1. تاريخية الأصول : أشرنا فيما سبق إلى كلمة د. حسن الترابي واعترافه وهو صاحب المرجعية الإسلامية بضرورة تجديد الأصول بحكم أن المنظومة السالفة تحمل معها آثار ظروفها الزمكانية، ومهمتنا الآن استجلاء هذه الملابسات التي أحاطت بتشكل الفكر الأصولي. من خلال إلقاء نظرة عامة على اجتهادات الباحثين المعاصرين حول قراءاتهم لتشكل أصول الفقه نجد أن ثمة رؤى مختلفة وتأويلات متعددة، وإن لم تكن كما أرى تنقض بعضها البعض، بل إن كلا منها يكمل الأخرى، وليس أدل على ذلك من قول الدكتور عبد المجيد الصغير وهو بصدد التمهيد لتقديم رؤيته لتبلور الأصول "بالرغم من خصوصية المقاربة التي في ضوئها تناول الأستاذ محمد عابد الجابري نشأة علم الأصول مع الشافعي فإنه يعترف قائلا : أما أن يكون لهذا الصراع حول الأصول في مجال التشريع أبعادا اجتماعية وسياسية فهذا ما ليس من مهمتنا الخوض فيه هنا"، و يضيف د. الصغير "ونحن نسمح لأنفسنا بإبراز تلك الأبعاد" (1). وقبل أن نشير إلى الأبعاد الابستمولوجية والسياسية التي جعلت الشافعي يقدم على تأليف رسالته ووضع علم الأصول، لنبدأ باعتراف محقق الرسالة أحمد شاكر، يقول "ولم يكن الكثير منهم أهل لسن وجدل [يقصد أهل الحديث]، وكادوا يعجزون عن مناظرة أهل الرأي فجاء هذا الشاب [يقصد الشافعي] يناظر وينافح، ويعرف كيف يقوم بحجته، وكيف يلزم أهل الرأي وجوب اتباع السنة" (2)، إن هذه الكلمة الهامة للأستاذ أحمد شاكر تكشف عن دواعي وضع الإمام الشافعي لعلم الأصول، لقد كان الخلاف مشتدا بين مدرستين، ويبدو أن محل النزاع هو المساحة التي يجب أن تحتلها السنة من التشريع، بمعنى آخر هل تستقل بالتشريع أم لا؟ وقد سبق أن أشار الشافعي نفسه إلى هذا الخلاف، فالمدرسة الأولى نصية غلت في توظيف النص، ومدرسة الرأي التي يتزعمها أبو حنيفة تتوسع في استخدام الرأي، وهذا التباين يرجع إلى محددات جغرافية وثقافية واجتماعية، فتوسع أهل العراق في الرأي على حساب الحديث والأثر يرجع إلى البعد عن مهبط الوحي وقلة البضاعة النصية، هذا فضلا عن اختلاف البيئة التي اختصت بالوحي، ما يعني أن أهل العراق سيواجهون قضايا جديدة لا نص فيها، وهو الحامل بالضرورة على استخدام الرأي، يقول أحمد بن حنبل "مازلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا" (3)، إذا فالشافعي جاء ليضع حدا لأزمة الأسس هذه، حيث استخرج من خلال آلية عقلية هي الاستقراء أصول التشريع التي تمزج بين النقلي والعقلي، من هنا الطابع التوفيقي لمشروع الشافعي على المستوى الظاهري، وإن كان الإمعان في الآلية العقلية التي دعى إلى استخدامها، أي القياس، وعلى ذلك النحو الذي وضحه، يلزمنا أن نقول بأن الشافعي كان منحازا لأهل الحديث (4). أما الجابري فيذهب إلى أن أصول الفقه لابد من البحث عن سياقها التاريخي داخل الأبحاث البيانية التي بدأها اللغويون، بمعنى أنه لا يمكن الربط بين الفلسفة الدخيلة أو "علوم الأوائل" وعلم أصول الفقه، ويستند في ذلك على عدة مستندات، منها معاصرة الشافعي لكبار اللغويين، الخليل وسيبويه، فقد استشف الجابري من قراءته للرسالة تأثر الشافعي بمنهجية اللغويين، لقد نظر الخليل في سحر البيان ألفاظا وأوزانا، وحدده سيبويه إعرابا ونحوا، من هنا سيطرح الشافعي استكمالا لهذا العمل سؤال "كيف البيان؟"