المغرب وإعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية والاقتصادية في إفريقيا    السفير الأمريكي الجديد في المغرب.. على خطى جده السفير السابق لواشنطن في الرباط بين عامي 1979 و1981    فوز الجيش وتعادل "الماص" وطنجة    جلالة الملك محمد السادس يبعث برقية تعزية ومواساة إلى أسرة الفنانة الراحلة نعيمة سميح    الدكتورة سارة هند جعفر: 8 مارس يوم للاعتراف بريادة المرأة وفرصة للتذكير بحقوقها المسلوبة    إيران ترفض دعوات أمريكية للتفاوض    الجزائر بين فخاخ العسكر وإغراء واشنطن.. موارد البلاد على طاولة المساومات    البطولة.. الجيش الملكي يرتقي إلى الوصافة عقب انتصاره على نهضة الزمامرة اتحاد طنجة يعود بنقطة من فاس    الأمن الوطني يوقف ستة أشخاص بتهمة التحضير لتهريب دولي للمخدرات    المجلس الجماعي لأكزناية يعقد دورة استثنائية لمناقشة قضايا تنموية هامة    بنهاشم يوضح سبب مغادرة الزمامرة    مسؤول أممي: المغرب أصبح وجهة متميزة للمستثمرين في القطاع السياحي    "حماس" تتفاءل باستمرار الهدنة    توقيف مهربين للشيرا بالناظور    إنذار أحمر: أمواج عاتية تهدد السواحل الأطلسية المغربية    بعد سبع سنوات عجاف.. أمطار الخير تنعش المغرب وتبعث الأمل    مستجدات تُقرب المتابعين في ملف "اغتصاب" المحامية الفرنسية من الحرية    الملك: رحيل سميح "خسارة فنية"    تشييع جنازة الفنانة نعيمة سميح بمقبرة سيدي امحمد ببنسليمان    تخصيص أكثر من 3,27 مليار درهم لرفع الطاقة الاستيعابية لمطار طنجة إلى 7 ملايين مسافر    تأجيل مباراة برشلونة وأوساسونا بعد وفاة طبيب النادي الكاتالوني    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    الجمعيات الكشفية الفرنسية بالمغرب في ظل الاستعمار ونشأة الحركة الكشفية المغربية    سميرة سعيد تنعى رفيقة الطفولة نعيمة سميح بكلمات مؤثرة    توقيع اتفاقية لتنفيذ البرنامج الوطني لتكوين الأطفال في المجال الرقمي والذكاء الاصطناعي    النساء بجهة الشمال يمثلن ما يقرب من ثلث اليد العاملة الدائمة في المؤسسات الربحية    الصويرة.. الأمطار تتسبب في انقلاب حافلة لنقل المسافرين (فيديو)    تسجيل أزيد من 24 ألف إصابة بجدري القردة بإفريقيا منذ مطلع 2025    تساقطات ثلجية وأمطار قوية وهبات رياح قوية مرتقبة من السبت إلى الاثنين بعدد من مناطق المغرب    وزير الخارجية الصيني: الصين تسعى إلى تقديم عوامل اليقين لعالم مليء بعدم اليقين    