سانت لوسيا تشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك (وزير الشؤون الخارجية)    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    زياش: عندما لا يتعلق الأمر بالأطفال يفرون    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    وسيط المملكة يعلن عن نجاح تسوية طلبة الطب ويدعو لمواصلة الحوار الهادئ    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أبي السرور" .. تأملات في سيرة يهودية فريدة
نشر في هسبريس يوم 21 - 02 - 2014


توطئة:
نتوخى من خلال هذا العرض الوجيز والمبسط أن نسلط الضوء على جانب من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية بالواحات الجنوبية للمغرب من خلال الاطلاع على أوضاع اليهود بأقا خلال القرن التاسع عشر الميلادي، من منطلق التأكيد الذي لم ينقطع عن الإشادة بالمساهمة المعتبرة لليهود المغاربة في بناء الذاكرة الجماعية للبلاد، والتي تظل شبه غائبة في معظم الأبحاث والكتابات المغربية التي حاولت التطرق للموضوع، دون الإسهاب في التعاطي الإيجابي لإسهامات تلك الفئة في الدينامية المجتمعية التي عرفها المغرب خلال محطات حاسمة من تاريخه العريق.
قد لا تبدو مسألة اقتحام موضوع الحضور اليهودي بالجنوب المغربي سهلة على الدوام، إذا وضعنا في الحسبان نذرة المادة المرجعية والمصدرية التي تعنى بذلك الجانب، وصعوبة الحصول على الوثائق المحلية بشتى أصنافها، إما مخافة أصحابها فضح أسرار بعض الأسر بالمنطقة، أو لغياب الاعتناء بها نظرا للجهل بأهميتها، كما أن الركون إلى الرواية الشفوية التي لا تتقيد بالزمن، وفي مثل هذه المواضيع الحساسة يطرح أكثر من علامة استفهام .
غير أنه لا يجب لتلك المعيقات أن تحبط عزيمة الباحثين والمتخصصين في التركيز على إيجاد طريقة مثلى لاقتحام الموضوع بشكل خاص، والتعرف على التاريخ الواحي بصفة عامة، والذي لا يجب اختزاله في كونه تاريخا بسيطا تسيطرعليه مشاكل التصحر؛ هكذا، برز هذا الطرح الذي ينطلق من غاية تحسيسية بالخصوص: التحسيس بأهمية انفتاح الباحثين من مختلف التخصصات على دراسة مجال واحات باني التي لم تنل بعد حظها من الكتابة والتأليف.
وللإشارة، فإننا لا نهدف من وراء هذه المحاولة البسيطة تقديم دراسة دقيقة مفصلة عن شخصية يهودية لم تنل بعد نصيبها من البحث والتمحيص ، بقدر ما سنحاول رصد بعض الإشارات الهامة التي التقطناها من تتبع تلك السيرة الشخصية التي لا تسعف الأدبيات التاريخية المحلية والوطنية - وللأسف الشديد- في التعريف بها.
قد لا يخرج نطاق عملنا الوجيز هذا عن الطابع السردي/الإخباري المكروه من طرف ثلة من المنبهرين بالتوجه الجديد في الكتابة التاريخية. بيد أننا مجبرين على السير في ذلك الدرب حتى يتسنى لنا التقاط جملة من القضايا الضمنية والصريحة حول العلاقات التفاعلية التي طبعت تاريخ الجنوب المغربي خلال فترة زمنية محددة من خلال تتبع سيرة ذاتية فريدة ليهودي أقاوي، واستقراء بعض المحطات البارزة من مغامراته.
لا نتوفر عن حياة مردخاي أبي السرور إلا النزار القليل؛ أي ما قدمه لنا الباحث عمر أوتسلامت، من خلال إفاداته الشفوية، وما وجدناه مدونا في كتاب قيم ل "جاكوب أولييل" ، الذي أمدنا بمعلومات مدهشة عن حياة عيش هذا الحاخام اليهودي الذي اتسمت حياته بالاضطراب وحب المغامرة.
و التعامل مع هذا المؤلف الشيق يجعلنا أمام حقائق في غاية من الأهمية البالغة؛ فقد قدم لنا من خلال تتبع مسار الشخصية اليهودية المذكورة صورة عن التنظيمات المحلية والتشكيلات السكانية لأقا، و ما آلت إليه الأوضاع الجيوسياسية بالبلاد خلال القرن التاسع عشر، وتضارب القوى الاقتصادية داخل مجال جغرافي شاسع في ظل التجارة الصحراوية التي أشرفت على زوالها، كما أمدنا بإشارات مؤثرة عن خصوصيات العلاقة بين بلاد السودان والمغرب. وسيتضح لنا ذلك، بعد التوقف عند أهم المحطات الرئيسية في حياة "مردخاي".