، أي تحديد علاقة المبنى بالمعنى في النص المؤسس، يقول الجابري "لقد تم البيان العربي على مستوى المبنى (النحو)، وعلى مستوى المعنى من جهة ثانية (معاجم اللغة)، فلماذا لا يقنن على مستوى علاقة المبنى بالمعنى؟ وفي النص الديني الأساسي، ويكون ذلك طريقا ملكية إلى جعل حد للفوضى الضاربة أطنابها في مجال التشريع، فوضى التضخم في الحديث والرأي سواء بسواء؟" (5)، وهكذا نلا حظ أن الجابري يستحضر الاختلاف الحاصل بين أهل الرأي وأهل الحديث، وإن نحا منحى آخر في تحديد السياق التاريخي لتبلور علم الأصول، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه في مدخل هذا المحور عن تمازج وتداخل عوامل تبلور الأصول، وهكذا فالشافعي كان يقف على أرضية تتحدد من حيث المنهج بطغيان الجانب اللغوي عليها (6). أما عبد المجيد الصغير، فقد حاول في أطروحته القيمة "الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام" أن يستخلص تلك الدواعي السياسية التي يمكن أن تسهم في نشأة علم أصول الفقه، وينطلق من الصراع الحاد الذي شهده تاريخ الإسلام بين السلطتين العلمية والسياسية، وليس أدل عليه من كثرة المحن التي اكتوى بنيرها العلماء بسبب مواقفهم المعارضة للسلطة السياسية، يقول الصغير "إن وقوفنا على جملة محن رجل العلم اتجاه مالكي السلطة السياسية، ليعتبر أفضل تمهيد لفهم وتلمس بعض المعطيات الواقعية التي أحاطت بنشأة أصول الفقه في الإسلام" (7). لقد كانت آمال رجل السلطة دائما هي الجمع بين السيف والقلم، وعندما يعجز في تحقيق ذلك يرفع شعار "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ويوقع بخصومه العلماء أشد أنواع العذاب وينكل بهم أيما تنكيل، ويرى عبد المجيد الصغير أن الخلفاء في الحقبة العباسية عملوا على الحد من سلطة العالم المعرفية، وقد كان كتاب "رسالة الصحابة" لابن المقفع استجابة لطموح السلطة السياسية لتكريس رأي الحاكم الواحد وإبعاد الآخر، والآخر هنا ليس سوى العلماء الذين ينافسون الحاكم على استمالة الجمهور إلى صفوفهم، يشير إلى هذا عبد المجيد الصغير بقوله "ولعل رسالة الصحابة لابن المقفع لا ترمي إلى أكثر من الاضطلاع بهذه المهمة التي تقصد إلى تقديم مشروع ظاهره إداري تنظيمي وهدفه إيديولوجي سياسي، يصب في نفس الرغبة الأثيرة لدى رجل السلطة السياسية، الاستبداد بالسيف" (8). من هنا، فإن عبد المجيد الصغير يقدم قراءة مغايرة لرسالة الصحابة، لقد رأى الكثيرون في هذه الرسالة دعوة إلى تقليص سلطة الحاكم، وذلك لوقوفهم الظاهري عند تنصيص ابن المقفع على عدم طاعة السلطان في معصية الخالق، أما الصغير فيرى أن تنصيصه هذا تحصيل حاصل، فكأنه يومئ إلى الأسلوب الملتوي الذي وظفه ابن المقفع في رسالته، ولسان حاله يقول أن ابن المقفع يقرر عدم جواز طاعة الحاكم فيما يعارض نص حتى يحفظ صلاحية هذا الحاكم فيما ليس فيه نص، إذ لو تجرأ الحاكم على تجاوز حدود الشرع فإنه سيسقط من أعين الناس، وسيلتجئ الجمهور إلى العالم المحافظ على حمى الله، مما سيؤدي إلى تناظر العالم والحاكم، وهذا ما يرفضه ابن المقفع ومن باب أولى السلطان، يقول ابن المقفع مؤكدا هذا التحليل "إذا كان