دوق بوكان الثالث سفيرًا جديدًا للولايات المتحدة في المغرب.. أهمية المملكة في الاستراتيجية الدبلوماسية الأمريكية    اليوم العالمي للمرأة.. إسرائيل قتلت 24 صحفية خلال الحرب على غزة    خلال اجتماع استثنائي بجدة... منظمة التعاون الإسلامي تقرر استئناف عضوية سوريا في المنظمة    رحيل أيقونة الطرب المغربي نعيمة سميح عن عمر 71 عاما    ترامب يعين ديوك بوكان الثالث سفيرا للولايات المتحدة بالمغرب    ترامب: الخلاف مع كندا والمكسيك سيجعل مونديال 2026 "أكثر إثارة"    جمال حركاس يجدّد عقده مع الوداد    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    الفنانة المغربية نعيمة سميح في ذمة الله    نعيمة سميح في ذمة الله    عمرة رمضان 2025: الموسم الذهبي لوكالات الأسفار    قائمة أسود الأطلس النهائية التي قد يختارها المدرب وليد الركراكي    رحيل أيقونة الطرب المغربي نعيمة سميح عن عمر 73 سنة    الفنانة نعيمة سميح في ذمة الله    مكتب الحبوب يدعم الموردين ب14.77 درهم للقنطار    النجم المغربي لامين يامال يثير اهتمام وسائل الإعلام حول توفيقه بين الصيام والتداريب    الصين تفرض رسوما إضافية على المنتجات الفلاحية والغذائية الكندية    تسرب الغاز قبالة سواحل السنغال وموريتانيا.. "غرينبيس إفريقيا" تحذر من الأثر البيئي    الكلايبي: لا نية لبيع مركب محمد الخامس وأولويتنا تأهيل البنية التحتية الرياضية    أفضل النصائح لخسارة الوزن    عمرو خالد: هذه ملامح استراتيجية نبوية ناجعة للتعامل مع تقلبات الحياة    اضطراب الشراهة عند تناول الطعام: المرض النفسي الذي يحوله تجار المكملات الغذائية إلى سوق استهلاكي    مقاصد الصيام.. من تحقيق التقوى إلى بناء التوازن الروحي والاجتماعي    فصل تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان    السمنة تهدد صحة المغاربة .. أرقام مقلقة ودعوات إلى إجراءات عاجلة    خبير يدعو إلى ضرورة أخذ الفئات المستهدفة للتلقيح تجنبا لعودة "بوحمرون"    عمرو خالد: 3 أمراض قلبية تمنع الهداية.. و3 صفات لرفقة النبي بالجنة    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قليلا من ابن رشد
نشر في هسبريس يوم 04 - 02 - 2014

