حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    المغرب التطواني يفوز على مضيفه اتحاد طنجة (2-1)    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    الإمارات: المنتخب المغربي يفوز بكأسي البطولة العربية ال43 للغولف بعجمان    الوزير بنسعيد يترأس بتطوان لقاء تواصليا مع منتخبي الأصالة والمعاصرة    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    الجزائر تعتقل كاتبا إثر تصريحاته التي اتهم فيها الاستعمار الفرنسي باقتطاع أراض مغربية لصالح الجزائر    مكتب "بنخضرة" يتوقع إنشاء السلطة العليا لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب في سنة 2025    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    استغلال النفوذ يجر شرطيا إلى التحقيق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذا ما علمني "برنار العظيم" بشأن مفاتيح العربية.. لغة أثيرية وسمفونية
نشر في هسبريس يوم 20 - 02 - 2024

Il était une fois un... Bernard ! أو ماذا تعلّمتُ من برنار الذي علّمته العربية؟
– Allo
– Oui
– Vous êtes Monsieur Kobeissi ?
– Oui , à qui ai-je l'honneur ?
أُدْعى برنار... وإنّه لَيُسعدني وَيُشرفني أن أتحدث إليك بالهاتف. قرأتُ إعلانك في جريدة "ليبراسيون" بخصوص تعليم العربية، وإني لراغب جداً في تعميق دراستي هذه اللغة، فهل لنا أن نتحدث في الأمر غداً؟.
خِلتُ أوّل الأمر أنّ محدّثي صديق عربي، لبناني على الأرجح، أراد أن يمازحني بعدما قرأ الإعلان المذكور، لكني لم أتميّز لهجة المزاح في حديثه الجادّ بلطف وأدب، فزال شكّي وأجبته:
يا حبّذا.. أين تريد أن نلتقي؟.
– في مقهى مونبارناس إن شئت، عند الساعة الثانية بعد الظهر، أموافق أنت؟.
– بالتأكيد، وبكل فرح وسرور. ولكن كيف لي أن أهتدي إليكَ في المقهى؟.
تعرفني من حقيبتي الجلدية السوداء التي سأضعها على الطاولة حيث أجلس.
-إلى اللقاء غدا إذن.
-إلى اللقاء.
جرى هذا الحوار ظهيرة يوم في خريف 1976، وكنت آنذاك أسكن البيت الإيطالي في المدينة الجامعية بباريس، بعدما هجرت بيروت "مؤقتا" ريثما تهدأ نار حربها التي اشتعلت وكادت ألاّ تنطفئ... ويُقال إن نارها مازالت تحت الرماد (والله أعلم)، وعملت في تعليم العربية بدروس خصوصية، وكان معظم "طلَبَتي" فرنسيين مبتدئين، أو مغاربة متدرّجين، إلى أن دخل برنار "على الخط" فكان أكثرهم تقدماً وتفوقاً حتى على... معلمه!.
أذكر من برنار اسمه الأول هذا، أما اسم عائلته فقد ضاع من ذاكرتي، ثم ضاع مني إلى الأبد مع الكثير من أوراقي التي أحرقتها إسرائيل عندما أحرقت قذائفها منطقة "خلدة"، مدخل بيروت الجنوبي، حيث كنت أقطن، وهي تجتاح لبنان وتحاصر عاصمته صيف 1982.
وأذكر من برنار أيضاً تلك الحماسة التي تجتاحه وهو يتكلم العربية...
التقيته في الموعد المحدد وتعارفنا فعرفت أنه يعمل في حقل الطبّ، وأنه مولع بالأدب شأن العديد من الأطباء الشعراء ورجال العلم الأدباء بعامة، وأنه شغوف بالأدبين الفرنسي والعربي بخاصة. دخلنا في صلب الموضوع لنعرف كيف سأعلّمه العربية وهو على ما هو عليه من إتقان لها كما يتّضح من الحوار أعلاه. ومن غير أن يُظهِر عزمَه على اختبار قدرتي على تعليمه ومقدار تمكّني من العربية أدركتُ نيَّته هذه من الحديث الذي دار بيننا، عندما فتح حقيبته الجلدية السوداء الضخمة وأخرج منها كتاباً، ما إن لمحت غلافه الجلدي العتيق البنيّ اللون حتى أشرق وجهي دهشة وفرحاً؛ فمن اللمحة الأولى عاد إلى ذاكرتي كتاب عزيز كان قد غاب عنها زمناً طويلا بعدما قضيت بصحبته قرابة أربع سنوات من طفولتي على مقاعد الدراسة وتعلمت فيه العربية على يد أستاذي الجليل المرحوم بشارة القرداحي، أواسط الخمسينيات في المرحلة الابتدائية في مدرسة مرجعيون الرسمية في جنوب لبنان. هتف قلبي شوقا لرؤية هذا الكتاب "المشوِّق في القراءة"، سلسلة الكتب التعليمية التي كانت تصدرها الآباء اليسوعيون (المطبعة البولسية حريصا). وقبل أن أسمع سؤال برنار عمّا إذا كنت أعرف هذا الكتاب، سبق جوابي السؤال، إذ لم أتمالك نفسي عن القول: عرفته طبعاً، وهل يخفى "المشوّق في القراءة العربية"؟.
