كرقاص ساعة حائطية، يميل بهم المكان الأجوف. من جراء هذا الميلان أصابهم الدُّوار؛ دوار من يركب البحر لأول مرة. فأحسوا بألم في رؤوسهم، تكاد تتصدع جماجمهم؛ تنفلق من فرط هدير مُستمر منذ زمن دون توقف، والأمواج الصاخبة تضرب ضربة بعد ضربة على صفائح الهيكل الحديدي، فتنتفض أجسادهم، تنهلع قلوبهم، تهد أقفاص صدورهم، فيخيل إليهم أنها ستنفك، ستتدحرج إلى أسفل عظامها؛ عظمة عظمة، وهم يُحسون دحرجتها، ولا يعاينونها لأن فضاء المكان مظلم، فيتناول كل واحد منهم عظامه؛ يتحسسها، ولا يجد العجب طريقه إليهم، لأنهم... لأنهم يموتون. ليل دائم؛ لا يشاهدون نور الشمس، ولا ضياء القمر، لأن الغطاء الحديدي أُحكم غلقُه بطريقة أوتوماتيكية. فلا تُتاح لهم رؤية عقربي وأرقام ساعة المعصم، فلا يستطيعون عدَّ لا الدقائق، ولا الساعات، ولا الأيام. لا يشعرون باختلافات في حالة الجو، وبرودة الحديد الغالبة قاسية، مستديمة، تأكل مؤخراتهم. تهالكت أجسادهم في استخذاء، واهنة، يُصدِرون أنيناً وآهات؛ يلتحفون الحديد، ويتكئون برؤوسهم على براميل كوسائد من حديد. تحيط بهم جوانب من الحديد الصلب؛ أينما يمدد أحدهم رجليه يصطدم بالحديد؛ سجناء زنزانة من حديد. في بيئتهم ضوضاء قضبان، وأسطوانات آلات حديدية، في حركة دائرية سريعة بدون عطب. وفي أجوائهم غِلالة من بخار أجسادهم؛ تتكاثف وتحتك بالحديد البارد، فتُمطر ندىً؛ تتساقط قطراته بطيئة على أيديهم، فيلمظونها، يشربون عرقَهم، يُبللون بها جدارات حناجرهم الجافة. هواؤهم مشبع برائحة احتراق وقود السفينة، والبول، والبراز. في ليلة غاب فيها القمر، يحجُبه غطاء كثيف مُعتم من السحب الثقيلة. أضواء الأعمدة الكهربائية في شوارع وأزقة المدينة الكبيرة باهتة؛ تحيط بها سحابة من ضباب خفيف. تسللوا إلى بطن الحوت الرابض برصيف المرفأ، مُخترقين الحواجز وما سطرته المدنية من قوانين البحار والمحيطات، وفي غفلة من رجال الجمارك وأفراد الطاقم، فحشروا أنفسهم بين براميل؛ يجهلون إطلاقاً ما تحتويه. حيث لاذ ثلاثتهم؛ يأكلون، وينامون، ويتبولون، ويتغوّطون. سفينة رست في الهزيع المتأخر من الليل؛ لم تلفظ ما بحوزتها كما هي عادة السفن، كما لم تشحن بضاعة. تزودت بالوقود، وراحت تمخر عباب البحر، فبعد ميلين أو ثلاثة أميال بحرية، بعد صمت تام، تململ محمد بجذعه، وبحذر شديد فيه بقية خوف وحيرة. شاهد بأم عينيه، والآخرَيْن كيف انطبق الحديد بالحديد، ووجه السماء يضيق، وضوء الشمس ينسحب على مهل أمام زحف ظلال الحديد. دنا من علي، وهمس في أذنه: – لا أعرف في أي اتجاه من الاتجاهات الأربع تسلك طريقها هذه السفينة؟ فكر علي؛ استرجع صورة السفينة لحظة ولوجها؛ كانت في لون الرماد، فلم يستبعد كونها إحدى تركات الحرب الكونية الثانية. ابتسم، استهزأت بواطنه، وتساءل في نفسه: «ألا تكون قد بُعثت فجأة، وهي في إحدى غاراتها الحربية؟» ضحك، وأردف قائلاً: – وما أدراني؛ لكنها قد تُبحر شمال خط الاستواء، أو جنوبه. التفت مصطفى في الظلام إلى علي، وقال: – غايتنا نحن أن تُبحر شمالاً، أما الجنوب فليس أحسن حالاً منا. ربّت محمد بيده على علي: – إننا نُقاد فعلاً برغم أنوفنا. قال علي: – حتى ونحن على أرض الآباء والأجداد، لم نكن نحيا حسب اختياراتنا. همز مصطفى قدمي صاحبيه: – أرجوكما، تكلما بهدوء، أو الزما السكوت؛ قد تتسرب أصواتكما إلى الآذان. قال محمد: – إننا في خوف عارم. قال علي: – أهو زمن الخوف؟ الخوف من الفقر، من الجوع، من أزمة مالية قد تعصف بقطب الرأسمالية. قال مصطفى: – إننا نخاف حتى من طفل يولد؛ إن أنصار المالتوسية الآن أكثر شؤماً من أي زمان آخر. قال علي: – أخال أن يكون مكان الشحن هذا مرتعاً لآلات الرصد والتنصت. قاطعه محمد: – إذا ما ضُبطنا سنُتهم بالإرهاب، وستُنقل مادة الحدث الخام عبر شبكة العنكبوتية، وستُحرِّر صحفُهم، وصحفُنا خبراً بمثل هذا الكلام: «فشلت الليلة البارحة محاولة نسف سفينة شحن أمريكية، أو فرنسية، أو ألمانية، أو إنجليزية؛ من طرف ثلاثة شبان ينتمون إلى المنطقة العربية، تسللوا إليها ليلاً من مرفأ المدينة الصناعية، وهم قيد الحجز لدى سلطات خفر السواحل». تقلّب مصطفى على جنبيه، وتقلّب مرة ومرتين، عشرات المرات، حتى كلّ. وقرفص علي، وانكفأ على وجهه حتى تقوس ظهره، يرفع ذراعيه عالياً؛ يتمطى، فيُحس بألم في ضلوعه. وانبطح محمد على بطنه يتضور جوعاً؛ يلعق فُتات البسكويت؛ يشعر بوخزات في لثة أسنانه؛ فاجأت أنفه رائحة كريهة، فتقيأ الفتات والدم، ونادى بصوت من داهمه وباء: – بُراز من هذا العالق بكفي؟ بُرازك أنت يا علي؟ ما أخبتك؛ ارمِه بعيداً. تأوه علي: – تقول هذا، وكأني في حال أحسد عليه؛ بولك تسرب إلى ملابسي، وإلى حافظ الكتان؛ شهادتي الجامعية المترجمة أصبحت خِرقة بالية ببولك. قال محمد بيأس بالغ: – طالت الرحلة؛ لا أظن أن بحر المانش، أو بحر البلطيق بعيدان بهذا القدر، وإن كنا في حقيقة الأمر لا نعرف كم من الأيام ونحن نهاجر في جوف هذا الفُلك الحديدي. انتفض علي فجأة من غفوته، وقال: – الأرض الأم؛ الحبيبة إلى القلب؛ دافئة؛ نداها يُنعش؛ سخية؛ عطاؤها كثير إذا أنت حنّنتها عليك، لكن قطع الله دابر من... سَرعان ما صاروا جميعاً يمسحون دموعاً، اغرورقت بها عيونُهم؛ لم يسبق لهم أن بكوا، فالرجال لا يبكون في الغالب؛ بكوا لشعورهم بمدى الخيبة المرة؛ نفضوا مخيلاتهم من الأمل، والتطلع إلى أرض تشرق فيها تباشير صباح؛ كانت تصبو إليها نفوسهم. مر زمن؛ هل هو ساعة؟ ساعتان؟ يوم؟ أسبوع؟ لا أحد منهم يعلم. خيم السكون. أجساد هادئة؛ أصابها الوهن والضعف. تجتاح محمد الذكرى؛ أيام مضت؛ يوم تأبط كتبه ودفاتره، واتجه لأول مرة بحيوية ونشاط لا نظير لهما صوب المدرج، ليحضر أول محاضرة من برنامج السنة الأولى في مادة الجغرافيا الطبيعية. منذ ذلك الحين وهو يكد ويجد؛ «المثابرة صفة الطالب المثقف والمتزن»؛ يتفوه بمثل هذا الكلام كلما أحس بالخمول يدب إلى عقله وجسده. ذهب مرة إلى خزانة الكتب العمومية؛ حرر الورقة بعنوان الكتاب؛ دفع إليه أحد أعوان الخزانة بالكتاب المطلوب، وقال مُتهكماً: – ماذا ستعمل بعد الإجازة بجغرافيتك؟ هل ستُحول مجرى النيل إلى أراضي الساحل الجذبة، أو مجرى المسيسبي إلى صحراء نيفادا، أو نهر الأمازون إلى صحراء أطاكاما بالشيلي، أم ستُغير خريطة العالم السياسية وفق طموحات الشعوب، والقوميات، والأقليات؟ نظر إليه بانكسار، وقال: – ندرس الجغرافيا؛ لأنها علم كباقي العلوم الإنسانية؛ علم وضعه الأوائل، وطوره المتأخرون؛ على ضوئه نفهم الواقع، ونفسره، و... و... ضحك العون الإداري، ومضى يختال. هو دس برأسه بين أوراق الكتاب، وعكف على القراءة بهدف التحصيل. كأنه سمع صوتاً؛ حركة؛ أصاخ إليهما؛ وقع خطوات تثير ضجة على درجات سلم حديدي؛ يتردد صداها في أرجاء المكان؛ تسمر في مكانه. يظهر رجلان؛ تحت ضوءي مصباحين يدويين، مسلطان على البراميل؛ رآهما يرتديان ألبسة فضفاضة في لون الفضة أو الألمنيوم؛ تُغطي جسميهما تماماً، من قمتي رأسيهما إلى أخمصي أقدامهما، وكمامتان على أنفيهما وفوهَيْهما. قال هامساً صوتَه، وبانبهار: – هل هذه ألبسة واقية؟ سمع الرجلين ينطقان باللغة الإنجليزية، ودار حوار بينهما. ما لبث أن قيد الخرس لسانه؛ كاد أن يُغمى عليه؛ تماسك؛ حرك بيديه، وبحركات خاطفة جسدي علي ومصطفى؛ كانت قد سكنت حركاتهما، إلا من أنفاس خافتة تصعد وتهبط. حدث نفسه يُسائلها بإلحاح وفي حيرة بالغة: «قالا جزيرة؛ جزيرة القديسة هيلانة؛ ما أعلمه أن هذه الجزيرة توجد في مياه المحيط الأطلسي؛ إلى الغرب من ساحل إفريقيا الجنوبية، قبالة أنغولا. إذن فهذه السفينة الشبح لم تكن تتجه صوب مراسي أوروبا كما كنا نأمل، وكما كنا نريد أن نهتدي هناك إلى مكان سري، ننفذ منه إلى الداخل من أجل العمل والكسب، والبراميل؛ قالا، ويا للخسارة؛ إنهم سيُغرقونها في ماء البحر، هنا في الجنوب، لأنها مليئة بالنفاية النووية!». وتهاوى بهدوء.