهد أداءهم ويستمتع به ويدقق فيه كذلك، كما هو الحال بالنسبة للحكام الذين يجلسون أمام نهاية الخط، محاولين التقاط هفوات كل سربة وتحويلها إلى نقاط يمكنها ألا تكون في صالح المتنافسين. "ركبوا!"، "على بال"، "باسم الله"، كادْ أهيا كادْ"، "المكحلة على الكتف"، "ويَا الحفيظ الله"، و"زيد بْلّغْ!"؛ بهذه العبارات يستعين مقدم كل سربة من أجل تنظيم هذه الأخيرة، إذ إن الاصطفاف الجيد للفرسان وتناسق أدائهم هو ما يضمن طلقةً (ضربة) في المستوى تُبهج الحضور وتُقنع لجان التحكيم. الجمهور الذي حضر كان في الموعد بالتصفيق، كيف لا وهو الذي ينتظر افتتاح المعرض الدولي للفرس بعاصمة دكّالة على مدار سنة كاملة من أجل مشاهدة أبرز عروض التبوريدة على المستوى الوطني، وكان التفاعل كاملا مع كل حركة يجسدها المشاركون الخمسة عشر من كل فرقة. وظهر جليا أن هناك اختلافا في طريقة إطلاق البارود، حيث يطلق بعضهم في اتجاه الأرض، في حين يوجه آخرون فوهات بنادقهم في اتجاه السماء، وهي الطريقة التي يعتمدها ممثلو الوسط والجنوب كأكادير والصحراء، الأمر الذي أكده لهسبريس بالتفصيل صالح بيراني، عن سربة العربي بنخدّة بإقليمخريبكة، قائلا إن "ضرْب الأرض بالبنادق أمر بسيط وبإمكان المبتدئين التفنُّن فيه، في حين إن الطلقة الأكثر صعوبة هي التي تنفذ في اتجاه زرقة السماء". "بحث عن النقاط" مع انتهاء تفاصيل منافسات اليوم الأول من التبوريدة، ظفرت فيه كل فرقة بنصيبها من النقاط على حسب مجهودها، يغادر المتسابقون الحلبة راكنين إلى خيامهم حيث يغيرون لباس التنافس بملابسهم العادية ويتبادلون السلام مع المتسابقين الآخرين. أيديهم سوداء من آثار البارود تُلخص حكاية راكب على الفرس. هسبريس حاولت اكتشاف طبيعة الأجواء داخل الخيام الثماني عشرة، وقد سنحت لنا الفرصة بولوج خيمة سربة أولاد بيطارية التي يقودها المقدم أيوب أبو الهول، شاب أصغر مْقدَّمْ ضمن المشاركين في هذه المنافسات، الذي قال لنا عن تفاصيل اليوم الأول: "في أدبيات التبوريدة عادة ما تكون البداية صعبة، حيث نحاول كمتسابقين التكيف مع الأجواء والتركيز على هدفنا الرئيسي، في حين إنه مع مرور الأيام ينخفض منسوب التوتر بعد أن تكون الخيول قد تعودت على الحلبة". وأضاف أن "القدوم إلى الجديدة في نهاية المطاف يبقى في حد ذاته إنجازا، إذ تجرى إقصائيات توفقنا، والحمد لله، في اجتيازها بسلام، في حين إن هدفنا اليوم هو احتلال الرتبة الأولى وإعلاء راية أبناء الجنوب الشرقي على المستوى الوطني"، مجيبا عن سؤال حول كيفية تعامله مع السربة كمْقدّمْ بالقول: "أتزعم السربة التي تعتبر أساسا شابة بالكامل، في حين من الصعب جدا أن أترأس سربة مكونة من أفراد نخبويين؛ لأن التجربة هنا هي التي تحكم". وعن دوره في السربة، كشف أيوب أبو الهول أنه يتمثل أساسا في مراقبة جاهزية هذه الأخيرة وإعطاء التعليمات للمتسابقين وتنبيههم إلى الطريقة التي يجب أن تكون عليها الطلقة؛ "ففي نهاية المطاف نحن نشارك في مسابقة ذات بعد وطني وذات مصداقية وتنظم في أجواء جد ممتازة، ومن المهم جدا الفوز بها". كما هو حال الفرق المشاركة الأخرى، التحقت فرقة أو سربة البحراوي شرف بخيمتها بعدما أبانت عن أبرز مهاراتها في الفروسية في اليوم الأول. بدأ المشاركون في تغيير ملابسهم وأخذ قسط من الراحة في جو ملؤه الأمل واليقين بأن غدا سيحمل البشرى للفروسية المسفيوية (نسبة إلى آسفي)، وهو ما أكده المقدم شرف، الذي اعتبر أن سربته "أبلت البلاء الحسن في اليوم الأول". وأضاف شرف، مصرّحاً لهسبريس، أن "إيقاع التباري على الجائزة التي تحمل اسم عاهل البلاد سيرتفع بمرور الأيام، على أن نصل في يوم السبت إلى قمة التشويق، إذ يكون المعامل وقتها اثنين عوض واحدٍ، ما يعني أن بإمكان سربة أن تفوز بناء على ما قدمته في ذلك اليوم النهائي فقط". وزاد البحراوي: "الحمد لله، استفدنا من فترة إعداد جد ممتازة، ونحن على أهبة الاستعداد من أجل تقديم أفضل ما لدينا سعيا إلى الظفر بصدارة التّبوريدة المغربية وتقديم لحظات أكثر تشويقا بالنسبة للقادمين إلى الجديدة بغرض مشاهدة هذا التقليد المغربي الأصيل".