رغم البرود الدبلوماسي الذي تعرفه علاقات المغرب بعدد من الدول، على رأسها فرنسا، بسبب مواقفها السياسية بخصوص مجموعة من القضايا والملفات ذات البعد الاستراتيجي والقومي بالنسبة للرباط، ظلت المملكة تعمل جاهدة على تحييد هذه المواقف وعدم خلط الأوراق كلما تعلق الأمر بالمشاكل الكبرى التي تهدد السلم والأمن الإقليميين والدوليين على غرار ملف محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، وملف التعاون والتنسيق الأمني مع هذه الدول من أجل التصدي لهذه الظواهر الإجرامية، وعيا منها بخطر هذه التهديدات على منظومة الأمن العالمي. مناسبة هذا القول هو استقبال عبد اللطيف حموشي، المدير العام للأمن الوطني ولمراقبة التراب الوطني، الثلاثاء، لفيريديريك فو، المدير العام للشرطة الوطنية الفرنسية. إذ أجرى الجانبان محادثات همت مختلف القضايا الأمنية ذات الاهتمام المشترك، على رأسها قضية التهديدات الإرهابية ومخاطر الجرائم المعلوماتية والجرائم العابرة للحدود، حسبما ذكره بلاع للمديرية العامة للأمن الوطني. مباحثات تعكس انخراط المغرب ومؤسساته الأمنية في الدينامية الدولية التي يعرفها ملف محاربة الإرهاب ومواجهة نشاط التنظيمات المسلحة التي تنشط في بقاع من العالم، في إطار تحالفات إقليمية أو دولية وتعزيز التنسيق البيني في هذا الإطار، بعيدا عن أي اعتبارات سياسية، وهو ما جعل المملكة، بفضل مقارباتها الأمنية ذات البعد الاستراتيجي ومنطقها العملياتي التشاركي في التعامل مع التهديدات والمخاطر الأمنية، نموذجا أمنيا فريدا يحظى بثقة كل الدول. وقد أضحى هذا النموذج أداة من أدوات القوة الناعمة المغربية. مدخل لتقوية العلاقات الخبير الاستراتيجي محمد عصام العروسي قال إن "مباحثات المدير العام للأمن الوطني مع مدير الشرطة الفرنسية تأتي استمرارا للعلاقات الفرنسية المغربية على المستوى الأمني، فرغم أن التصدع في العلاقات بين البلدين ألقى بظلاله في الآونة الأخيرة على العلاقات السياسية بين العاصمتين، ظل المجال الأمني مجالا حيويا ونقطة ارتكاز في العلاقات بين البلدين من جهة، وفي علاقات المغرب بالاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، على اعتبار الهواجس الأمنية التي تتقاسمها كل هذه الدول". وأضاف العروسي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة وشبكات الهجرة غير النظامية هي من أهم المواضيع التي تشكل أساسا التعاون الأمني والاستخباراتي المغربي الأوروبي"، مسجلا أن "المجال الأمني والتعاون في هذا الإطار حاضر بقوة في حركية الرباط، وموضوع هام وحاضر بقوة أيضا في مناقشات السياسة الخارجية". وفي هذا الصدد أشار الخبير الاستراتيجي ذاته إلى أن "العلاقات الخارجية بين الدول تتقوى من خلال تقوية الشراكات الأمنية، ذلك أن التعاون على هذا المستوى، سواء من خلال التنسيق المشترك أو تبادل المعلومات والتجارب والخبرات والتداريب، يفتح الباب أمام الدول المعنية للتعاون في مجالات وقطاعات عديدة خاصة، وبالتالي تقوية علاقاتها الدبلوماسية على اعتبار أن المجال الأمني يوفر أرضية خصبة لذلك". التزام مبدئي ونموذج أمني من جهته، قال إحسان الحافيظي، الخبير في السياسات الأمنية، إن "العلاقات الأمنية بين المغرب وفرنسا حافظت دائما على ديناميتها، رغم الأزمات السياسية التي مرت بها العلاقات بين الرباط وباريس، ويمكن أن نستدل على ذلك بكون المصالح الأمنية المغربية نبهت نظيرتها الفرنسية إلى أن هجمات إرهابية ستستهدف كنيسة بمنطقة بيزيير في السابع من أبريل من سنة 2021 في الوقت الذي كانت الخلافات السياسية والدبلوماسية في أسوأ حالاتها". وأضاف الحافيظي أن "المغرب يعتبر أن التعاون الأمني الدولي في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة التزام مبني على ثقة الشريك، وبالتالي فإن تنفيذه هذا الالتزام يرتبط بأرواح أناس أبرياء، ولا يمكن أن يكون ذلك محل مزايدات أو اعتبارات مرتبطة بالخلافات السياسية"، مشيرا إلى أن "التعاون الأمني المغربي الفرنسي كان أيضا حاضرا في منطقة الساحل، إذ ساعدت المعلومات الاستخباراتية التي قدمتها المصالح الأمنية المغربية قوات عملية "برخان" الفرنسية على تحييد مخاطر قيادات بارزة في تنظيم "جبهة نصرة الإسلام والمسلمين" بمالي وآخرين في تنظيم "داعش" بالصحراء الكبرى". وأبرز أن "التعاون الأمني أصبح أداة من أدوات القوة الناعمة المغربية، إذ برزت المؤسسات الأمنية المغربية في السنوات الأخيرة كفاعل مهم في قائمة كبريات المؤسسات الأمنية في العالم، واستطاعت الرباط تسويق نموذجها الأمني الخاص، وجعلته قوة ناعمة ومصدر تأثير بأبعاد سياسية ودبلوماسية دولية تخدم المصالح الحيوية للمملكة". وفي هذا الصدد، لفت الخبير ذاته إلى أن "اختيار المغرب لاحتضان الدورة المقبلة للجمعية العامة للشرطة الدولية (إنتربول) حدث أمني بدلالات دبلوماسية وسياسية قوية. ويؤكد ذلك مرة أخرى أن النجاعة في الأداء الأمني لا تقتصر فقط على الوظائف التقليدية وحفظ النظام العام، وإنما تنعكس أيضا على المكانة التي يخص بها المجتمع الدولي هذه المؤسسة بما يعزز وظائف الدبلوماسية الأمنية ويجعلها قادرة على ترصيد المكاسب التي تحققت وجعلت المغرب عامل استقرار إقليمي ودولي".