تأملات الروائي... أدبية وفلسفية حينما أشرع في قراءة نص روائي أشعر بنوع من العلاقة المتوترة مع هذا النص، يكون ذلك بداية القراءة، ثمّ تتبادر إلى ذهني بعض الأسئلة؛ من بينها: هل سأواصل القراءة؟ هل سأقفز على بعض الفقرات والصفحات؟ ما هي المفاجآت التي ستحملها إليّ الرواية؟ أطرح هذه الأسئلة وأنا على علم أن كاتب الرواية حين يكتب روايته فإنه يطلِّق الصغيرة والكبيرة وينشغل بهموم الوقت والناس وتأملاته الشخصية، ينتقل بين الأزمنة والأمكنة والتواريخ والفضاءات وقضايا لا حصر لها يجد نفسه في مواجهتها مثل الموت والحب والكراهية؛ فتكون تأملات الروائي أدبية وفلسفية، ويصبح الأديب فيلسوفا يعرف كيف ينتقل من التراجيديا إلى الكوميديا ليتمكن من بناء عالم يمكنه من الاستمرار في مواجهة الحياة واستعادة القصيّ منها من غير استسلام، لأن الحياة هي الأقوى، وما الرواية إلا إعادة بناء لها؛ الرواية مهما بلغت من الدقة في التصوير والوصف فهي مجرد نسخة من الواقع، وأحيانا منقحة قليلا. ثم إني أتساءل أيضا حين نقرأ الرواية: هل علينا أن نهتم بالقضايا الكبيرة أم بالتفاصيل الصغيرة؟ أنا من هواة التفاصيل، لا أعتبرها زائدة ومؤثثة فقط لعوالم الحكايات، كان ذلك منذ قرأت ذات يوم هذه العبارة لميلان كونديرا يقول فيها (ما معناه): الشيء الجوهري في الرواية هو ما لا يمكن قوله إلا في الرواية. فهل لي أن أزعم أنّ: الحياة الحقيقية رواية، والرواية حياة حقيقية. خط قادر على التنبؤ بالغيب ليس هذا التمهيد أساسيا، قد يكون كذلك لمن يودّ أن ينشغل بين الحين والآخر بالتأمل النظري حول الأدب والكتابة والإبداع الفني عموما. استعملت، منذ قليل، عبارة التراجيديا والكوميديا وكان عليّ أن أستعمل الكوميدي والتراجيدي؛ فهما أليق بالقصد. في النّسْبة لعبٌ ولهوٌ، وفسيفساء تجعل من القول الروائي حقا وما سواه كذبا، وهذا ما تعبر عنه أحداث رواية (خط الزناتي) لشعيب حليفي بكل تفاصيلها، رغم أنها تدور في يوم واحد، من أيام الحصاد من الليل إلى النهار عبر الفجر، بطلها موسى الزناتي الذي لا يشغله شيء في حياته المتقلبة بعدما أصبح موظفا بقسم المخطوطات بالمكتبة الوطنية، واختار برغبته أن يتبع طريق جده الشيخ عبد الله الزناتي وقد لمع نجمه بين شيوخ مغرب أواخر القرن الثاني عشر الميلادي والنصف الأول من القرن الثالث عشر، فقيه جاء بشيء جديد لم يكن مطروقا لَمّا شاع بين الناس أنه يراود الغيوب يفتش في ثناياها الحارقة، فأضحى صاحب كتاب الرمل المعروف ب"كتاب الفصل في أصول علم الرمل"، يكتب أرقاما وحروفا يقرأ بها المصائر حتى صار علم الرّمل هذا معروفا بالخط الزناتي القادر على التنبؤ بالغيب. هكذا، اقتنع موسى الزناتي بأن هناك قرابة بينه وبين جدّه البعيد، وقد ترك له بركة خفية تحقق له قدرا من الاطمئنان وصفاء الروح فيما يفعله ليقتنع به الآخرون. يبدو موسى الزناتي في علاقته بذاته وأصحابه وبقية الكائنات ممتلكا لفيض عاطفي يجذبه إلى الأرض. لذلك، لا يتردد في القول: أنا موسى الزناتي... ذرة من تراب هذا المكان (ص22)؛ توثقت حياته بحياة الناس وخوفهم ورغباتهم، وبما يؤثثها من حقائق تراود شغاف الغيب، فتتداخل سيرته بسيرة جده، لتنبع من شقوق الزمن رغبته في تسجيل ما يجري وهو