بدأت عاصفة التحليلات الإعلامية حول خلافة الشيخ عبد السلام ياسين، المرشد الروحي لجماعة العدل والإحسان، أحد أبرز التنظيمات الإسلامية بالمغرب، ورغم ذلك مازال السؤال يتردد في دوائر الجماعة وبين المراقبين والمهتمين؛ وفي حين تتحفظ بعض قيادات الجماعة عن الحديث في المسألة وأمر خلافة مرشدها مع تواتر أخبار عن مرضه الشديد، ذهبت قراءات متخصصين إلى أن غياب مؤسس الجماعة ومرشدها لن يؤثر على سيرها في الأمد القريب وإن كانت له تأثيرات في المدى البعيد بالتحرر من "كاريزما الشيخ" أو إمكانية تدخل جهات خفية لتفريق شمل الجماعة أو تطوير أدائها لتليين خطابها السياسي مع السلطة المغربية. "" وتكاد تصريحات متخصصين بشئون الحركة الإسلامية بالمغرب تتفق على استبعاد أي انشقاق داخل الجماعة في المدى القريب؛ لأن الشيخ ياسين استطاع أن يبني مؤسسات متينة للجماعة، وإن أكدت على ضرورة استحضار عوامل قد تحصل عند الوفاة. مكانة الشيخ والجماعة منذ نشأة جماعة العدل والإحسان بداية الثمانينيات، ظل الأستاذ عبد السلام ياسين القائد الروحي والسياسي للجماعة، يجمع أطرافها ويسدد خطواتها التربوية والسياسية، فكل الكتابات والسلوكيات لابد أن تأتي بمباركة الشيخ تبعا للمنحى الصوفي للجماعة. وزاد من تعلق الأتباع -رغم مؤاخذات الخصوم- رسائل النصح، التي وجهها المرشد لملك المغرب الحسن الثاني رحمه الله وأهمها رسالته التي عرفت ب"التوبة العمرية"، والثبات على هذا الموقف في عهد خلفه محمد السادس الذي وجه إليه رسالته "إلى من يهمه الأمر" رغم استمرار حصاره والتضييق عليه. غير أن أصواتا من داخل الجماعة ظلت تظهر رغبتها في التميز عن هذا الخطاب المعارض، كانت أولها صرخة "محمد البشري"، في انتقاد بعض المخالفات الشرعية في الممارسة الصوفية لدى الجماعة. بعدها جاءت انتفاضة محتشمة في مواجهة بعض الأصوات التي تريد تقديس كريمة المرشد "ندية ياسين"، كان أبرزها رد الدكتور عبد العالي مجدوب على تصريحاتها التي انتقدت فيها حزب العدالة والتنمية واشتغاله السياسي. وبعد حادثة الرؤية الشهيرة في عام 2006، كان الجماعة في حركة دائبة لاسترجاع "الطيور المهاجرة"، التي لم يعد خطاب الرؤى يوجه نضجها العقلي والنفسي. هذه المؤشرات، إضافة إلى التضييق الأمني والإعلامي، تنبئ عن اختمار أصوات داخل الجماعة، يمنعها وجود الشيخ المادي من التعبير عن آرائها، فضلا عن هيبته التربوية. غير أن أصواتا فضلت عدم ذكر اسمها لا تنفي وجود حركية داخل الجماعة في التعبير عن وجهة نظرها وإن أغضب موقفها بعض قيادات الجماعة بحكم الضمير العلمي، وأكدت أن أمر الخلافة لا يطرح مشكلا لدى الجماعة مادامت تتوفر على مجلس إرشاد واستتباب المنهج، الذي أسسه المرشد. عوامل ثلاثة ويوضح محمد ضريف -أستاذ العلوم السياسية والمتخصص في شئون الجماعة- أنه من السابق لأوانه الحديث عن السيناريوهات المتاحة لخلافة عبد السلام ياسين (مرشد الجماعة) وعلاقتها مع السلطة انفتاحا أو انغلاقا. ويشير ضريف، في تصريح خاص لموقع "إسلاميون.نت"، إلى أن هناك ثلاثة عوامل تتداخل في ما بينها ستحدد مستقبل الجماعة بعد ياسين: - العامل الأول يرتبط بطبيعة التوجهات، التي سيختارها قياديو الجماعة، فأكيد أنهم سيتحررون من كثير من الإكراهات، التي تحول دون التعبير عن مواقفهم. - العامل الثاني، مرتبط بطبيعة الخيارات التي ستنتهجها السلطة المغربية نحو الجماعة، وهنا يطرح التساؤل: هل السلطة مستعدة للتفاوض أو تحديد الحد الأدنى من التوافقات في علاقتها بالجماعة. - والعامل الثالث، متعلق بالنخبة السياسية العلمانية بالمغربية، هل هي مستعدة لتغيير خطابها ومدى استعدادها لتقبل الإسلاميين بشكل عام باعتبارها قوى فاعلة وعادية يجب أن يكون لها مكانها الطبيعي سياسيا. ويؤكد ضريف أن العوامل الثلاثة تتفاعل مع متغيرات دولية، وهنا نستحضر تأثير أحداث 11 سبتمبر 2001 كيف غيرت العديد من المعطيات وحددت طبيعة العلاقة بين الإسلاميين والسلطات، ولا يمكن أن نتحدث عن الخيارات في المطلق. وحول مدى ترويج أخبار بإمكانية حدوث انشقاق داخل الجماعة بسبب تدخل السلطة أو غيرها من الأسباب، قال ضريف: "أعتقد أنه على المدى القريب من المستبعد وقوع انشقاق، لأن الاختفاء الجسد للمرشد قد يقوي من تلاحمها، ودافعا لتماسك الجماعة على المدى القريب، ولا أقول على المدى المتوسط