استأنس برنار لفرحي مضيفاً إليه فرحه هو أيضا حين عرف أني عرفت الكتاب، ودار بيننا حديث عجيب غريب: طلب مني برنار أن أفتح الكتاب على صفحة حدّد رقمها ففتحته، فإذا بنص عنوانه: "الأعرابي وابنه"، ثم طلب مني أن أقرأ بصوت عالٍ الفقرة التالية: "كان الأعرابي يتّكل في عَدّ أيام صومه على جرَّةٍ له؛ فقد كان يضع فيها حصاةً عن كل يوم يصومه...".
هنا، طلب مني برنار أن أتوقف عن القراءة ليسألني ماذا تُفيد عبارة "جرّة له": هل تفيد بأن الأعرابي لديه جرَّة أخرى، أم لم يكن لديه سواها؟ لم أُعِر السؤال أهمية وخلته سؤالاً سطحياً، فأجبت بلامبالاة: "أظن أنه كان لدى الأعرابي جرة أخرى"، فاعترض برنار على الفور، وبحماسة شديدة قائلاً: "كلّا، لو كانت لديه جرة أخرى لوجب القول: "في إحدى جراره"، أليس كذلك؟". أثار جوابه اهتمامي وصرت بين الشك واليقين، لكني بقيت على لامبالاتي، وأجبته: "إذن، ربما كان لا يوجد عنده غيرها"، فسارع معترضاً أيضاً، وبالحماسة نفسها، قائلاً: "لا، لو لم تكن عند الرجل جرة أخرى لوَجَب القول: "في جرّته"، أليس كذلك؟". أدهشني هذا الردّ السريع، فقلت لبرنار، بحزم هذه المرة: "في الواقع إن عبارة "في جرّة له" لا تسمح لنا وحدها بمعرفة ما إن كان لدى الأعرابي جرّة أخرى أم لا، وعلينا أن نتقصّى وقائع النص الأخرى لمعرفة ذلك...
شعرتُ بأن برنار لم يقتنع بما قلت، لكنه أجابني: "حسناً، فلنتابع قراءة النص". تابعت القراءة فاستوقفني من جديد عند الجملة التالية: " فقال الأعرابي لولده امكث هنا يا بنيّ، إنّي راجع عمّا قليل.."، وسألني: ما هي "عمّا قليل" هذه؟ هدأت أعصابي، عند طرحه السؤال، بعدما كان التوتّر قد أخذ في التزايد، وقلت في نفسي هذا سؤال سأجول الآن في الإجابة عنه وأصول، وسأُري برنار، هذا الفرنسي المستعرب، كيف يكون العربي العارب، فأجبته بتمهّل، وشرحت له باعتزاز، كيف أن في العربية شيئاً يُدعى الإدغام ويعني دمج حرفين متقاربين في المخرج اللفظي، في حرف واحد هو أقواهما، مع تشديد هذا الحرف، وأنّ الإدغام الأكثر وضوحاً هو ذلك الذي يحدث حين يلتقي حرفا النون والميم، الأول في آخر الكلمة والثاني في أول الكلمة التي تليها، وأن كلمة عمّا التي يسأل عنها هي حاصل إدغام النون والميم في كلمتي "عن" و"ما"... لم أكد أفرغ من هذا الشرح الطويل حتى بادرني برنار بردّ بارد كان جاهزاً لديه، قائلاً: "أعرف ذلك، ولكن كيف نفسر وجود حرف الجر "عن" بعد فعل الرجوع، هل يُقال: رجع عن ما؟".