1-الولادة والنشأة والتتلمذ:
ولد مردخاي أبي السرور سنة 1826 بمدشر "تاكديرت " الأقاوي. من أسرة يهودية ميسورة الحال تنحدر من منطقة المحاميد الغزلان، والده "يعيش أبي السرور"(الأصل بالعبرية "حاييم) صائغ تقليدي بسيط - حسب بعض الإفادات الشفوية- غير أن الباحث جاكوب أشار إلى أنه زعيم عبري يمتهن مهنة الصياغة، ويتاجر في المجوهرات خاصة مع الرحل المتواجدين بالصحراء الموريتانية الذين أقام معهم علاقات تجارية متميزة، حيث يزودونه بالمواد الأولية كالتبر،الفضة والنحاس . يساعده في ذلك أبناؤه السبعة: يسو، ابرهام، يوسف، نسيم، مسعود، إسحاق، ومردخاي رابعهم .. تتلمذ بالكنيس اليهودي الكبير، ومنذ نعومة أظافره أبدى التلميذ ذكاء وموهبة فائقين، فأصر حاخام القرية على إرساله إلى المدرسة التلمودية بمراكش لاستكمال تعلماته، وقد اصطحب قافلة تجارية إلى تلك الوجهة، وعمره لا يتجاوز التسع سنوات، فقد كتب يقول" ذهبت إلى مراكش بلا مال ولا مرشد فقط ببركة الرب" درس هناك أربع سنوات، حصل خلالها على "الشهادة التلمودية" التي تؤهله لاستكمال مسيرته التعليمية بالقدس.
خلال سنة 1842 سافر بحرا عبر طنجة إلى ميناء "حيفا" بفلسطين، ثم برا إلى بيت المقدس التي قضى فيها أربع سنوات توجت بحصوله على "الشهادة الحاخامية" العليا، والتي تؤهله لترؤس القداس بالكنيس، ختان الأطفال، الإشراف على الذبيحة والتدريس. بعد ذلك ذهب في بعثة علمية إلى سوريا، جمع خلالها المال للعودة إلى بلاده، حيث سلك هذه المرة الطريق البري عبر مصر، ليبيا ومكث في غدامس الواقعة بين الحدود الليبية الجزائرية، وهو ما مكنه من الاطلاع على معطيات مهمة عن القوافل التجارية القادمة من بلاد السودان . و من غدامس اتجه صوب القسطنطينية بشمال الجزائر وأقام فيها مدة وجيزة اشرف خلالها على كنيس يهودي. وهناك سجل بأن يهود الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي في وضع متقدم مقارنة مع إخوانهم في الجنوب المغربي.
2- استطلاع المجال الصحراوي:
بعدما سمع "مردخاي" طيلة مقامه بالجزائر أن الأصقاع الصحراوية المجاورة لمسقط رأسه تعج بالحركية والنشاط، وأن تلك الفيافي والقفار أرض الاغتناء ومراكمة الثروة، قاده الفضول إلى استطلاع المجال الصحراوي، فأقدم على القيام بسلسلة من الزيارات المتتالية إليها، حتى تمكن من الوصول إلى "توات" إحدى أبرز المحطات التجارية التي تلتقي عندها القوافل القادمة من "تمبكتو" وباقي البلاد السودانية الأخرى، وجمع معلومات ناذرة حول طبيعة المنتوجات التي يتم الاتجار فيها، ومواعيد الرحلات، وأهم القبائل المستحوذة على المجال ، وأسماء الشخصيات النافذة التي تسهل حركية التنقل... وبعد عودته إلى أقا سنة 1858 أقنع أخوه "إسحاق" بفوائد التجارة مع" تمبكتو": المدينة المحرمة على غير المسلمين دخولها.