والبعيد، لأن الأمر يتطلب استحضار العوامل الثلاثة، التي ذكرتها". اختيار قيادات أكاديمية وفي اتجاه مساير لرأي ضريف، يستبعد الدكتور بدر الدين الكتاني (شيخ الطريقة الكتانية بالمغرب) حدوث انشقاقات داخل الجماعة بعد غياب مرشدها: "رحيل الشيخ ياسين الخاص بالعدل والإحسان لا يغير من الأمر شيئا مثل غياب أحمد ياسين الزعيم الروحي لحماس، فقد أدى دوره، وإذا مات ياسين فمن المحتمل أن يصعد شخص أكاديمي، فالجماعة لديها أعضاء يشتغلون أساتذة بالجامعة ومنهم من يدرس الفرنسية، بخلاف الشيخ، الذي كان معلما، وانفصل عن المدرسة البودشيشية لكثرة مناداته بالجانب السياسي". ويرى الكتاني أن "الذي زكى عبد السلام ياسين وجعل الناس يلتفون حوله ليس الناحية العلمية، ولكن ناحية الثبات وعدم المساومة وصموده في مواقفه، وحينما وضعته السلطات المغربية قيد الإقامة الجبرية تسببوا له في تكاثر الأتباع". ويضيف: "المستقبل بيد الله، ولا يمكن ترشيح أحد لخلافته، لأنه بعد الوفاة تحصل وقائع، ويمكن أن تدخل السلطات، وهناك عدة فرضيات ولا أتهم أحدا، ومنذ انتقاد محمد البشري لم يظهر شخص له رمزية لخلافته، لكن يبقى أن يترشح لقيادة الجماعة شخص يكون ملما بالناحية العلمية وعارفا بتاريخ الحركة الإسلامية، وألا تنتهج الجماعة طريق العدالة والتنمية في العمل السياسي". تدبير الانتقال ويقدر الدكتور رشيد مقتدر (الباحث في شئون الحركة الإسلامية) أن وجود انشقاقات داخل جماعة العدل والإحسان "هي مسألة غير واردة في المرحلة الحالية، وتبقى مجرد تخمين إذا ما أخذنا بعين الاعتبار القوة التنظيمية للجماعة، والتوحد من المواقف السياسية من النظام رغم أن قابلية هذه الأخيرة للتغير واردة، إذا ما انعقدت مفاوضات بين النظام والجماعة وتقديم تنازلات متبادلة". ويوضح مقتدر أن "قدرة الجماعة على توحيد المواقف وتنظيم الصراعات بطريقة ديمقراطية واعتماد تأويل متفق عليه من طرف مجلس الإرشاد سيكون له دور كبير في تدبير انتقال السلطة إلى من تراه الجماعة أهلا لها في حالة تغيير قائد الجماعة، ومن المؤكد أن السلطة ستسعى لتوظيف أي تيار أو قوى جديدة لا تتفق مع المواقف الرسمية للجماعة بغية إضعافها وحثها على الانقسام كما هو الحال في مسار العديد من الأحزاب السياسية". وحول مستقبل العلاقة السياسية بين الجماعة والسلطة المغربية، يؤكد مقتدر أن علاقة الجماعة بالسلطة "علاقة تشنج وتعارض، فجماعة العدل والإحسان راهنت على الحقل الاجتماعي والثقافي والمدني كمرحلة أولوية مكنتها من الظهور كقوة سياسية ذات امتدادات اجتماعية، وبالتالي فهي تعمل كحركة اجتماعية احتجاجية، تركز في عملها السياسي على كبوات النظام والأخطاء التي تعتري سياساته، وتعمل على نقدها وإبرازها للتدليل على صدقية طروحاتها وما تراه فشلا لسياسة النظام أو الحكومة". في الضفة المقابلة -يتابع مقتدر- تعمل السلطة على تشجيع حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح كقوى إسلامية تقر بالثوابت السياسية وإبرازها كقوى سياسية إصلاحية معتدلة، في محاولة لتهميش جماعة العدل والإحسان والتضييق عليها بغية تليين مواقفها وإعادة النظر في مواقفها وطروحاتها من نظام الحكم. ولا يستبعد مقتدر أن يكون غياب مرشد الجماعة فرصة لبعض الأصوات المكتومة داخل الجماعة للتعبير عن رأيها، وقال: "لاشك أن وجود عبد السلام ياسين داخل الجماعة له دور مهم، فهو قائد كاريزماتي، وهناك إجماع حول شخصه بين كل الأجهزة القيادية للجماعة، فوجود المرشد وقوته داخل الجماعة ربما لا يفسح المجال للقوى الساعية للانفتاح والراغبة في الولوج للعمل السياسي والاستفادة من مزاياه المادية والرمزية، إلا أن انسداد آفاق العمل السياسي الحالي والنتائج المتواضعة التي تحققها حكومة عباس الفاسي لا يشجع هذا التيار على الإعلان عن وجهة نظره". الحل الثالث وبين التخمين السياسي والإعلامي لمرحلة ما بعد ياسين، يبدو أن الجماعة قد رتبت ما يكفي من أوراقها الداخلية لتدبير المرحلة الانتقالية، وإن كان الغياب لا محالة سيدفع إلى مراجعة كثير من التصورات السياسية والتربوية، التي ارتبطت بشخص المرشد وتاريخ الجماعة، مع احتمال أن يكون غيابه فرصة لبعض الأعضاء لاختيار الحل الثالث، الذي يعلمه كثير من قيادات التنظيمات الإسلامية، المتمركزة حول القيادات المؤثرة. (إسلام أونلاين.نت)