في‮ »‬الأدب والارتياب‮« ‬يفتح عبد الفتاح كليطو في‮ ‬وقار هادئ،‮ ‬بابا على‮ ‬غرفة لايريدها الوعي‮ ‬العربي‮ ‬السائد أن تنفتح؛ إنها مسكن قضايا ابن رشد‮. ‬ففي‮ ‬محاورة عميقة‮ ‬يدخل في‮ ‬فضاء‮ ‬يصنع من خلاله تحيينا لقضية رجل هو أقرب إلى شخصية نص سردي‮.. ‬بملامح تخلط بين التخييلي‮ ‬والخيالي‮. ‬وكيليطو،‮ ‬من خلال هذا العمل،‮ ‬الذي‮ ‬يستحضر فيه عقلانية أحد أكبر المتكلمين الذين عمل الخطاب التراثي‮ ‬على اعتباره أديبا فقط،‮ ‬ونقصد الجاحظ،‮ ‬الذي‮ ‬اعترف،‮ ‬واهتم بالقارئ العدو الذي‮ ‬يشركه في‮ ‬مشاريعه ويدعو له،‮ ‬وفي‮ ‬كل لحظة‮ ‬يلتفت إليه ليتأكد من انتباهه ويذكي‮ ‬اهتمامه،‮ ‬لايريد أن‮ ‬يقدم لنا صورة عن رجل،‮ ‬بقدر ما‮ ‬يهدف إلى تقديم صورة لقضية/قضايا‮. ‬
والارتياب المطلوب،‮ ‬هنا،‮ ‬هو نوع من اليقين الذي‮ ‬يتخلل الشك والقلق والمتاه والدوخة،‮ ‬بالمعنى الفلسفي‮ ‬العميق،‮ ‬التي‮ ‬طبعت شيئا كان من الممكن ألا‮ ‬يضيع‮..‬
فابن رشد‮ ‬يصبح متعددا بتعدد مفهوم الزمن من جهة،‮ ‬وتعدد المكان من جهة أخرى‮. ‬إننا صرنا أمام شخصيات تسكن شخصا هو فيلسوف قرطبة الذي‮ ‬وضع للدورة اليومية محطات،‮ ‬بعضها لممارسة الحياة في‮ ‬بعدها الواقعي‮ ‬وما تحمله من دلالات تشتغل بالشرع؛ فهو قاض‮. ‬قم هناك زمن ليلي‮ ‬فيه‮ ‬يجد ابن رشد ذاته ويعود إلى المصالحة المشرقة مع عقله ليتأمل بحرية أسرار الكون ويسرُّ‮ ‬إلى عقله وقلبه كل ما‮ ‬يرتاح له‮.‬
العقل‮. ‬والتعقل‮. ‬لقاءات مع أرسطو ومجالسيه في‮ ‬حضرة متَّى،‮ ‬وبشر بن إسحاق‮. ‬يجلس متأملا ما‮ ‬يحار في‮ ‬أمره‮. ‬لكن ذات لحظة‮ ‬يدنو الليل من نهايته،‮ ‬فيتحول الزمن إلى لحظة البين-البين،‮ ‬حيث‮ ‬يغيب الوضوح ويتوقف الليل عن أن‮ ‬يكون زمنا خالصا،‮ ‬كما‮ ‬يضيع النهار عن أن‮ ‬يجلي‮ ‬وضوح نهاره‮. ‬وهنا بالضبط تختلط الأمور على عراب العقل فتختلط عليه القضايا وينتصب واقفا في‮ ‬وجه رجل انتصر لتيار وحارب زندقة وكفر كل الإشراقات التي‮ ‬كان فيها العقل صحوا‮ ‬يبحث عن سر الأسرار،‮ ‬فيبحث عن اللحظة التي‮ ‬كان‮ ‬يتهافت فيها المتهافتون،‮ ‬وهم لايميزون بين الليل والليل،‮ ‬بين الحقيقة والحقيقة،‮ ‬بين النهار وبين الليل،‮ »‬في‮ ‬وقت امتزاج الليل بالنهار،‮ ‬اختلطت عليه الأمور،‮ ‬فرأى المختلف‮ (‬التراجيديا والكوميديا‮) ‬في‮ ‬صورة المألوف‮ (‬المديح والهجاء‮)‬،‮ ‬ومن ثم رد الأدب اليوناني‮ ‬إلى الأدب العربي‮. ‬لقد خرج من مكتبته عند المساء وذهب للقاء الآخرين،‮ ‬ولكنه عاد في‮ ‬النهاية إلى منزله،‮ ‬مع كل ما‮ ‬يعني‮ ‬المنزل في‮ ‬رسو في‮ ‬الماضي‮«‬‮.‬
