حينما رأت الحركة الإسلامية أن الفساد دب إلى كل نفس، وكل بيت، وكل هيأة، وكل مؤسسة، عزمتْ على أن تحمل مشعل التغير ممسكة كتاب الله بيد، وسنة نبيه باليد الأخرى، واضعة عينا على الشرع وعينا على الواقع، فتنظر إلى المجتمع فتشخصه وتحلله وتستوعبه، وتنظر إلى الشرع فتدرس نصوصه وضوابطه ومقاصده وأصوله، من أجل أن تستنبط الفتاوى والأحكام المناسبة للوضع القائم، ومن أجل أن ترسم معالم الطريق. "" حينما عز المصلحون الغيورون، وحينما غاب دور العلماء أو غُيبوا عن الإرشاد والتربية والتعليم، وحينما سهل انقياد الناس إلى الفساد وحب الدنيا وكراهية الموت، وحينما عسر دفع مغريات المجتمع وعسر التصدي لمن يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، صار لزاما على من رأوا في الإسلام دينا أكثر من مجرد عبادات وشعائر، أن يتجندوا في مؤسسات دعوية، وأن تقدم هذه المؤسسات النموذج قبل أن تطالب به الغير. لكن من العبث، بعد الذي حل بالحركة الإسلامية، أن ننتظر منها إصلاحا ذا قيمة، أو أن نتوقع منها منفعة ذا قدر للإسلام والمسلمين، اللهم مصالح جزئية ومحدودة، لا تفي بالغرض، ولا تطمئن نفسا ولا تريح بالا ولا تثلج صدرا، لأنها أقل بكثير مما هو موجود في أدبياتها وأهدافها، وأقل بكثير مقارنة مع الجهد المبذول والآمال المعلقة. لقد جاءت الحركة الإسلامية لتحارب حب السلطة في النفوس، وصار أبناؤها ممن يهوون المسؤوليات ويعشقون مراكز القرار، ويتلونون بألوان الكرسي الذي يودون الجلوس عليه، وجاءت من أجل محاربة ظواهر الفساد، ودب إليها وإلى أبنائها رويدا رويدا، حتى أنك لا تجد خصلة أو انحرافا في المجتمع، مهما كان عظيما أو تافها، إلا ولها منه نصيب. لقد أثقلنا كاهل المجتمع بمؤسسة جديدة فيها ما فيها من الفساد الفكري والثقافي والأخلاقي، فأضفنا بذلك هيأة تتطلب بدورها إلى من يقوم اعوجاجها ويصلح أغلاطها، ومن ثم وجب التفكير في خلق حركة إسلامية مصغرة داخل الحركة الإسلامية الأم لترجعها إلى سكة الإصلاح من جديد، ومن يدري لعلنا نحتاج إلى حركة أخرى لإصلاح الحركة المصغرة في يوم من الأيام. هل فساد الحركة الإسلامية قدر مقدر، ونتيجة طبيعية وحتمية لكل تنظيم إسلامي وسط هذا المجتمع المليئ بالإغراءات والشهوات المادية والفكرية؟ أم أنه عقاب من الله تعالى لمن يدعون الإصلاح والتقوى وهم أبعد الناس عنهما؟ إذا كان فساد الحركة الإسلامية حتميا وجب تفكيكها وإزالتها لنريح المجتمع من شرها ووبالها، يكفي ما لدينا من شرور، وكما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشدد مضاضة *** على النفس من وقع السيف المهند. أما إذا كان فسادها نابعا من انحراف مناهجها أو أتباعها، فوجب مراجعة المناهج والتصورات والآليات والأتباع. أرى، والله أعلم، أن بداية الطريق أن نقر بهذه الانحرافات ونعترف بهذه الزلات على الملأ، وسنجد حتما آذانا صاغية وقلوبا واعية وعقولا منيرة من العلماء والوعاظ المخلصين والمفكرين المتجردين، ليضعوا أيديهم في أيدينا لنبني صرح الإسلام لبنة لبنة، فلا عيب في أن نخطأ ونضل الطريق، العيب أن ندعي بأننا على هدى من الله وبينة من رسوله، وأن نعاند ونستمر في الغي والضلال. ما لم نقم بهذه الخطوة الجريئة التي