الإمام يعصى في المعصية وكان غير الإمام يطاع في الطاعة، فالإمام ومن سواه على حق الطاعة سواء. وهذا قول معلوم يجد الشيطان ذريعة إلى خلع الطاعة.. لكي يكون الناس نظائر، ولا يقوم بأمرهم إمام" (9)، وهكذا نجد ابن المقفع في رسالته يصر على تنحية العالِم من الحياة الاجتماعية ويقلل من دورهم في التنظير للإشكالات التي يجابهها المجتمع، في المقابل يفسح المجال أمام الحاكم ليستبد بالرأي، وفي أحسن الأحول يوكل للعالم مهمة الإشارة والنصيحة، دون أن يغفل الإشارة -إمعانا في تغييب الفقيه- إلى ما يتخلل العمل الفقهي من خلل، بالتأكيد على الخلافات بين الفقهاء، بل والتهويل في هذا الخلاف إلى حد أنه ينص بأسلوب مبالغ فيه -يبطن رغبته في تشويه صورة العمل الفقهي- على اختلاف الفقهاء حول تحليل وتحريم الدم، وهي مسألة خطيرة من غير شك لا يجب أن يطالها الخلاف. إذا فرسالة الإمام الشافعي يجب أن تقرأ كردة فعل على رسالة الصحابة لابن المقفع، لقد أراد من تأليفها إعادة الاعتبار للعالم وتحقيق مركزيته في المنظومة التشريعية، ومحاصرة رجل السلطة السياسية، بل وإعجازه عن إبداء الرأي في مجال لم يضرب فيه بيده، أي العلم الشرعي وإبداء الرأي بالفتوى. وهذا الصراع بين السلطتين قد عايشه الإمام الشافعي منذ شبابه وهو طالب علم، إن ذاكرة الإمام الشافعي كانت محفورة بمشاهد عن تعارض السلطتين السياسية والعلمية بل وتنافرهما، ودوننا الرواية التي يحكيها الشافعي نفسه عن بداية رحلته إلى الإمام مالك بالمدينة، قال "دخلت إلى والي مكة، وأخذت كتابه إلى والي المدينة ومالك بن أنس. فقدمت المدينة فأبلغت الكتاب إلى الوالي. فلما قرأه قال : يا فتى إن مشيي إلى جوف مكة حافيا راجلا أهون علي من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذل حتى أقف على باب. فقلت أصلح الله الأمير، إن رأى الأمير يوجه إليه ليحضر. فقال : هيهات. ليت إني إذا ركبت أنا ومن معي وأصابنا من العقيق، نلنا بعض حاجتنا. فواعدته العصر، وركبنا جميعا، فوالله لكان كما قال. لقد أصابنا من تراب العقيق. فتقدم رجل فقرع الباب. فخرجت إلينا جارية سوداء.. فقال لها الأمير : قولي لمولاك أني بالباب. فدخلت فأبطأت، ثم خرجت فقالت : إن مولاي يقرئك السلام ويقول إن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرجك إليك الجواب، وإن كان للحديث فقد عرفت يوم الملجس فانصرف"، إن هذه الرواية التي ظلت محفورة في ذاكرة الشافعي لاشك أنها ولدت لديه وعيا بتقابل وتصادم السلطتين، وأن هذا الوعي بالصدام قد ظل حاضرا لدى الإمام الشافعي، من هنا يلاحظ عبد المجيد الصغير غلبة المفاهيم السياسية في كتابه، مثل الأمر والنهي والوجوب والحكمة والرأي وأولي الأمر والطاعة، إن فهرس المفاهيم الذي وضعه أحمد شاكر للكتاب كما يقول عبد المجيد الصغير طافح بالمفاهيم السياسية. ومما يدل على حرص الإمام الشافعي على إبعاد السلطان عن مجال إبداء الرأي في الشرعيات توكيده على أهمية إتفان اللغة العربية، إنه كما يقول الصغيّر "يندرج ضمن تأسيسيه لوسيلة من أهم وسائل السلطة العلمية التي تستصعب على رجل السياسة" (10)، ويضيف الصغير قائلا "هذه الصعوبة ستزداد وضوحا بالنسبة لرجل السلطة بحكم الفئات والعناصر غير