3- الطريق إلى تمبكتو: مغامرات و مخاطر
في خريف 1858قرر مرافقة إحدى القوافل التجارية المتجهة إلى" تمبكتو" صحبة أخيه "إسحاق. وكانت المسافة بين أقا و تندوف مسيرة ستة أيام كما جاء في مذكراته:"حملنا معنا ما يكفي من المياه و المؤونة ستة أيام . وبعد الوصول إليها أجبرا على عدم مواصلة المسير مع "الأكبر" خوفا على حياتهما، لكنهما تقفيا أثر الركب من تندوف إلى "إكيدي" .. لم يفته تسجيل كل ما يسترعي انتباهه، فبتندوف يوجد بئر للتزود بالمياه، وعن "اكيدي" سجل بأن المجال شاسع ووعر(عرضه مسيرة ثلاثة أيام)، ومسالكه صعبة الاختراق، فهو منبسط من الكثبان الرملية الحمراء اللون، تنعدم فيه المياه.. والسير إلى النقطة القريبة "عرف الشاش" تتطلب عشرة أيام، ومنها إلى "تليك"(مسيرة ثلاثة أيام) حيث الماء العذب متوفر بكثرة، ثم تأتي بعدها "تودني"التي تتواجد بهام مقالع لاستخراج الملح و يعمل فيها مجموعة من العبيد لفائدة سكان" تمبكتو" تحت إشراف قائد مقيم يقتطع خمس الكمية لصالحه.
واصلا المغامرين مسيرتهما نحو"أروان" (مسيرة عشرة أيام عن" تاودني") ومنها اعتقلا من طرف شيخ محلي يدعى "شيخ العرب أحمد ولد رحال"، وقد صرح مردخاي بأنه سبق له أن قتل عقيد في الجيش الإنجليزي حاول التسلل إلى تمبكتو.. تمكن أبي السرور من إقناعه بضرورة الإبقاء على حياته لأنه "ذمي" سيدفع له الجزية السنوية، و إتاوة الأمان ...لم تتسنى له الظروف الدخول إلى وجهته المقصودة إلا في خريف 1859 متنكرا في زي رجل عربي، وقصد هناك أحد التجار المغاربة الذي تعرف عليه خلال إقامته بالجزائر، ويدعى "ابن التلمودي"، لكن المثير أن هذا الأخير وشى به إلى حاكم "تمبكتو" ابن الكاهية الذي خيره بين حلول ثلاثة:اعتناق الإسلام /الخروج فورا منها/القتل..
غير أن مردخاي رفض تلك العروض جملة وتفصيلا بل طالب بملاقاة السلطان "حمدالله" الذي عرض أمره على العلماء. أقنعهم بأن الاسلام يقدر حقوق " الذمي "، وذكرهم بعلاقة الرسول بيهود يثرب، فانبهر به علماء تمبكثوا، ومنحت له رخصة مزاولة التجارة و الإقامة بها . فعاد أدراجه نحو أقا كي يحضر معه جالية يهودية بعد أن اكتشف طريقا مختصرا يربط أقا بتمبكتو (من 60يوما الى 21يوما). وهكذا تضاعفت أرباح مردخاي جراء عائدات التجارة مع تلك البلاد مابين 1860 و1870، فعين وكيلا تجاريا له"بموكادور" كما تعرف على شخصيات مرموقة، أمثال القنصل الفرنسي "أغوست بوميي " الذي غير من مجرى حياته (سنبين ذلك لاحقا). توصل أبي السرور بخبر سيء لحظة حفل زفافه بأقا سنة 1871م مفاده أن اخوته " اسو" و"أبرهام" توفيا بسبب إصابتهما بالطاعون الذي عصف بتمبكتو، ما يعني وفق العرف المعمول به محليا مصادرة أملاكه المنقولة والثابتة من طرف الحاكم، فعاد على عجل اليها وسجل لنا ملاحظات قيمة: تغير معالم المدينة، استبدال الحاكم "بنكاهية" بحاكم جديد، دسائس ومؤامرات استهدفت تجارته، ومحلاته .. فقرر على الفور بيع ممتلكاته وتصريفها تبرا.
4-رحلة العودة الأخيرة:
بعدما قرر مردخاي أبي السرور هو أخوه العودة إلى أقا بصفة نهائية، فضلا تجنب الطرق الاعتيادية خشية التعرض للنهب والسطو من طرف اللصوص وقطاع الطرق فاكترى مرشدا له دراية بمسالك الصحراء يدعى "المختار"..
وقد حكى لنا من خلال مذكراته أنه لما حط الرحال للاستراحة في مكان هادئ يبتعد عن وجهته المقصودة( مسيرة ثلاثة أيام) لاحظ مرشده ما يدل على أن المنطقة لم تكن بمنأى عن الأخطار المحدقة (آثار الأرجل مرت منها قبل سويعات) فحذرهما من العواقب، وما هي إلا لحظات حتى سمعا إطلاق البارود، فتوجسوا خيفة.. تفطن مردخاي إلى حيلة.. تنكر مع أخيه في زي شرفاء تافيلالت، وادعوا أنهم تجار صحراويين يبيعون البخور في الصحراء، ادعى اسما له"مولاي علي"، وأطلق على أخوه" مولاي إبراهيم"، وخبأ البضاعة تحت الرمال .. قتل المختار، وحوصر الركب..
