النيري: ليس هناك عملا عقيما يقف عند حدود شكله الأول.. وعين الفنان مسكونة بالتجدد والتغير أبدا "" أحمد النيري من الأسماء الفنية التي تشتغل في صمت، الأسماء التي تعشق الظل والتواري خلف عالم فني مليء بالألغاز والأسرار..، عالم خاص طافح بالفن والجمال...وجزافا نخوض مغامرة الفصل بين قرينين متلاحمين يسكنان جسدا واحدا: أحمد النيري الإنسان/أحمد النيري الفنان.. 1 - أحمد النيري الإنسان.. مسار حياة - من مواليد 1950 بمراكش - نشأ وترعرع بمدينة اليوسفية - تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي اليوسفية ما بين (1956-1965). - انتقل إلى مدينة مراكش لإتمام تعليمه الثانوي بثانوية ابن عباد ما بين (1965-1968). - التحق بسلك التجنيد الإجباري عام (1970-1972) حيث تلقى تكوينا في الفندقة السياحية. - التحق بالعمل في شركة تابعة للمكتب الشريف للفوسفاط 1973، بعد أن قضى سنتين من الخدمة العسكرية، وبها حصل على دبلوم تقني في الصيانة الكهربائية... - التحق بشركة فوسبوكراع التابعة للمكتب الشريف للفوسفاط بالعيون عام 1980. - عين مندوبا للعمال بقسم السلامة والوقاية التابع لوزارة الطاقة والمعادن ما بين (1990-1994). - حصل على التقاعد بعد أزيد من ثلاثة عقود من العطاء والإنتاج(2003).. - متزوج وأب لأربعة أبناء. أبرز الأنشطة الفنية - معرض بالدار البيضاء 2002 بالإدارة العامة التابعة للمكتب الشريف للفوسفاط. - 2007 معرض بمدينة العيون بمناسبة النسخة الأولى لمهرجان آزوان. - 2008 معرض بمدينة العيون بمناسبة النسخة الأولى لمهرجان الطفل اليتيم. - دعوة كريمة من صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله لحضور مراسيم الاحتفاء بذكرى عيد العرش المجيد بقصر مارشان بطنجة عام 2007.. - معارض مختلفة ومتنوعة بتراب ولاية جهة العيون بوجدور الساقية الحمراء(طرفاية-بوجدور-بوكراع...). 2 - أحمد النيري الفنان.. سيرة عتبات إن المتأمل في الفضاء الفني التشكيلي للفنان النيري يمكنه أن يقف على ثلاث عتبات: العتبة الأولى: آليات الاشتغال يتخذ الفنان النيري من الأدوات البسيطة، والتي في حكم المهمل في نظر العديدين، آليات للاشتغال ومساحات للخلق، ومجالا خصبا للابتكار والابتداع..،إذ يقول:(..كل الأشياء البسيطة والمهملة بالنسبة لي كائنات حية تنضح بالحيوية والجمال..)، فخشب البناء يشكل مادة دسمة للفن التشكيلي التشخيصي عند الفنان النيري، فإذا كانت التشخيصية اتجاهين: فطرية وانطباعية، فان الذي يميز شخصية النيري غلبة الطابع الثاني القائم على الذاتية والعصامية..وأغلب أعماله المرتبطة بهذا الاتجاه اتخذت من الشخصيات التاريخية والتراثية المعاصرة والقديمة منطلقا لها، وقد استحوذ الإرث الثقافي التراثي الصوري المغربي والعربي على العديد من تضاريس هذه اللوحات..كما اتخذ من رقاع الجلد، جلد الماعز والغنم والغزال...مادة للاشتغال، وقد نازعت هذه الأخيرة مثيلاتها السالفة الآنفة الذكر في الحضور والمساحة والوظيفة... أما الورق المقوى فكانت له حصة الأسد، إذ لم تقف وظيفته عند حدود التشخيص، بل تخطته إلى كل الاتجاهات الأخرى، التي عرفها هذا الفن منذ النشأة إلى اللحظة الراهنة، فالفنان النيري كنحلة لا تكتفي بالتغذي على زهرة واحدة ومن بستان واحد، بل يدفعها فضولها وثقتها في النفس إلى الارتشاف من رحيق أزهار وبساتين مختلفة...كما لا ننسى حضور بعض الآلات والأدوات الفلاحية والمنزلية البسيطة كالمعاول والصحون...وغيرها من الأدوات الأخرى كالحجر وسعاف النخل والزنك التي يرى فيها صفحات مخيفة، لا يشعر فيها ومعها بالأمان إلا بعد امتلائها ولبوسها لباسا جديدا يمحو سيرتها الأولى... ينضاف إلى ما سبق، طبيعة الألوان الموظفة، حيث يهيمن اللون البني على ما سواه من ألوان الطيف الأخرى، اللون الذي يستمد كينونتة من مواد طبيعية صرفة كالبن والنعناع ومح البيض وقشور الجوز والحناء والكحل وغيرها من المواد البدائية كالزعفران وقشور البيض والطحين التي يمكن أن نطلق عليها بالألوان الطبيعية الماقبل الصناعية..، دون أن ننسى استعانته بالصباغة المائية المسماة ب(لاكواش)...