مرة أخرى، اعترتني الدهشة، وفوجئتُ بردّ برنار المباغت. شعرت بأني بحاجة إلى العون والمدد، فتمنيت لو يمدَّ لي لسانُ العرب، عن بُعدٍ، يدَ المساعدة، أو لو كان بجانبي كتاب "قواعد العربية" للشرتوني أو الغلاييني لأفتحه على الفور وأستعين بجواب منه على مفاجآت برنار التي لم أكن لأحسب لها حساباً... لكني لم أجد بداً من إرجاء الرد عليه، فقلت له: سأراجع معلوماتي في هذا الشأن، وسأفيدك لاحقاً بالخبر اليقين.
استحسن برنار جوابي فبادر بالسؤال عن التعريفة التي أتقاضاها لقاء الدروس العربية، فأجبته: "في واقع الأمر، أنا أتقاضى خمسة وعشرين فرنكاً للساعة الواحدة في تعليم العربية، لكن أنت بالذات سيكلفني تعليمك جهداً إضافياً ويقتضي مني إعداداً خاصاً، لذا، لا بدّ من زيادة خمسة فرنكات للساعة الواحدة". وكالعادة، اعترض برنار وقال: "كلّا، زيادة خمسة فرنكات فقط غير كافية، علينا إضافة خمسة أخرى". عجباً! حتى في أمر كهذا يستخدم برنار فصاحةً ما بعدها فصاحة، فقد جاء رفضه بليغاً في الموافقة!.
في بيته الرحب الوثير الواسع، كان الحضور العربي بادياً بوضوح تامّ: في صدر البهو مكتبة عامرة بالكتب العربية والأسطوانات وأشرطة "الفيديو" و"الأوديو" الحافلة بكل ما يطيب سمعه من موسيقى وغناء عربيين، من صالح عبد الحي إلى زياد الرحباني، ومن أم كلثوم إلى عبد الحليم حافظ... ومازلت أذكر كيف أنه فور وصولنا شغّل أسطوانة أغنية عبد الحليم "عقبالك يوم ميلادك"، وشرع يغنّي ويتمايل طرباً مع "يا مفرّقين الشموع قلبي نصيبو فين"...
استغرق تعليمي برنار ستة أشهر تقريبا بمعدل مرة في الأسبوع كانت تتوزع بين قراءة نصوص أدبية تراثية شعرية ونثرية، وبعض الشروح في مبنى النص ومعناه، ثم تسجيله على آلة التسجيل بالنطق السليم والأداء الصحيح وبالجدّ والوقار اللذين يستحقهما الإلقاء، لتتسنى له بعد ذلك مراجعة النصوص بأدق تفاصيل القراءة لفظاً وأداءً وإلقاءً...
أعجب ما في برنار هذا ليس تكلّمه العربية الفصحى برشاقة وطلاقة، فلا يتخلّل انسيابَها على لسانه ترددٌ، ولا يعوقها بحثٌ عن لفظ أو استحضار كلمة، بل هو حركة يده المتماوجة لترافق تتابع الألفاظ والكلمات على لسانه، حركة تشبه حركة مايسترو فرقة موسيقية يقود العزف ليوحّد الإيقاع، حركة خفيفة خفية تظهر أو تكاد... لم أنتظر طويلاً لاستجلاء بواعث حركة يده تلك، فسألته لماذا تموج يده على هذا النحو حينما يتكلم؟ أغرقه سؤالي في حالة تُشبه حالة مَن أُمسِكَ متلبّساً بجُرمٍ مشهود، ثم أجابني: يبدو أنك أمسكتَ بطرف السرّ في عشقي للعربية وإمساكي بأحدِ مفاتيح تعلّمها: تماوُج حركة اليد هو دليلي إلى اكتناه هذه اللغة، وسبيلي إلى تجنب الخطأ في الكلام... فهو يساعدني على ضبط إيقاع اللفظ وتواصل الحروف وتوالي الكلمات؛ ففي العربية موسيقى خفية تشبه حركة الموج، وهو إيقاعٌ لا يوجد في الشعر العربي وحده بل في العربية جميعاً، يلتقطه ذو الحس المرهَف: فكما في الخطّ العربي حركة جمالية قائمةٌ على تماوج هندسي موزون، كذلك في اللفظ العربي إيقاع موزون.
