موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



درس الأستاذ العروي..
نشر في هسبريس يوم 04 - 09 - 2023


من الأدلجة إلى الوعي النقدي
وأنت تقرأ كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" للمفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي (الطبعة الثانية 1999، المركز الثقافي العربي) لا تكاد تشعر بالفرق بين زمن كتابة هذا البحث وبين الزمن المعاصر؛ ذلك أن جل الأسئلة والإشكالات التي يطرحها الكاتب ويعالجها ما زالت تبحث لها عن أجوبة جادة وناجعة، بما هي أسئلة ذات طابع نهضوي تقدمي تعنينا، كما تعني مجموع الناطقين بالعربية، بشكل من الأشكال (لم تلبث الدراسة أن شملت مجموع الشعوب الناطقة بالعربية) (ص:23)، فنحن في النهاية نعاني الإشكال نفسه، إشكال التخلف، الذي يفسر الفرق بيننا وبين الغرب، كما يفسر أيضا علاقتنا الملتبسة معه، وبمنطوق الأستاذ عبد الله العروي، ففي الغرب هناك كلام مطابق للواقع، وآخر غير مطابق (أي أدلوجية)، (لكن بسبب تخلف المجتمع العربي، تكون العبارة الأولية، المفروض فيها أن تكون مطابقة، هي نفسها محرفة أدلوجية) (ص:57).
ينهي الأستاذ العروي هذا الكتاب، وقبل الخلاصة، بأسئلة ختامية دالة، تفيدنا في الاقتراب من منظوراته، لعناصر هذا البحث، يقول: ( لماذا يستحيل علينا أن نستدرك في آن ما فاتنا على صعيد الواقع الملموس، وعلى صعيد التمثل والتعبير؟، لماذا نعجز باستمرار على مزاوجة إصلاح الاقتصاد، وتحرير الفكر، قد يكون سبب الأسباب، هو بكل بساطة عمق التأخر: بقدر ما يكون عاما وشاملا، بقدر ما يصعب استدراكه بنفس السرعة ونفس الإحكام على جميع مستوياته المختلفة) (ص:248).
يبدو لي أن هذه هي أهم الأسئلة والإشكالات التي يشتغل عليها الأستاذ العروي في هذا الكتاب، بتنويعات وتدقيقات مختلفة، مع القراء، ومع من يعنيهم الأمر، في اتجاه إيجاد أجوبة ملائمة لها. ومنذ البداية، وفي المدخل تحديدا، يدلنا الأستاذ العروي على دافعه من كتابة هذا البحث، (إن الدراسة التي أقدمها اليوم للقارئ... دفعني إلى إنجازها ما لا حظته من تعثر واضح، على المستويين السياسي والثقافي، في مسيرة المغرب بعد عشر سنوات من استقلاله) (ص:23)، وبعدها مباشرة، يمدنا الأستاذ العروي بمنهجه الذي سيعتمده في هذا البحث، والذي يستبعد فيه طريقتين، (الأولى تجريبية ساذجة، والثانية خارجية وضعانية، من يتولى الأولى من الدارسين، فإنه يغوص في الثقافة التي يدرسها ... دون أن يعير أي اعتبار لأبعادها التاريخية، ومن يتولى الطريقة الثانية، فإنه ينسلخ عن الثقافة المدروسة، ويصر على هذا التجرد المنهجي، فيصف كل شيء من الخارج... ما يتولد عن الطريقة الأولى شهادة ذاتية، وعن الثانية تحليل خارجي جامد، كلا المنهجين ينفي التاريخ، أو يراه من منظور واحد فيعجز عن رصد الواقع) (ص: 25)، يقول الأستاذ العروي، متحدثا عن اختياره المنهجي: (رفضت عن وعي أسلوب الشهادة الساذجة والعفوية، كما استبعدت خطة التحليل البراني المتعالي) (ص:27).
أما مفاهيمه التي يعتمدها، وكما يوردها في كتابه فهي: (مفهوم الطبقة _ المدلول والتمايز الطبقي، أي ما يتولد، بصفة تكاد أن تكون حتمية، في مجتمع ما، عن استعارة عنصر بنيوي من مجتمع آخر) (ص:28)، (مفهوم (إيديولوجيا) أو (أدلوجة)، وتعني ما ينعكس في الذهن من أحوال الواقع انعكاسا محرفا، ونسقا فكريا يستهدف حجب واقع، ونظرية مستعارة لم تتجسد بعد كليا في المجتمع الذي استعارها _ مفهوم الدولة، المستعمرة والليبرالية والقومية، بدل مصطلح المجتمع) (ص:29)، (مفهوم الوضعانية والجدلية (الديالكتيك)، وأشكال التعارض بينهما، والذي (لا يتعدى مجال العلوم الإنسانية ) في رأي الكاتب (ص:30)، ما جعله يختار مصطلح (ماركسية موضوعية ) (ص:31).