لقد ظل وضل وانتهى إلى أرض‮ ‬غير التي‮ ‬انطلق منها،‮ ‬فهاجر إلى أزمنة وأمكنة لم تتوقف عن التوفيق والبحث عن الفرق بين العقل والنقل عن الفلسفة والشريعة،‮ ‬عن الكوميديا والتراجيديا‮. ‬فهل ضل كل الطرق أم إنه ظل‮ ‬يمكث في‮ ‬نفس المكان،‮ ‬حائرا في‮ ‬الفصل بين القول والقول،‮ ‬وباحثا عن نقطة الوصل بين الشيء ‬ونقيضه‮.‬
إن ابن رشد‮ ‬يتحول إلى مشهد لعدد من التقابلات التي‮ ‬تجسد الحيرة والمتاهة اللتان تشتغلان في‮ ‬ذهن ابن رشد الذي‮ ‬يبحث دائما عن معادلة للتوفيق بين كل هذه المفارقات،‮ ‬في‮ ‬محاولة إلى صناعة وصفة تذيب التنافر وتهزم التناقض بين الظاهر والباطن،‮ ‬والعقل والشريعة‮..‬
وانتهى إلى أن‮ »‬كل شعر،‮ ‬وكل قول شعري‮ ‬فهو إما هجاء،‮ ‬وإما مديح‮«‬3‮ ‬وقد سقط في‮ ‬متاهة خطإ فهم للتراجيديا والكوميديا المترجمتين إلى‮ »‬المديح‮« ‬و‮ »‬الهجاء‮« ‬وهو سوء فهم تكرر طوال تاريخ ترجمة هذا العمل‮ (‬فن الشعر‮) ‬لأرسطو،‮ ‬الذي‮ ‬لو كتب له أن‮ »‬يفهم على حقيقته وأن‮ ‬يستثمر ما فيه من موضوعات وآراء ومبادئ،‮ ‬لعُني‮ ‬الأدب العربي‮ ‬بإدخال الفنون الشعرية العليا فيه،‮ ‬وهي‮ ‬المأساة والملهاة،‮ ‬منذ عهد ازدهاره في‮ ‬القرن الثالث الهجري،‮ ‬ولتغير وجه الأدب العربي‮ ‬كله‮. ‬ومن‮ ‬يدرى‮! ‬لعل وجه الحضارة العربية كله أن‮ ‬يتغير طابعه الأدبي‮ ‬كما تغيرت أوربا في‮ ‬عصر النهضة‮«‬‮.‬
وإذا كان ابن رشد قد ضل حقيقة المسرح من خلال ما جرته الترجمات السابقة التي‮ ‬اعتمدها في‮ ‬شروحاته للمعلم الأول،‮ ‬فإنه سعى إلى أن‮ ‬يجعل من كبرى قضاياه هي‮ ‬الحيرة التي‮ ‬دخلها حين عمَّ‮ ‬الظلام في‮ ‬زمنه الليلي‮. ‬فتعلق بسر الليل وهو‮ ‬يبحث عن حقيقة الحكمة بين العقل والعقل،‮ ‬بين قرطبة ومراكش‮.. ‬ولكنه في‮ ‬لحظة الفهم العميق ابتلي‮ ‬بنكسة موجعة أفقدته عقله وراح‮ ‬يهيم في‮ ‬ملكوت بلايا العقل العربي‮ ‬الذي‮ ‬لم‮ ‬يزدد إلا ظلاما ذات زمن لم‮ ‬يجد له مخرجا حتى اليوم‮. ‬وحين مات ابن رشد،‮ ‬وبعد ثلاثة أشهر من دفنه حملت رفاته إلى ماوراء البحر لتدفن في‮ ‬قرطبة‮. ‬وحضر ابن عربي‮ ‬جنازته وقال‮ »‬ولما جعل التابوت الذي‮ ‬فيه جسده على الدابة،‮ ‬جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر‮« ‬ليدفن الجميع في‮ ‬رحم أرض أخرى هي‮ ‬أوروبا‮.‬
ماذا فعل ابن رشد في‮ ‬لياليه