تحتاج إلى كميات هائلة من الإيمان والإخلاص، وقدر معتبر من الحكمة والدهاء، سنظل نخبط خبط عشواء، حتى يذهب بنا الله ويأتي بقوم يحبهم ويحبونه. إن "الإسلاميين" عادة ما يقعوا في مصائب عظيمة، وزلات خطيرة، لكنهم لا يلقون لها بالا ولا يعيرونها اهتماما، لأن القرآن والسنة النبوية لم تتحدث عنها بالاسم، ولم يتم تدارسها في الجلسات "التربوية"، على سبيل المثال لا الحصر، قرار الفصل الذي خرج به مجلس الشورى، إن التلكأ في تطبيقه من لدن المكتب التنفيذي حتى تُنوسي وألقي في سلة المهملات، يعتير من أكبر الكبائر، لكن المتلكئين لا علم لهم بذلك. إن المكتب التنفيذي لا يعرف من الكبائر إلا الشرك والزنا والسحر وعقوق الوالدين وشهادة الزور والتولي يوم الزحف، أما التلكأ في تنفيذ القرارات فليس فيه نص صريح، وأعضاء المكتب التنفيدي "وقافون" عند كتاب الله وسنة رسوله. إن قرار مجلس الشورى ملزم لأعضاء المكتب التنفيذي، وإن عدم انضباط هؤلاء الأعضاء في تنفيذه مخالفة صريحة لقوانين الحركة، وهذا يعني أن هؤلاء الأعضاء قد خانوا الحركة، و خانوا العهود والمواثيق التي تجمعهم بها. إن خيانة الحركة الإسلامية أكبر من خيانة الأشخاص، والخيانة الجماعية أعظم وأفظع، والخيانة التي يكون سببها عرض من الدنيا قليل أكبر من كل الخيانات. إن هذه الآفة لم يقع فيها مكتب محلي من مكاتب الحركة، أو مكتب إقليمي أو جهوي، لقد وقعت فيها أعلى هيأة في حركة التوحيد والإصلاح. إن أخطر ما أنتجته الهيآت الدعوية هم "طواغيت" الحركة الإسلامية، الخارجون عن القانون، الذين يسطرون القوانين وفق أهوائهم وما تشتهي الأنفس، ويتنصلون منها حينما لم تعد صالحة لإرضاء المزيد من جشعهم وطمعهم ورغباتهم وأحلامهم. لماذا ينتفض أعضاء التوحيد والإصلاح، ويبدون غضبهم وسخطهم على الدولة حينما لا تحترم القانون؟ كان الأولى بهم أن ينتفضوا في حركتهم الدعوية، وأن يغضبوا من قيادييهم ومسؤوليهم، أو على الأقل أن يطلبوا تفسيرات وتوضيحات لما يقع. لم يعد بإمكان الحركة الإسلامية أن تنكر شيئا على الدولة، كل ما يمكنها أن تنكره عليها موجود في هيآتها أو أتباعها. دخل يوما عزة علي بيكوفيتش متأخرا إلى المسجد وجلس في الصفوف الأخيرة، فقال له بعض المصلين بأن يتقدم، فالتفت إليهم قائلا: "هكذا تصنعون طواغيتكم". هكذا أيضا صنعت الحركة الإسلامية طواغيتها، الذين يَسألون ولا يُسألون، ويُنكرون ولا يُنكر عليهم أحد. لقد سُطر القانون ليُطبق على ضعفاء الحركة الإسلامية، أما "طواغيتها" فمن ذا يجرؤ على محاسبتهم أو الاقتصاص منهم. كثيرة هي الأخطاء التي يقع فيها قياديو الحركة في حق الدعوة، قبل أن يكون خطأ في حق الحركة نفسها، ولكن ولا مرة واحدة صدر بيان تتبرأ فيه الحركة أو الحزب من فعل أحد قيادييها، فقد قام الأمين العام الحالي قبل أن يتنصب هذا المنصب بسلوك مشين داخل قبة البرلمان وهو يصرخ في وجه صِحافية متبرجة، ولا أحد أنكر عليه ذلك أو حاسبه على فعلته تلك. إننا لا نوافق العري والسفور والتبرج، ولا نقبله لا في المجتمع ولا في مؤسسات الدولة، لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ضوابطه وقواعده، وكذا لا يجوز النهي عن المنكر إذا كان يُفضي إلى منكر أشد منه. إن