عرف المشهد الوطني حدثا فريدا من نوعه , تمثل في خروج التلاميذ إلى الاحتجاج على برنامج وزاري يسمى ببرنامج مسار , و هو يعني رقمنة نقط الامتحانات , و نتائج الدورات الدراسية , أي إدخالها إلى عالم المعلوميات . هذا الخروج أعاد إلينا ذكريات دفينة في التاريخ , في زمن مشاركة التلاميذ في الحركات الاحتجاجية , فالحركة الطلابية في مغرب ما قبل الاستقلال كان يقودها تلاميذ جامع القرويين و ثانوية مولاي يوسف , على اعتبار عدم وجود مؤسسات عصرية في ذلك الوقت بالمعنى المتعارف عليه اليوم , كما أن الأحداث المتأججة التي عرفها مغرب ما بعد الاستقلال شارك فيها التلاميذ بنصيب وافر , و كان منهم معتقلون سياسيون بصموا أسماءهم بمداد ذهبي في تاريخ المغرب المعاصر . إن هذه الصرخة التلاميذية ألجمت بعض الأصوات التي كانت تقول إن تلاميذ اليوم بعيدون كل البعد عن الأمور الخاصة بشؤونهم الاجتماعية , و منعزلون كثيرا عن محيطهم , كما أنهم يفتقدون إلى التصورات السياسية التي تجعلهم قادرين على مناقشة أحداث بلدهم , خاصة في التعليم , فقد حصرت هذه الأصوات التلاميذ في الاهتمام بسفاسف الأشياء , كاهتمامهم بعالم الصورة , و الموضة , و الانجرار وراء الأحداث الصاخبة التي تقع في العالم : البارصا و الريال و مهرجانات الموسيقى العالمية ... , لكن خروجهم اليوم , و احتجاجهم بطريقة مثيرة , يشي بأن لتلاميذنا وعيا كبيرا يجعلهم قادرين على المساهمة في تأثيث المشهد الوطني بقوة , فلا يمكن أبدا اعتبار هذا الخروج مجرد نزوة عابرة و إنما هو إدراك واع في أنهم مسوا في خبزهم , و بطبيعة الحال فأي شعب مهما كان , إذا مس في خبزه ثار , و أصبح نارا. عودة إلى الأسباب الحقيقية لهذا الخروج , فقد تم إثر تعميم وزارة التربية الوطنية مذكرة برنامج مسار , الذي يلزم الأطر الإدارية و التربوية بإستعمال المعلوميات في إدخال النقط , و ما أفاض الكأس , كان في إلزام الأساتذة بإدخال نقاط الفروض في برنام آلي , و مرور نقطة الدورة عبر مراحل لم يعهدها الأساتذة و التلاميذ من قبل , و هذا ما أثار حفيظة التلاميذ , خصوصا تلاميذ الثانوي التأهيلي , بما أنهم ينتظرون نقطا في المراقبة المستمرة تساعدهم في الامتحان الوطني للحصول على ميزة تخول لهم ولوج المعاهد العليا . في البداية تنبغي الإشارة إلى أننا في حاجة إلى الانفتاح على عالم المعلوميات , و تدعيم منظومتنا التربوية بالوسائل التقنية المتطورة , و الهدف من هذا كله تحسين التدبير المدرسي , وتسريع تقديم الخدمات الأساسية التي تقدمها المدرسة العمومية إلى المواطنين , و خلق دينامية جديدة في المنظومة التربوية . هذا التصور يبقى رهينا بوضع متطلباته الأساسية , و خلق أرضيته المناسبة , و يتأتى ذلك بوجود مؤسسات مجهزة تجهيزا متكاملا و بموارد بشرية قاردة على إنجاح هذه التصورات النظرية , هذا من جهة , و من جهة أخرى , فواقع الحال يشهد بضد ذلك , فما هو موجود حاليا يدل على فقر واضح في توظيف التقنيات المعلوماتية , فكما هو معلوم , فقد قامت وزارة خشيشن و العابدة بوضع تكوينات لفائدة أطر الوزارة سميت بجيني , و حاولت من خلالها تعميم التقنية المعلوماتية في المشهد التربوي رغم أن نتائج هذه التكوينات لم تكن محمودة في مجملها , و خلال فترة وزير الحكومة الحالية , غابت مثل هذه التكوينات إلا حين أقيم التعديل الحكومي , و جاء وزير التربية الوطنية الجديد , فحاول إعادة الروح إلى مثل هذه التكوينات الأساسية , و بدأ ذلك بشكل متسرع و مفاجئ بفرض مشروع مسار في نظام التقويم و الامتحانات . بحيث لم ينتبه إلى أن هناك واقعا آخر مرا هو هشاشة الأرضية المناسبة لتقديم مثل هذه الخدمات , سواء على صعيد المؤسسات , أو الموارد البشرية , فعدد كبير من مؤسساتنا , خاصة في العالم القروي تفتقد إلى الوسائل التقنية , و القاعات المناسبة لتطبيق المعلوميات المتطورة , ذلك لأن المعلوميات لا تعني توفير حواسيب و صبيب الإنترنيت فقط للقيام بالغرض التربوي , بل يحتاج إلى قاعات قادرة على بث أجواء تسودها التقنية المتطورة مثلما نراه في المؤسسات التي تحترم هذه التقنيات, و توفر لها الأرضية المناسبة لسريانها و الاستفادة من نتائجها , بخلاف أغلب مؤسساتنا التي هي مجرد قاعات جرداء فيها مكتب و حاسوب و مدير يشتغل بيديه و رجليه لإرضاء أوامر الوزارة التي لا تعصى . في حين هناك موارد بشرية لا زالت لا تعرف حتى كيف تشغل الحاسوب , و تعاني أمية معلوماتية مقفرة , فكيف سننتظر من مثل هؤلاء الأشخاص مسك نقط التلاميذ و إدماجها في أقراص و تخزينها في البرانامات المعلوماتية ؟ لذلك , فخروج التلاميذ , و احتجاجهم بطرق مثيرة , , لم يكن بدوافع سياسية دفعوا إليها دفعا كما حاولت الوزارة تبريره , و إنما هو وعي أن نقطهم ) خبزهم ( في خطر , فكيف سيتصور التلميذ الذي صدم هذه السنة بقرارات الوزارة العشوائية في العطل حين انتهى من مقرر الدورة الاولى , و دخل مباشرة الى مقرر الدورة الثانية دون استراحة محارب , كيف له ان يتصور تلك النقطة التي كانت بيد أستاذه ستمر من كل تلك المراحل , و ما قد يشوب ذلك من أخطاء تقنية قاتلة , ستعصف به , و بأمله في الدراسة بعد البكالوريا , و الأدهى و الأمر في كل ذلك , هو أن وقت تسليم نتيجة الدورة الأولى قد يمتد إلى شهر أبريل بعد البث في إعادة تصحيح النقط , مما قد يجعل الدورة الأولى أطول دورة ربما في تاريخ السنوات الدراسية كما عبر عن ذلك أحد الباحثين . لذلك فنعتقد أن وزارة التربية الوطنية , و في ظل الحكومة الحالية , تعاني أحلك أيامها , سواء من خلال الاختناق الذي تشعر به حيال الأساتذة الرابضين في الرباط منذ أكثر من شهرين دون تململ , أو من خلال العواصف القادمة التي ستقوم بها فئات تعليمية أخرى تنتظر بشوق مآل ملف حاملي الشهادات , و الآن , و بشكل مفاجئ , و في إعادة إلى الوراء قبل أكثر من أربعين سنة , عادت الروح إلى الحركات التلاميذية , و أصبحت قادرة على البوح بأصواتها , و فرض كلمتها و نفسها , و صنع القرارات التي كانت تجبر عليها . *باحث في اللسانيات