‮»‬لقد كان،‮ ‬حسب من ترجموا له،‮ ‬يشتغل بالليل،‮ ‬ولم‮ ‬يتوقف عن العمل إلا ليلة زفافه وليلة موت أبيه‮. ‬فهو في‮ ‬وضح النهار‮ ‬يشتغل في‮ ‬وظيفة قاضي‮: ‬النهار بالنسبة إليه زمن الشرع،‮ ‬وفضاء الشارع أو العالم الخارجي‮. ‬أما أثناء ‬الليل،‮ ‬فإنه‮ ‬يكرس جهده للفلسفة،‮ ‬أي‮ ‬لمادة شبه سرية،‮ ‬تدرس في‮ ‬الخفاء والستر،‮ ‬مما‮ ‬يقتضي‮ ‬العزلة،‮ ‬والانكماش على ‬النفس،‮ ‬والانقباض في‮ ‬قرارة المنزل‮: ‬إن الفلسفة جانبه المظلم‮«‬5‮. ‬فانشغل في‮ ‬لياليه بالبحث فيما بين الحكمة والشريعة من اختلاف واتفاق‮. ‬وانكشف له أن الحق هو جهة من جهات الحقيقة،‮ ‬وإن الحقيقة هي‮ ‬المطلق الذي‮ ‬لا‮ ‬يبلغه إلا أولئك الذين رسخوا في‮ ‬البحث عنه في‮ ‬الليالي‮. ‬ومن ثم لم تكن الشريعة سوى إحدى وجوه الحق الذي‮ ‬ينضج في‮ ‬السعادة بالمعرفة‮ »‬بالله عز وجل وبمخلوقاته‮«‬6‮. ‬وإن‮ »‬الحق لا‮ ‬يضاد الحق،‮ ‬بل‮ ‬يوافقه ويشهد له‮. ‬وإذا كان هذا هكذا،‮ ‬فإن أدى النظر البرهاني‮ ‬إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما،‮ ‬فلا‮ ‬يخلو ذلك الموجود أن‮ ‬يكون قد سكت عنه في‮ ‬الشرع أو عرف به‮«‬‮.‬
وابن رشد في‮ ‬زمنه الليلي،‮ ‬كان‮ ‬يرسم لمسار زمني‮ ‬سيحكم عليه بأن‮ ‬يبقى حبيس الليل العربي‮ ‬المظلم‮. ‬وحقيقة ال؊رسم لمسار زمني‮ ‬سيحكم عليه بأن‮ ‬يبقى حبيس الليل العربي‮ ‬المظلم‮. ‬وحقيقة الحقائق التي‮ ‬رسم ملامحها في‮ ‬ليالي‮ ‬مراكش وإشبيلية وقرطبة،‮ ‬ما كانت لترتكن في‮ ‬هدوء وصمت ذلك الزمن،‮ ‬فأشرقت شموس ضالة ورأت أن جنون ابن رشد لابد أن‮ ‬يُبحث له عن حل،‮ ‬ولابد لمرض الرجل من دواء حتى تنتهي‮ ‬آلام كل من ذاث مرارة حقيقته‮. ‬لقد جُنَّ‮ ‬ابن رشد حين اعتبر الأرض كروية،‮ ‬ومرق حين اعتبر أرسطو معلما كبيرا،‮ ‬وضلَّ‮ ‬الطريق مرة أخرى حين رأى أن الفلسفة مصباح للبحث عن الحقيقة في‮ ‬عز الليل‮!‬
فالليل لا‮ ‬ينبغى أن تُنير جنباته إلا الظلمات،‮ ‬والأرض‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تظل مسطحة كما أُرِيد لها أن تكون‮. ‬وأرسطو لم‮ ‬يكن‮ ‬يتحدث في‮ »‬شعريته‮« ‬إلا عن ‬المديح والهجاء،‮ ‬والمنطق زندقة‮ ‬ينبغي‮ ‬أن نضع حدا‮ »‬لتهافته‮«!‬؟‮ ‬فما الذي‮ ‬وجب فعله؟ إحراق الليل أم إطفاء مصابحه ليعم الظلام الأرض كلها‮. ‬وكان الاختيار‮ ‬يراوح بين النار والموت والظلام‮...