هذا "النهي عن المنكر" الذي قام به "داعيتنا"، قد جر على الإسلام والمسلمين حروبا كان في غنى عنها، وأعطى صورة مختلة عن الإسلام وعن تسامحه وحكمته ورحمته في الدعوة والتبليغ، وأظهره على أنه دين عنف وصراخ وغضب، ولقد جنينا من ويلات تلك اللحظات العابرة المؤثرة، ما لا يصفه لسان أو يتصوره عقل. بل أصبحت الصحافية تأتي قبة البرلمان بزينة وعري أشد مما كانت تأتي بهما سابقا، وصارت كاميرات التصوير داخل البرلمان تركز على جسدها الفاتن أكثر مما كانت تفعل سابقا، وفي نفس الوقت تركز على أخينا "الداعية"، لكنه بدا هذه المرة متسامحا ولينا ومبتسما بين الحين والحين. ألم يكن حريا "بداعيتنا" أن يفكر ألف عام قبل أن يُقدم على فعلته الارتجالية وغير المحسوبة تلك؟ وأكثر من ذلك، حينما سأله الصحافي في وسائل الإعلام عن الحجاب، فأجاب بأنه لن يفرضه على الناس، وبأنه يقف في وجه كل شخص يفرض الحجاب على ابنته. فإما أن يكون الشخص الذي صرخ في قمة البرلمان ليس أميننا العام، أو أن الشخص الذي استضافته القناة المغربية ليس الأمين العام، أما أن يكون نفس الشخص في الواقعتين معا، فهذا ما لا قدرة لي على فهمه، ولا قدرة لدي لتفسيره أو استيعابه. إذا كان الأب لا يملك حق فرض الحجاب على ابنته، فهذا يعني أن لا حق له في أن يفرض عليها حتى لباسا محافظا أو محتشما، ومن ثم فإنها تستطيع أن تصل كل المستويات في العري الفاضح والتبرج الخليع، وهذا قمة في الغرابة. إذا كان الأب لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في بيته، ومع أبنائه الذين يعُولهم، فماذا ينتظر هذا "الداعية الكبير" من الحركات الإسلامية ومن الحزب "الإسلامي"؟ إن جلسات البرلمان يتتبعها مئات الآلاف من المواطنين، ليتمتعوا بمشهد البرلمانيين النائمين في قبة البرلمان، ومن ثم فهي فرصة لا تعوض للصراخ في وجه المتبرجات، بما يوحي للناس بغيرة هذا "الداعية" الذي لا "يخشى" في الله لومة لائم. إن الطريقة الفضة التي تعامل بها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ليس لها مسوغ شرعي، وليس لها تفسير أصولي أو مقاصدي، لكنها حتما ستزيد من شعبية الحزب "الإسلامي"، وستزيد من شعبية "الداعية". حينما يصير "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ورقة سياسية يتلاعب بها السياسيون، يصير واضحا أن السياسة تلبس عباءة الدين متى شاءت، وتنزعها متى تشاء. لا لوم على السياسيين فيما يخططون ويدبرون، اللوم كله على الدعاة الذين يسايرونهم ويسكتون عليهم أحيانا، ويداهنوهم ويتملقون إليهم أحيانا أخرى. "لطواغيت" الحركة الإسلامية الحق في تجاوز القانون، لأنهم من سطره ورسم خطوطه وأشكاله، وليس لأحد الحق في معاتبتهم أو انتقادهم أو محاسبتهم، لأنه سيفصل طبقا للقوانين الجاري بها العمل داخل الحركة. حينما سيُطرد "طواغيت الحركة الإسلامية" منها، سنكون أمام حركة إسلامية، يشرفنا الإنتماء إليها والإنتساب لها، أما و نحن نجامل من يجاهر الله بالمعاصي لأنه قيادي كبير، فلا خير فينا ولا خير في حركتنا. *مقال مقطتف من كتاب الجالية اليسارية المقيمة بحزب العدالة والتنمية، للكاتب الإقليمي السابق لحزب العدالة والتنمية نور الدين زاوش. – وجدة- [email protected]