وأنا في باريس أُعلّم العربية طالب العربية النجيب، الفرنسي برنار، تعلّمت منه نظرة "برنارية" (أو بعبارة أدقّ "برناردية" كما سيأتي بيانه) إلى العربية، ومعرفةً بها لم تكن لديّ من قبل، وما كان يمكن لي أن ألتفت إليها وأدركها لو لم أكن أصغي إلى برنار هذا معلّماً بأكثر ممّا كان يُصغي إليَّ متعلّماً؛ فهو يرى الأبجدية العربية لا خطّاً يبدأ بحرف العلّة (الألف) وينتهي بحرفَي العلّة (الواو والياء)، ويصطفّ بين حروف العلّة الثلاثة صفُّ الحروف الصحيحة الستة والعشرين، بل يراها دائرةً مقفَلَةً بحرف واحد هو انصهار الحروف الثلاثة في حرف واحد، هو الألف، رأس الأبجدية وزعيمها، حرف العلّة الوحيد، علّة الحروف وسبب وجودها.
علّمني برنار الذي علّمته العربية أن هذه اللغة أثيرية لشدّة شفافيتها، سمفونية لسموّ موسيقاها. كنت أعرف ذلك من قَبْل، لكن معرفتي تلك كانت شعورية حدسيّة أكثر ممّا هي إدراكية. وكان شعوري ذاك شعورَ أي إنسان يعتزّ بلغته لأنها لغته لا لأنها موسيقية أثيرية، بل لأنه يحسبها كذلك ارتباطاً عاطفياً.
يقول برنار إن للعربية منطقاً أخّاذاً ساحراً، ما إن يلمح المتعلّم طرفاً منه حتى يعلقها، ناهيك بانهيار تردّده ومخاوفه التي تنتابُه، قبْلَ الإقدام على تعلّمها، جراءَ العدوى التي تُبثّ بين الأوروبيين الراغبين في تعلّم العربية، لردعهم عن تعلّم العربية، عدوى ينفثها بدرايةٍ أعداءُ العربية (وهُم موجودون فعلاً وإن مستترين، فهم ليسوا أشباحاً افتراضية كما يروّج المتآمرون عليها، ويرمون تهمة التآمر على المدافعين عنها، فيزعمون أن العرب "يفسّرون كل شيء بنظرية المؤامرة"). وهي مخاوف ناشئة عن دعاية يبثّها بالتناوب والتناغم أعداء العربية من عرب وغير عرب، عبر شائعات تقول إن العربية هي لغة صعبة معقّدة لا منطق فيها، ولئن كان فيها مِن منطقٍ فهو منطق بائدٌ، أو كاد أن يبيد، وأن العربية ليست لغة علمية ولا عملية ولا فائدة لها ولا نفع، لغة أثريةٌ تجدر معاملتها معاملة الهيروغليفية والمسمارية واللاتينية ولغاتٍ شتّى انقرضت، أو باتت بحكم الميتة.
لأعداء العربية هؤلاء يقول برنار: ليست العربية لغة أثرية، بل هي لغة أثيرية، حروفها إهليليجية، أو دائريّة لا تقسو في فرض استدارتها بل تُطلق حرية التدوير، أو مثلّثة لا حدّةَ في زواياها، بعضها يقف على رأسه، وبعضها يرتكز على قاعدته، تَزِينُ حروفَها نقاطٌ منثورة، هنا وهناك، فوق الحرف تارةً، وتحته طوراً، متفرّقةً أو مجتمعةً. وحروف العلّة الثلاثة المجتمعة في حرفٍ واحدٍ، الألِف، الحرف المصوّت الأوحد، حرف العلة الوحيد، وعلّتُه صحّته الوافرة، تمنحه القوة والقدرة على الانتصاب وقوفاً، ساهراً على حروف الأبجدية، سهَرَ السقاة على الندامى (كما صوّره ابن المعتزّ: كَأَنَّ السُقاةَ بَينَ النَّدامى أَلِفاتٌ عَلى السُطورِ قِيامُ)؛ قدرةٌ تخوّله التحوّلَ من حال إلى حال، خلافاً للحروف الأخرى الساكنة الملازمة حالاً واحدةً، فهي تخال الألِفَ حرفاً معتلّاً يتحوّل من حال إلى حال، وهي الثابتة على حال واحدة، لا تتحوّل، فتحسب الاستقرار قوة وحلاوة، فالباءُ باءٌ ولا شيء غير الباء، والجيم جيم فحسب، والدال تبقى دالاً، وتلك هي أيضاً حال ض ظ غ، وقبلها ث خ ذ، ثم ق ر ش ت، وسعفص وكلمن وصولاً إلى هزّ وحطّ. والحقّ، إن اجتماع الألف والواو والياء في حرف واحد ليس مصادفةً، بل تلك هي الطبيعة اللغوية، فيها حالات طبيعة المادّة الثلاث اجتمعت للألف كما اجتمعت للماء حالات جمود الجليد وسيولة الأنهار وأثيرية السحاب، فصار الألف علّة الأبجدية وحياتها، كما من الماء كلّ حيٍّ! تنعقد حالات الألف ممدودةً أو مقصورةً، مهموزةً أو منقوطةً ياءً، أو مستديرة الرأس واواً، فتشبه بذلك عقدة سِلكٍ ناظم للأبجدية على شكل عقد دائري تنتظم فيه الحروف الساكنة، وتحمِله وتزينه ربطة الألف متموّجةً في امتداداتها وانحناءاتها، مستحيلةً عبرها واواً تارةً وياءً تارةً أخرى، كأنها ربطة عنق أنيقة، على شكل فراشة، تتدلى منها ميداليةً الأبجدية، وردةُ الحروف، مستديرة متلألئة.