‬فتمت محاكمة ابن رشد بالجامع الأعظم بقرطبة،‮ ‬بعد أن طرد من الصلاة ذات‮ ‬يوم،‮ ‬بسب تزندقه،‮ ‬مباشرة بعد انتصار المنصور على ألفونسو الثاني‮ ‬ملك البرتغال‮. ‬وقال القاضي‮ ‬أبو عبد الله بن مروان الذي‮ ‬تولى ‬الدفاع عنه،‮ ‬أن الأشياء الضارة في‮ ‬جهة قد تكون نافعة من أخرى مثلها مثل النار وهو في‮ ‬ذلك‮ ‬يشير إلى فلسفة ابن رشد،‮ ‬التي‮ ‬إن بدت ضارة للبعض فلأنه لم‮ ‬يظهر لهم الوجه النافع منها‮... ‬لكن تلك النار كانت هي‮ ‬مصير كتب ابن رشد التي‮ ‬صدر الحكم بإحراقها ونفيه هو إلى أليسانة‮.. ‬فقط لأن كل ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يقع في‮ ‬الليل فإنه‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يعدم لأنه وقع في‮ ‬زمن لابد له أن‮ ‬يحافظ على ظلاميته‮!‬
واجتهد المنصور وبعث رسالة إلى مراكش وباقي‮ ‬البلدان مدبجة بكتاب من كاتب سر الخليفة محمد بن عياش،‮ ‬الذي‮ ‬كان له الفضل في‮ ‬وضع حد للعمل في‮ ‬الليالي،‮ ‬ليجعل من الليالي‮ ‬العربية مساحة زمنية للمدام والمجون والغلمان والجواري‮.. ‬لأن ذلك حقيقة لا تضاد الحقيقة التي‮ ‬دافعوا عنها،‮ ‬وإنما الخطر كل الخطر أن تبقى مؤلفات ابن رشد موزعة بين الناس‮.. ‬وهوما سيؤدي‮ ‬إلى فساد عوام الناس وستفسد معه كل قصة الحضارة‮.‬
ومما أورده بن عياش في‮ ‬الرسالة‮: »‬قد كان في‮ ‬سالف الدهر قوم خاضوا في‮ ‬بحور الأوهام،‮ ‬وأقر لهم عوامهم بشفوف عليهم في‮ ‬الأفهام،‮ ‬حيث لا داعي‮ ‬يدعو إلى الحي‮ ‬القيوم،‮ ‬ولا حاكم‮ ‬يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم،‮ ‬فخلدوا في‮ ‬العالم صحفا ما لها من خلاق،‮ ‬مسودة المعاني‮ ‬والأوراق،‮ ‬بعدها من الشريعة بعد المشرقين،‮ ‬وتباينهما تباين الثقلين،‮ ‬يوهمون إلى العقل ميزانها،‮ ‬والحق برهانها‮ (..) ‬ذلكم بأن الله خلقهم للنار،‮ ‬وبعمل أهل النار‮ ‬يعملون ليحملوا أوزارهم كاملة‮ ‬يوم القيامة ومن أوزار الذين‮ ‬يضلون بغير علم،‮ ‬ألا ساء مايزرون‮! [...]‬
ومازلنا نذكركم‮ -‬وصل الله كرامتكم‮- ‬نذكرهم على مقدار ظننا فيهم وندعوهم على بصيرة إلى ما‮ ‬يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ويدينهم،‮ ‬فلما أراد الله فضح عمايتهم وكشف‮ ‬غوايتهم،‮ ‬وقف لبعضهم على كتب مسطورة في‮ ‬الضلال،‮ ‬موجبة أخذ كتاب صاحبها بالشمال‮ [...]‬
فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان حذركم من السموم السارية في‮ ‬الأبدان،‮ ‬ومن عثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي‮ ‬بها‮ ‬يعذب أربابه،‮ ‬وإليها‮ ‬يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه‮«‬.‬
هكذا‮ ‬يلقى القارئ نفس مصير كل مؤلف سولت له نفسه أن‮ ‬يتجرأ على استخدام عقله للنظر في‮ ‬بواطن قلبه‮... ‬فهل نحتاج إلى القليل من ابن رشد أم إلى كل العقل أم نحرق ما تبقى من الحقائق التي‮ ‬تشعل نيران حرائق العقل العربي‮!‬