كل هذه الفسيفساء تنصهر في بوثقة واحدة، وتتحول، في التحامها وتماهيها بالمواد الآنفة الذكر، إلى كائنات حية تستوقف المتأمل، وتستفزه بالعديد من الأسئلة والإشكالات، وتدفعه إلى الاستعانة بالعديد من المفاتيح لفك شفراتها بغاية الوصول إلى كنهها وجوهرها... العتبة الثانية: كيفية الاشتغال إن المواكب عن قرب لطريقة اشتغال أحمد النيري يسجل الملاحظات التالية: - بساطة الأدوات المستعملة والوسائل الموظفة داخل المرسم، بساطة تتلاشى وترتفع أسهم قيمتها بانتهاء الفنان من لوحته، التي تنم عن تجربة كبيرة ودرجة عالية من الفنية والاحترافية، والتي تؤكد حقيقة واحدة هي أن الموهبة والإرادة سلاحان بيد الفنان لايهزمهما وضاعة الإمكانات وبساطة الآليات... - التفاني والعمل المتواصل والدؤوب، إن وقت اشتغال الفنان النيري غير محدود في الزمن، ولولا ضيق المكان لصح قولهما معا، فهو يشتغل بدون انقطاع أو كلل، الزمان عنده ممتد، لا يخضع لقانون التعاقب والتناوب، فقد يشتغل أياما دون توقف ودون أن يعبأ بليل أو نهار، فكلما خامرت ذهنه فكرة أو موضوعة، إلا وبادر إلى نقلها من العالم اللامرئي إلى العالم المرئي، من العالم المجرد إلى العالم المادي الملموس، فانغماسه في عمله لا يجعله يحس بتراكم الزمن..،إذ يشير إلى أن (الزمن بالنسبة لي لا بداية له ولا نهاية، فهو ممتد امتداد اللوحة التي لانهاية لها..).. - الإخلاص والصدق في العمل، إذا كان العارفون بالفن يسلمون بفكرة مفادها أن الاشتغال على النص أو القصيدة أو اللوحة...يبتدئ من لحظة الإحساس بانتهائها، فان هذه الفكرة تشكل مبدأ أساسيا عند الفنان النيري، فإذا كان عدد لوحاته فاق الثلاثة آلاف عملا، فانه يقر بان لا واحدة منها قد اكتمل عقدها، فهي لا زالت كلها في مراحلها التمهيدية، وكل ركن فيها يفتح بابه ويشرعه على باب آخر، وكل لمسة تحيل على أخرى، وكل فكرة تسرح بك في عوالم لا متناهية في الزمن والمكان، إلى درجة تفقد معها اللوحة الأولى هويتها نهائيا وتستسلم لشكل آخر جديد، لذا تجده كثير التنقيب بين لوحاته ورسوماته، مواضيعها لا تستقر على حال، هي شبيهة بديكور ورشته الذي لا يعرف الاستقرار والثبات،..فهو يقر بأنه(..ليس هناك عملا عقيما يقف عند حدود شكله الأول، فعين الفنان مسكونة بالتجدد والتغير أبدا...). العتبة الثالثة: مجالات الاشتغال إن المتأمل في أعمال احمد النيري الفنية يقف على ملاحظتين أساسيتين: الأولى: الغزارة في العطاء والإنتاج، إن ما يميز الفنان النيري العطاء المسترسل والمتواصل، الذي يمتد إلى البدايات الأولى لتشكل الحس الفني عند الرجل، إذ يشير قائلا( ابتدأت الرسم قبل الدخول إلى المدرسة، وكان ذلك على لوحة خشبية لأختي التي تكبرني بثلاث سنوات..واذكر أن أول ما رسمته كان ديكا...من هنا كانت البداية..)، البداية التي لازال يحتفظ فيها بما جادت قريحته من رسومات وتعابير وأشكال، تقف شاهدة على عمق التجربة الفنية وامتدادها... الثانية: التعدد والتنوع: إن تنوع الروافد الفكرية، وتعدد الاتجاهات الفينة سمة مميزة للفنان النيري و لأعماله الإبداعية، حتى انه يصعب تصنيف أعماله ضمن مدرسة أو اتجاه بعينه، فجل الاتجاهات الفنية حاضرة في إبداعاته ماثلة في أعماله، فالاتجاه التشخيصي الواقعي برافديه الطبيعي والبشري حاضر بقوة، حضور يعكس قدرة الفنان ومهارته على التصوير، وبراعته ودقته في المحاكاة والتقليد...كما يحضر الاتجاه التجريدي بقوة في ريبيرتوار الفنان، تجريدية لم تأت صدفة ومن دون أي أساس واقعي، وإنما هي ( هي تتويج لمسار فني حافل بالتشخيص والتعبير..ومجال خصب لإراحة النفس وتفريغ المكبوتات..) كما للاتجاه السريالي حضور لافت من خلال تقنية اللصق، حيث يتخذ من المكونات الطبيعية والصناعية مواد أساسية للاشتغال... وفي الختام يمكن القول إن الفنان أحمد النيري يبقى مدرسة تحمل كل مواصفات الفنية ومقاييس الاحترافية، مدرسة تنتظر من يقتحم عالمها ويشرع بابها على جمهور متعطش للفن الجميل والذوق الرفيع، وهذه أمنية غالية عند صديقتا المكرم لطالما ناشد بها القيمين على الحقل الثقافي في هذا البلد الأمين، ونتمنى صادقين أن تجد آذانا صاغية في أقرب آجال ممكن... * - نص المداخلة التي ساهمت بها في الحفل التكريمي للفنان النيري الذي أقيم على هامش الأيام المسرحية الثانية التي نظمتها المديرية الجهوية للثقافة بالعيون وجمعية فنون للإبداع المسرحي والتكوين الفني أيام 18-19-20 يونيو 2009.