لم تفلح حيلة مردخاي، فسرعان ما أكتشف أحد اللصوص الآثار الدالة على قدومهم من بلاد السودان( مكعب ملح) .. أجبر أحد العبيد المرافق لأبي السرور تحت طائلة التهديد على الاعتراف، ودلهم على مكان دفن التبر...أخبرنا مردخاي بأن قطاع الطريق الذين اعترضو اسبيلهم ينتسبون لقبائل "الركيبات" و"الصقارنة"، و يتألفون من ستين فردا على مثن ظهور الإبل..كما أنهم احتفلوا بتلك الغنيمة ثلاثة أيام تباعا، ثم أقدموا على تقسيمها.. استمال مردخاي أحد عناصر" الصقا رنة "، وذكرهم باسم شيخ القبيلة كانت له به علاقة قديمة..وهو ما شفع له البقاء على حياته هو وأخيه، فرجعا أدراجهما إلى مسقط رأسهما بدون عائدات تجارتهما.
5- الزيارة الى موغادور وولوج الميدان العلمي:
زار صديقه الفرنسي القنصل المذكور في السابق، وتقدم إليه بشكاية حول تعرضه للسرقة ونهب ممتلكاته، ورجاه أن يتدخل عند الجهات العليا..سيفضل القنصل "اغوست بومييAuguste Beaumier " تغيير مسار حياته، حيث طلب منه الاشتغال في جمع العينات، وإنجاز الخرائط لفائدة المجمع العلمي بباريس، فأرسله في بعثة علمية الى عاصمة فرنسا للاستفادة من التكوين ، ثم عاد للاشتغال في مجال وادنون وباني مع أحد مرافقيه من أبنا أقا ويدعى" ابراهيم أيتامريبط". وقد تمكن خلال سنة واحد من جمع ما يناهزعن 300 صنف من أصناف النباتات، والتشكيلات العشبية الناذرة، سجل البعض منها باسم "أقا"، وباسم صديقة "بوميي" و البعض الآخرباسم المغرب ومساعده امربيط.. سنكتشف فيما بعد أن صديقه الفرنسي يحضره للقيام بهمة انثربولوجية/استطلاعية في إطار اكتشاف المغرب وتهيئ الأرضية الملائمة لدخول الاستعمار الفرنسي الى البلاد. لكننا لم نتأكد عما إذا كان قبل بالمهمة، أوشارك فيها.
6- دفوكو في حضرة مردخاي:
هل كان الحاخام مردخاي أبي السرور على علم مسبق بقدوم شارل دوفوكوإلى أقا،أم أن هذا الأخير أخبر بمكان تواجده من قبل؟ قد لا نقدم جوابا مقنعا عن هذا السؤال الذي يطرح بحدة، والذي لا يخرج عن نطاق تحديد العلاقة القائمة بين تلك الشخصيتين. صحيح أن صاحب رحلة التعرف على المغرب لم يشر في معرض حديثه عن واحة أقا إطلاقا إلى استقباله من طرف هذا الحاخام الذي تسبب له في الكثير من المتاعب مع السلطات المحلية للمنطقة التي أحرجته نوعا ما حينما ألحت عليه تسليمه فورا اليها أو اقتحام الملاح، ومعاقبة المتورطين بعدماعلمت بمجيئه، ودخوله الأراضي الأقاوية دون حصوله على ترخيص مسبق. لحسن حظ دفوكو أن المضيف رفض الانصياع إلى ذلك القرار، بعدما قدمه على أنه يهودي قدم من روسيا.. فقد طلب منها حضور القداس الذي سيترأسه يوم السبت للتأكد. علما بأن العديد من الأصوات المطالبة بتسليمه تعالت من داخل الملاح حتى لا يقع تدنيس الكنيس، لكن سمح له في النهاية بإقامة الصلاة، وتأكدت يهودية دوفوكو أمام السلطات مع العلم أنه لا يتقن اللغة العبرية، و لا الشعائر التي تقام بها الصلوات.. كان ذلك مشهدا من بين المشاهد الكثيرة التي حصلت لمردخاي مع دفوكو طيلة إقامته بأقا سنة 1883م.