يعرف أن يوما واحدا لا يكفي لذلك، فيحكي نتفا من حياة البسطاء ومن الوقائع المتقطعة، ويترك لعيسى السمايري الذي يكبره باثنتيْ عشرة سنة أن يغامر أيضا بضرب الرمل ورفع الحجاب عن رغبة والد موسى الزناتي في أن يتابع ابنه دراسته بالمدارس العتيقة قبل أن يرسله لاستكمالها بسوس لدى بعض أصدقائه، وحين عاد من سوس وعمره تسعة عشر عاما تصله رسالة من المكتبة الوطنية بالرباط تخبره بقبول طلبه للاشتغال موظفا بقسم المخطوطات المغربية (ص 44). هكذا تتناسل الأحاديث في الرواية بنبرة تستعير من خلالها كل شخصية لسان غيرها، وحتى حين تخاطب نفسها فإنما تخاطب بقاياها الضائعة؛ يتساءل الزناتي سؤالا محيرا: هل يمكن للزمن أن يتخلى عنا وعن خطيته ويصبح نقطة دائرية تُرى كلها في اللحظة ذاتها؟ (ص 51). لحظات مُقيَّدة في الغيب بهذا المعنى تغدو رواية (خط الزناتي) رواية اختلاط الأزمنة في أرض الخوف، ورواية انتظار غامض لقدر تحياه كائنات على هامش الزمن. من خيالات طفل يرويها من دون حجاب إلى تنبؤات عارف بالأسرار منشغل بصفاء الروح وهي تهفو للعودة إلى الحياة، تتوزع حكمة موسى الزناتي التي امتلكها حين عاد إلى خلوته وقلب كل المشاهد التي تحيا معه ليبقى سؤاله محيرا: ما قيمة التذكر إذا كان مجرد ذكرى مقطوعة عن الزمن الذي نحياه، وما جدواه إذا لم يفسر ما يجري أو يصون اللحظة الراهنة من ألاعيب النسيان؟ (ص58). ولذلك، قضى أربع سنوات في القراءة والتدوين والنبش في الكتاب الوحيد الذي تركه الشيخ الزناتي، إلى أن قرر أن يجرب ذلك على أصدقائه ويقرأ طالعهم. وهكذا، أدخله الغيب في لعبته ليصبح شيخا في الرابعة والعشرين من عمره يضرب الخط لرجال أكابر في كل المناصب ليتخلى عن عمله بالمكتبة الوطنية ويعانق الغيب المتربص والخوف الدفين في نفوس كائنات هشة تسحقها هموم الوقت وتفاهاته. "الغيب يسبق الماضي بلحظة، والزمن وقوده المجهول من الآتي (ص78)"، بهذا اتخذ موسى الزناتي من الغيب مهنة له وتعلّم منها التقية والإخفاء وعدم الكلام. لذلك، ينوب عنه موسى السْمَايْري في الحديث وينقل لنا كيف انتقل بعد وفاة والده بسكتة قلبية إلى العيش بضيعته مع والدته، وتزوج بعد سنة من ابنة خالته، يدير منها أملاكه ومواعيده بالرباط، إلى أن اكتشف أنه عقيم ولا يمكنه أن يخلف من صلبه، اقتنع بمشيئة الله، أدرك أن مصارعة القدر لعنة لا ينقطع أذاها، فاختار العيش في المساحة الهادئة، كما تغيرت نظرته إلى الحيوانات فكان يعاملها كأنها من صلبه أو من سلالته الباقية. من هذه اللحظة ومن لحظات مقيدة في الغيب يتقاطع في هذه الرواية الإنساني والحيواني، الليلي مع النهاري، والأرضي مع السماوي، ولأنّ "عقلنا لا يستقيم في التعرف على الشيء إلا بنقيضه" (ص115) تتخلى الحكاية عن مركزية إنسانية سردية لتفسح المجال لسردية حيوانية تتأمل وتتكلم وتعلن انتسابها لأسرار حياة مشتركة مع كل كائنات الرواية، تتقاسم معها الحلو والمرّ، الغناء والرقص، الأكل والنوم، الفرح والحزن. خمسة عشر كلبا هي من كائنات رواية (خطّ الزناتي) تتزعمهم سوسو أنثى من الكلاب المحلية يعتقد الراعي ميمون ولد الزاهية أن أصلها آدمي لكنها مسخت لسبب مجهول، بينما هي تخمّن أنه مجحوم من الكلاب المحلية قبل أن يمسخ إنسانا؛ والكلب