فابن رشد ظل حائرا بين أزمنة العقل وأزمنة الوجد،‮ ‬وكل ما كان‮ ‬يعرفه أنه لا‮ ‬يعرف شيئا،‮ ‬وقد كان‮ ‬يعيد الحيرة كلما أعاد قراءة ما قاله معلمه أرسطو‮ »‬إن العلماء ليسوا على‮ ‬يقين من أي‮ ‬شيء‮.. ‬ويكفي‮ ‬أن تكون العامة على‮ ‬يقين من كل شيء‮« ‬وهو ما حكاه ابن عربي‮ ‬حين حكى ما دار في‮ ‬لقائه بابن رشد وهو مايزال في‮ ‬بداية الطريق،‮ ‬حيث قال‮: »‬دخلت‮ ‬يوما بقرطبة‮.. ‬على قاضيها‮.. ‬أبي‮ ‬الوليد ابن رشد‮.. ‬وكان‮ ‬يرغب‮ ‬ي‮ ‬لقائي‮ ‬لمَّا سمع وبلغة ما فتح الله سبحانه وتعالى به عليَّ‮ ‬في‮ ‬خلوتي‮.. ‬وكان‮ ‬يُظهر التعجب مما سمع‮.. ‬فبعثني‮ ‬والدي‮ ‬إليه في‮ ‬حاجة قصدا منه حتى‮ ‬يجتمع بي‮.. ‬فإنه كان من أصدقائه وأنا صبي‮.. ‬بقَل وجهي‮.. ‬ولا طرَّ‮ ‬شاربي‮. ‬فلما دخلت عليه قام من مكانه إليَّ‮ ‬محبة وإعظاما‮.. ‬فعانقني‮ ‬وقال لي‮: -‬نعم‮..!..- ‬فقلت له‮: ‬نعم‮..!.. -‬فزاد فرحه بي‮ ‬لفهمي‮ ‬عنه‮.. ‬ثم إني‮ ‬استشعرت بما أفرحه من ذلك‮.. ‬فقلت له‮: -‬لا‮..!..-‬فانقبض‮.. ‬وتغير لونه‮.. ‬وشك فيما عنده‮.. ‬وقال‮" ‬كيف وجدتم الأمر في‮ ‬الكشف والفيض الإلهي‮..‬؟ هل هو ما أعطاه لنا النظر‮..!.. ‬قلت له‮: ‬نعم‮..!. ‬لا‮..!.. ‬وبين‮ »‬نعم ولا‮« ‬تطير الأرواح من موادها‮.. ‬والأعناق من أجسادها‮.. ‬فاصفر لونه‮.. ‬وأخذه الأَفْكَلَ‮..‬وقعد‮ ‬يحوقل‮..‬وعرفت ما أشرت به إليه‮.. ‬وهو عين المسألة التي‮ ‬ذكرها هذا القطب الإمام‮.. ‬أي‮ ‬مداوي‮ ‬المكلوم‮.. ‬وطلب من أبي‮ ‬بعد ذلك الاجتماع بنا ليعرض ما عنده علينا‮..‬هل‮ ‬يوافق أو‮ ‬يخالف‮.. ‬فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي‮.. ‬فشكر الله تعالى الذي‮ ‬كان في‮ ‬زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلا وخرج بمثل هذا الخروج‮..‬من‮ ‬غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة‮..‬وقال‮: ‬هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أرباباً‮«.‬
بين البرهان العقلي،‮ ‬والنظر في‮ ‬الباطن وتجليات الحقائق كانت المسافة بين القلب والعقل،‮ ‬وبين النظر والكشف،‮ ‬وكانت‮ "‬نعم‮" ‬تشبه‮ "‬لا‮"‬،‮ ‬وكانت الحيرة تزداد كلما اقترب ابن رشد من إحديهما‮..‬
‮ ‬وبين الليل وطلوع النهار تسكن كل أسرار الحكمة والحقيقة‮.. ‬فمن‮ ‬يجرؤ على ترقب اللحظة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.