7- وفاته سنة1886:
نستطيع ربط هجرة مردخاي أبي السرور بالسياق العام الذي أدى باليهود الى ترك ديارهم والهجرة نحو المدن أو الى خارج البلاد، لكننا نجهل حتى اللحظة السر الحقيقي الكامن وراء مكوثه بالجزائر التي زاوج فيها بين الإطلاع على المخطوطات القديمة، وممارسة التجارب الكيميائية أملا منه في العثور على حجر الفلاسفة، أي: إيجاد المحلول الذي يستطيع تحويل بعض المعادن والأحجار إلى ذهب.. لقد استعمل مواد كيماوية خطيرة كحمضي النثريك و الكبريت، وهو ما عجل بوفاته، وما يزال قبره المتواجد بالجزائر العاصمة، يحمل عبارة: " هنا يرقد رحالة الصحراء مردخاي ابي السرور."
تساؤلات أساسية و أفاق مستقبلية للموضوع:
هل كان لزاما على تاريخ الجنوب المغربي أن ينتظر طويلا غير هذا الوقت الذي مضى حتى تستكمل دراسة جميع فصوله بعناية رصينة؟ ما الذي ينقص ذوي الاختصاص والتخصص حتى يباشروا عملية التغطية الشاملة للمجال في المكان وعبر الزمان؟
نخاف أن نتهم بالذاتية المفرطة حينما نصرح بالامتعاض الشديد الذي نحس به جراء هذا الاستخفاف الذي طال ذاكرة محلية تعد رافدا أساسيا من روافد الهوية الوطنية التي تشكو في الوقت الراهن - وللأسف الشديد- من آفة غربة الحاضر عن الماضي.
كان طرح مثل تلك الإشكاليات التي تخشى على تاريخ البلاد من الضياع والنسيان ضروريا، ستزداد الضرورة حينما نكون على بينة من وجود قصور عملي لا يستطيع تقديم اجوبة معرفية و منهجية دقيقة لمثل تلك التساؤلات التي طرحت من قبل . فالمسألة لم تكن بالبساط التي يتصورها البعض حينما يتم التصريح مثلا في أطروحة جامعية رزينة بأن المعلومات حول الجالية اليهودية بسوس نادرة الى أن زار شارل دوفوكو سوس سنة 1883 فنقل معلومات دقيقة مدعمة بعدة إحصائيات، فأصبح كتابه مرجعا لكثير من الدراسات الأجنبية المتأخرة .
إن هذا الاعتراف بأهمية السبق للأجانب في دراسة حقبة متأخرة من تاريخ اليهود بجنوب المغرب، والتقدير الذي نكنه لأعمالهم، لا يجب ان يوازيهإ الا العزم على وضع منهج مغربي خالص في التأليف التاريخي والأنثروبولوجي يعنى فقط بالدراسة المجهرية للتشكيلات السكانية، واستقرار التجمعات البشرية تمهيدا لفهم العلائق التي تجمع تلك العناصر المنتمية لحيز جغرافي مشترك.
نخاف أيضا أن نخيب ظن المطلع على هذا العرض البسيط الذي يبحث دوما وأابدا عن الجديد في التعاطي إلى مثل هاته المواضيع الذي نبرر عدم حماستنا إلى تطوير أهمية الوعي بها في كونه موضوعا مستهلكا من قبل. تحدونا رغبة جامحة في اقتفاء أثر هذا اليهودي الذي لم يتنكر لانتمائه للجنوب المغربي، عكس الأقلام التي تنكرت له.
من الأفيد لو كان الإصرار على ترجمة رحلة مردخاي أبي السرور إلى اللغة العربية، إصرار لا يجب أن ينظر إلى الترجمة على أنها غاية في حد ذاتها، ولكن وسيلة لضبط المنهج، ومحفزا نوعيا لاستنهاض الهمم ومحاولة القيام بعمل شامل ينطلق من بعد الإنفتاح على حضارة اليهود بالجنوب المغربي، ويتخذ ذلك البعد مطية للإجابة على جملة من الإشكاليات العويصة خاصة تلك التي تعنى بالجانب الثقافي والحضاري للروابط بين إفريقيا جنوب الصحراء مع المغرب، حتى مع التحول الحاصل في المحاور البرية للتجارة الصحراوية التي استبدلت بالمحاور الغربية/الساحلية من زاوية يهودية لأول مرة. وسيكون الأمر مفيدا جدا إذا ما تم استقراء الوثيقة المحلية، والاطلاع على الأرشيف الفرنسي وزيارة خزانات تمبكتو تشجيعا على التعمق والإبداع -على حد تعبير العروي- .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.