العربية التي قدر لها أن تمسك بزمام السلطة في دولة الخلافة منذ البويهيين حتى الأتراك العثمانيين" (11). كما أن تشديد الشافعي على التزام ما في القرآن والسنة في الإفتاء، وبل ومراعاتهما في القياس لا يمكن أن نفهم منها إلا أن الشافعي كان يروم إغلاق أية فجوة يمكن أن يجد فيها الحاكم مدخلا لفرض رأيه، وعلى ضوء هذا التحديد يجب أن نقرأ رفض الاستحسان، فالشافعي كان واعيا بأن الاستحسان لن يكون ورقة رابحة إلا في يد من له سلطة ليستحسن ويفرض رأيه، وهو الحاكم بطبيعة الحال، وحتى المثال الذي يضربه الشافعي لرفض الاستحسان لا يخلو من دلالة، إنه نموذج من نماذج الاستحسان الذي يلجأ إليه الحاكم، يروي الشافعي عن مالك أن الخليفة معاوية "باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذا؛ فقال معاوية : ما أرى بهذا بأسا. فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية. أخبره عن رسول الله ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض" (12). من هنا يرى عبد المجيد الصغير أن البعد السياسي في كتاب الرسالة حاضر بقوة، وأن التقنين والتقييد الذي كان يرنو إليه ليس تقييد الفتوى فقط، بل تقنيين التدبير السياسي، وأن مهمته لم تكن محصورة في ضبط الألفاظ اللغوية بل تعدت ذلك إلى ضبط حركات الحاكم كذلك. وكخلاصة لما ذكرناه حول تاريخية الأصول نقول؛ إن الإمام الشافعي كان يتحرك على ثلاث جبهات، فهو من جهة كان يستحضر أزمة الأسس بين اتجاهيين أحدهما يغلو في النص والآخر في الرأي، ومن جهة أخرى موجه بنشاط البيانيين ومجهوداتهم لضبط اللغة، إضافة إلى إملاءات وإكراهات الواقع التي حملته على إعادة النظر في علاقة السلطة العلمية بالسلطة السياسية على ضوء ما حدده ابن المقفع في "رسالة الصحابة". 2. تجديد المقاصد كل ما ذكرناه في الصفحات الماضية عن تشويه الأصول وتاريختها يضطرنا للاعتراف بحاجتنا إلى التجديد، وإذا كان الفكر الأصولي في مساره التصاعدي قد ارتقى إلى أن بلغ المرتبة التي جعلته ينظر إلى المقاصد كأصل يجب أن يراعيه المشرع، فإن مهمتنا نحن أن نعيد النظر في هذا الإرث المقاصدي ونقومه تقويما بحيث ندفع به إلى الأمام في سبيل تحقيق مزيد من الرقي الفكري الذي ينعكس إيجابا على واقعنا، وسنثير هنا جملة إشكالات تنير دربنا في سبيل تجديد الفكر المقاصدي. لعل واحدة من أهم القضايا التي أثيرت حول الفكر المقاصدي هي جذور هذه الرؤية، هل هي برهانية أم عرفانية؟ لقد اختلف الفيلسوفان طه عبد الرحمن وعابد الجابري حول المرجعية التي نهل منها أبو إسحاق الشاطبي صاحب أهم قراءة مقاصدية للشريعة، فالجابري يرى أن قراءة الشاطبي امتداد للرؤية البرهانية التي كان ابن رشد واحدا من أهم حلقاتها (13)، بينما يرى طه عبد الرحمن أن الرؤية المقاصدية للشاطبي تدين بالفضل للعرفانيين الصوفيين، والذي نختاره أن الرؤية المقاصدية إلى الشريعة فرع عن الرؤية الصوفية إلى الوجود ككل، وهي الرؤية التي قوامها التأمل والتعليل، لقد ألف أبو حامد الغزالي وهو المفكر الصوفي "الحكمة في مخلوقات الله عز وجل" كتعبير عن فلسفته في النظر إلى الوجود، لذا فالمقاصدية تعكس هذه المقاربة التعليلية على المستوى التشريعي، بل ولنتذكر كذلك أن أبا حامد