الكرطيط مقطوع الذيل بقوة عضلاته وزعامته على الآخرين في حروبه الكثيرة، وكلاب أخرى بلغ عددها حوالي خمسة عشر كلبا ذكرا تجتمع وتتفرق وتتسابق تلفها معاناة الوقت وخرافات الحقول وتجاويف الرغبات، وهي بذلك تحيا على حافة لحظات فاصلة بين الشيء ونقيضه، تكشف بدورها عن بعض أسرار الحياة في توحدها مع المكان والإنسان. في لحظة من لحظات الرواية، لم يرغب الفقيه الحمادي أن يرى الراعي مكتئبا، فدعاه إليه وقال له بصوت الأب: نحن هنا نبسط ونلوي عنق الزمن، فلا تكن متقلبا يا صاحب سوسو. شرع الراعي يبكي، ولما أراد الحديث غالبه الشوق فقال: والله إن سوسو أخلص منكم جميعا... وهي التي تشدني إلى هذه الحياة (ص132). يكون المرور من الحيواني إلى الإنساني ومن الإنساني إلى الحيواني مقترنا بهيمنة شعور بالضيق واختلاط للمشاعر ورغبة متوترة نحو ملامسة أهداب الغيب. لذلك، تجد كائنات الرواية وحيواناتها الكلمات المناسبة للتعبير عما يخالجها من أحاسيس تمكنها من التماهي مع أوهامها، ومع مرئياتها ومروياتها. وهذا أيضا حال خمسة عشر كلبًا منحها الروائي الكندي أندريه ألكسيس دور البطولة في رواية نشرها سنة 2015؛ وتحكي قصة طريفة لخمسة عشر كلبا داخل عيادة بيطرية، بحيث تنفتح مدارات الحكاية على إمكانية الكلاب امتلاك قدرة الكلام والفهم والعقل وبالتالي تغيير حياتها من أجل تمثل قيم المجتمع البشري. تخبرنا أحداث الرواية أن الخمسة عشر كلبا وقد امتلكوا قدرة الكلام صار منهم كلب قائد وآخر مجنون أتقن اللغة الإنجليزية إتقانا جيدا، وهناك من بينهم من تمكن من تطوير ملكته اللغوية ليصبح شاعرا... قبل أن أختم هذه الفقرة من حديثي تأملوا معي هذا الحضور اللافت للحيوانِ في الرّواية المغربية منذ عناوينها، وما أدراك بمحتواها... أقبلْ عليها قارئي اللبيب ففيها من العجب ما يسرّ الناظر والخاطر؛ أذكر منها: "الثّعلب الذي يظهر ويختفي" لمحمد زفزاف، ولمحمد الهرّادي، "أحلام بقرة"، و"ديك الشمال"، "معزوفة الأرنب"، فضلا عن مجموعة قصصيّة بعنوان "ذيل القطّ"؛ كما ليوسف فاضل "الخنازير" ، و"قصة حديقة الحيوان" ، و"قطّ أبيض جميل يسير معي" ، و"طائر أزرق نادر يحلّق معي" ، و"حياة الفراشات"، فضلا عن نصّ مسرحيّ بعنوان "جرّب حظك مع سمك القرش"؛ وهل لي أن أضيف "ممرّ الصفصاف" لأحمد المديني، التي بدأت حكايتها بنظرة من كلب لتتوالى الأحداث والمصائر إلى ما يعلم به السميع العليم، أضيف إلى القائمة رواية حسن أوريد "سيرة حمار"، ورواية "من خشب وطين" لمحمد الأشعري، ورواية "عين الفرس" للميلودي شغموم، و"حصان نيتشه" لعبد الفتاح كيليطو. يعتبر هذا البعد الأليغوري لرمزية الخمسة عشر كلبا في رواية (خط الزناتي) لحظة تتوازن فيها هشاشة الكينونة بهشاشة الروح. كما يحضر هذا البعد باعتباره لحظة وجودية لالتقاط الوضع المفارق للهزلي والتراجيدي وما بينهما من رغبات وأحلام تمكنها من ترميم انكسارات النفس لتظل "الحكاية هي الإنسان في بعد آخر، رمز للحياة واستمراريتها، وممر للانعتاق من الجواب الواحد والمباشر (ص77). حين انتهيتُ من قراءة رواية شعيب حليفي (خط الزناتي) استحضرت عبارة جان ستاروبينسكي: الكتابة هي تحويل استحالة العيش إلى إمكانية القول، فوجدتها خير ما أنهي به هذا الحديث.