لم أُبالِ، أوّل الأمر، بما كان يقوله برنار.. فجأة، خطر لي خاطرٌ تشبّثتُ به: ماذا لو كان برنار مُحِقًّا في ما يقول؟ وما الذي يَحولُ دون حمله ولو على محمل التصوّر؟ بعدما أدركتُ سرّ الدال الذي يُكتَب بالفرنسية في آخر اسم برنار (برنارد Bernard) لكنه لا يُلفظ. فقد تخيّلتُ أن الدال نُقلَت عمداً إلى ما وراء النار تمويهاً، وأن موقعها الصحيح هو حقل النار. فبرنار هو في الواقع برد نار وإنما أُطّرت النار بالبرد تأطيراً، من قبَلٍ ومن دُبُرٍ، لكي تكون سلاما عليه، فلا تأكل نفسها وتستحيل رمادا؛ فكأنما هي جُمِّدَت تجميداً، كما يجمّد جليد المحيطات قلبَ الأرض الملتهب.
عندما سألت برنار هل تعلّم العروض وأوزان الشعر وقرأ الخليل بن أحمد الفراهيدي وأبا الأسود الدؤلي... وأجابني بأنه مازال في مرحلة دراسة أصول الصّرف والنحو، قلت في سرّي:
حينما يتعلم برنار أوزان الشعر وتفعيلاته سيكون أشعر شعراء العربية، أو لعلّه سيكون، ومن يدري، متنبي العصر... فقد تحوّل كلامُ برنار في ذهني إيحاءاتٍ سرعان ما اتّخذت أبعادا جادّة، واستحالت واقعاً، لا تصوُّراً فحسب: الألِف يُصرِّف الأفعال، ويجمع الأسماء ويثَنِّيها، ويَتخلّل الحروفَ فيضمُّ بعضَها إلى بعض، ويفصل بينها بنظام مدروس! و"البرناردية" نظرةٌ إلى العربية ترى الأبجدية وردةً، ساقُها الألف وأوراقها الحروف؛ وعقداً من لؤلؤ منضود، منظوماً ومختوماً عند ثلاثة منها تذوب في الألف جامعاً في ذاته الواو والياء، على شكل شرّابة سبحةٍ تنتظم فيها حبّات الأبجدية من الباء إلى الهاء قلادةً على صدر الناطقين بالعربية. ماذا يَحول دون أن تكون الأبجدية وردة أو سلسلة مستديرة متصلة غير مقطوعة ولا ممدودة، فيكون ذلك أقرب إلى حقيقة اللغة أصلاً، ويمنحها طبيعة الدوران الأبدي في فلك الوجود؟.
إذّاك، حزمتُ أمري، بلا تردّدٍ مَهَرْتُ دائرة الأبجدية بتوقيعي وذيَّلتُها بتاريخ الحديث الذي جرى بيني وبين برنار في باريس: غرّة أيلول 1976، وعلّقتُها قلادةً في عنقي.
انقطعتُ عن رؤية برنار وانقطعتْ أخباره عنّي منذ عودتي إلى لبنان في فترة "هدوء نسبي" من الحرب اللبنانية لأستأنف عملي في التعليم الرسمي، ثم حدث ما حدث من اجتياحٍ إسرائيلي، وكان ما كان... فإذا كنتَ عزيزي القارئ تعرف شيئاً عن برنار العظيم هذا فيا حبّذا لو تُعْلِمني بطرف من أخباره، أمّا إذا كان برنار نفسُه يقرأ الآن هذه السطور... فليهتفْ لي على الفور، ويُسمِعْني صوتَه الذي مازال يرنّ في أذني بأعلى من رنين الهاتف في ذلك اليوم.
*كاتب لبناني مقيم بباريس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.