الغزالي قد ذهب بنظريات المقاصد إلى أبعد مدى، وهو يأتي في قمة فلسفة المقاصد قبل الشاطبي، ليس هذا فحسب بل إن أوائل المقاصديين الذين اجتهدوا لتعليل بعض الشرائع كانوا صوفية، نذكر على سبيل المثال الحكيم الترمذي صاحب كتاب "الصلاة ومقاصدها"، فهذا الأخير كما يقول أحدهم "ينحو في تعليلاته منحى ذوقيا إشاريا" (14). ومن الإشكالات المتعلقة بالمقاصد كذلك، بل وهي ألصق بها من أية قضية أخرى؛ مسألة التعليل، أي تعليل الأحكام، فمعلوم أن هذا الأخير هو لب النظرية المقاصدية، ببساطة لأن فلسفة المقاصد تنطوي على رؤية تعليلة حِكمية. كتب أحد الفقهاء الأصوليين يقول "وإذا كان التعليل على هذه الدرجة من الثبوت والوضوح فما سر هذا الاختلاف الكبير بين المثبتين والمنكرين؟ سؤال محير حقا." (15)، وكمحاولة لرفع هذه الحيرة أقدم الجواب التالي؛ إننا نرى أن سبب رفض بعض الظاهريين والمتكلمين الأشاعرة للتعليل يرجع بالأساس إلى رؤيتهم الأنطولوجية للوجود؛ إن الظاهري والأشعري ينطلق من مركزية الإله، من هنا فهو يسقط كل مسألة على الذات الإلهية، هل تليق بصفاته أم لا؟ أما المعلل المقاصدي فهو يثبت مركزية الإنسان في المنظومة التشريعية ويعتقد في غنى الله عن العالمين، المتكلم الأشعري لأنه يستند إلى رؤية تستحضر انعكاسات كل قضية على الله فإنه يقول بسفسطائية أن الغرض لا يرومه إلا ناقص فهو يستكمل بغرضه، من هنا لا يجوز أن ننسب لله تعالى غرضا أو نعلل له فعلا وإلا لم نُحِطه بما يليق به من تنزيه، وعلى هذا الأساس فإن الفلسفة المقاصدية على النقيض من ذلك مرتبطة وثيق الارتباط بِرهانات الأنسنة، أنسنة الفهم الديني ونزع الصبغة اللاهوتية عنها، ألم يقل بعض الأصوليين "حيث المصلحة فثمة شرع الله"؟ هذا ولابد أن نقول مع د. طه عبد الرحمن أنه على الرغم من أهمية نظرية المقاصد في جملتها، إلا أنها لا تخلو من ثغرات، فتقسيم الضروريات إلى خمسة أقسام (حفظ العقل والنفس والدين والنسل والمال) وهي من أهم تنظيرات الأصوليين المقاصديين لا تستوفي كل شروط التقسيم، كما أنها لا تحيط بكل مقاصد الشريعة، وطه عبد الرحمن يطعن في حصر الضروريات في هذه الخمسة من الوجوه التالية : "أنها لا تستوفي شرط تمام الحصر"، فَمِن العلماء مَن أضاف ضروريات أخرى مثل "حفظ العرض" و "حفظ العدل".. إلخ، من جهة أخرى "لا يقوم بشرط التباين، فالعنصر الواحد من هذه العناصر ليس مباينا لما عداه من العناصر الأخرى" (16)، كما اعترض طه عبد الرحمن على حصر الضروريات في خمسة وفصل الأصوليين بينها وبين الحاجيات والتحسينيات، إذا الكثير من الحاجيات هي في آخر المطاف ضروريات، فإباحة الفطر في رمضان عند السفر مثلا حكم حاجي لكنه ضروري كذلك لأنه يروم حفظ النفس، من هنا فطه عبد الرحمن يقترح تقسيما أرحب لمقاصد الشريعة بحيث تكون هذه الأخيرة غايات كلية قصوى، ويتم تصنيفها حسب الجانب الذي تطاله، وهي في آخر المطاف ثلاث : - قيم النفع والضرر. - قيم الحسن والقبح. - قيم الصلاح والفاسد. تشمل الأولى الجانب المادي من الوجود الإنساني، ويسميها "المصالح الحيوية"، ويكون الشعور المرافق لتحقيقها هو اللذة، والألم عند الوقوع في المفاسده. والثانية تشمل "المصالح العقلية"، أي تلك المتعلقة بعموم البنيات النفسية والعقلية، ويكون معيار التمييز فيها بين الحسن والقبيح (المصلحة والمفسدة) هو ما يرافقها من شعور الفرح والحزن، وتشمل الثالثة "المصالح الروحية" وهي المتعلقة بعموم القدرات الروحية، وهنا تكون السعادة مؤشرا على تحقيق المصلحة، والشقاء دليلا على حصول المفسدة. (17)، وهذا التقسيم من غير شك أهم من ذلك الذي اعتاده الأصوليون بعد أبي حامد الغزالي. خلاصة : لقد تناولنا في دراستنا هذه بما يسمح له إطارها ثلاث نقاط هامة متكاملة، نرى أن أي مجهود تجديدي لابد أن يستحضرها، وهي أولا التنصيص على أهمية أصول الفقه وتأثيرها في بلورة العقل الإسلامي وتوجيهه اتجاها سلفيا بالمعنى الواسع لكلمة "سلفية" نتيجة لمغالاة في توظيف القياس، ثم وقفنا على مظاهر التاريخية في الفكر الأصولي، وقد حددناها منهجيا في تأثر الشافعي بأبحاث اللغويين التي كانت تتطور بشكل كبير عندئذ، أما الواقع فقد ساهم كذلك بقسط وافر في نشأة الأصول على ذلك النحو الذي بيناه (أزمة الأسس بين مدرستي الرأي والحديث، والصراع السياسي-العلمي)، وختمنا دراستنا بتأملات حول المقاصدية، حيث أكدنا على ضرورة مراجعة هذا الإرث وتقويمه، وتقديم تصنيف جديد أوسع للمصالح، يطال كل جوانب الوجود الإنساني (المادة، العقل، الروح)، وهذا في أفق جعل الفكر الأصولي خادما لمصلحة المجتمع، وقوة دافعة للتوثب لا النكوص. الهوامش: (1) عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام. بيروت. دار المنتخب العربي. 1994. ط1. ص 151. (2) انظر مقدمة الأستاذ أحمد شاكر محقق كتاب الرسالة، ص5. (3) نقلا عن : عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام. ص 165. (4) حول اختلاف أهل العراق وأهل الحجاز، انظر : أحمد أمين، ضحى الإسلام (الجزء الثاني). بيروت. دار الكتاب العربي. [د.ت]. ص 151 وما بعدها. (5) محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي. ص 103. (6) بالإضافة إلى تأكيده على أهمية ضبط اللغة العربية في كشف دلالات النص، فنجده يقدم لنا مدخلا لغويا شاملا عن علاقة اللفظ بالمعنى، يختزله في مايلي : - عام ظاهر يراد به عام ظاهر. - عام ظاهر يراد به عام ويدخله خاص. - عام ظاهر يراد به خاص. - ظاهر يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره. ثم يضيف "وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها. وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة". الشافعي، الرسالة. ص 51-52. (7) عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام. ص 125. (8) نفسه، ص 133. (9) نفسه، ص 135. (10) نفسه، ص 170. (11) نفسه. (12) نفسه، ص 175. (13) محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي : دراسة تحليلة نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية. بيروت. مركز دراسات الوحدة العربية. 2009. ط9. ص 538 وما بعدها. (14) أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي. بيروت. الدار العالمية للكتاب الإسلامي. 1995. ط4. ص 40. (15) نفسه، ص 228. (16) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. الدارالبيضاء. المركز الثقافي العربي. 2007. ط3. ص 111. (17) نفسه، ص 113-114.