واضح، طبعا، أن الأستاذ عبد الله العروي يعتمد في عرض آرائه النظرية على عدة مفاهيمية دالة ووازنة، خصها بكتب ودراسات متفردة موازية، ويصعب الاقتراب من مشروعه النظري دون الاطلاع على هذه العدة المفاهيمية، (الدولة، الحرية، الإيديولوجيا، التاريخ، العقل). والتفكير بالمفاهيم في (الإيديولوجيا العربية المعاصرة ) يعني الكتابة بهم منهاجي، يقول الكاتب: (هذه مفاهيم لا تتساوى في صياغتها النظرية، لكنها تدل كلها على هم منهاجي، لا ينفصل عن التحليلات التي أقوم بها في هذا الكتاب) (ص:31_32). هذا الهم المنهاجي يروم من خلاله الكاتب الإجابة عن أسئلة محددة، يوردها في الصفحة (32) من الكتاب، ولا يكاد هذا الهم المنهاجي يفارق الأستاذ عبد الله العروي طيلة صفحات هذا البحث، يقول: (أما النهج الذي اخترناه هنا، والذي هو اجتماعي تاريخي، فإنه يقودنا حتما إلى تمييز المستويين... فنسمي الأول واقعيا والثاني موضوعيا) (ص:93). من نحن ومن الآخر؟، هنا نلتقي بالسؤال الإشكالي الرئيس، الذي ظل العرب يطرحونه لعقود، (منذ ما يقرب من ثمانية عقود والعرب لا يكفون يتساءلون: من نحن ومن الآخر) (ص:35)، ويعيد الأستاذ العروي، ها هنا، صياغة هذا السؤال، بما ينقله إلى صورته الموضوعية، باعتباره إشكالا يتداخل فيه الاثنان (العرب والغرب)، بحيث لا يمكن معالجته، إلا معهما معا، وبهما معا، فصورة العرب عن أنفسهم تتضمن بالضرورة صورتهم عن الغرب، يقول: (ما يهمنا بأحرى هو أمر آخر، هو أن الكتاب العرب، كلما حاولوا تشخيص عيوب وعلل مجتمعهم، ضمنوا ذلك التشخيص صورة معينة عن الغرب..) (ص:37_38)، الشيء نفسه يحضر بشكل أو بآخر في الجهة المقابلة (الغرب)، ما يعني أن الوعي بالذات، سواء بالنسبة إلى العرب أو الغرب، يفترض بالضرورة الوعي بالآخر (العرب والغرب).
يستحضر الأستاذ العروي، في إجاباته، ما سماه بأشكال الوعي الثلاثة (الشيخ والسياسي وداعية التقنية)، ممثلة في النماذج التالية (محمد عبده، لطفي السيد، سلامة موسى ) (ص:49)، هؤلاء الذين ينتصرون ظاهريا، لثلاث مقاربات مختلفة لمعنى الغرب بالنسبة إلى العرب؛ لكن الملاحظ هو أن هذه المقاربات الثلاث أو أشكال الوعي الثلاثة ليست منعزلة عن بعضها، بل تتداخل وتتمازج في فضاء مجتمعي واحد، ف(وعي الشيخ مرتبط بالمجتمع الخاضع للاستعمار المباشر، حيث تحتفظ فئة الخاصة المنحدرة من العهد السابق بزمام الحكم... ووعي الليبرالي مرتبط بالطبقة البورجوازية الجديدة، المتولدة عن تفكك النخبة القديمة وتكيفها مع الوضع المستحدث. أما وعي داعية التقنية فإنه يتناغم مع منطق الدولة القومية، حيث تسيطر بورجوازية صغيرة) (ص: 51)، وأشكال الوعي هذه تتواجد داخل الدولة الواحدة، وإن بأشكال متباينة (لا سبيل إلى إنكار تساكن أشكال الوعي في الدولة الواحدة) (ص:52).
ويدعو الأستاذ العروي إلى دراسة البلاد العربية في علاقاتها، حتى نضع اتجاهاتها الفكرية في مكانها الصحيح ونتمكن من إدراك علاقاتها بوعي الغرب، يقول: (إذا ما درسنا الوضع الثقافي في بلد عربي ما معزولا عن البلاد الأخرى، إذا ما أهملنا النسق التاريخي الذي اقترحناه، كيف نستطيع أن نولي هذا الاتجاه الفكري أو ذاك القيمة التي يستحقها موضوعيا؟ ونلمس هكذا صعوبة تحديد المدلول الاجتماعي لكل شكل من أشكال الوعي، صعوبة تتضاعف عندما نحاول تصور علاقة ذلك الشكل بوعي الغرب نفسه) (ص:53). ويشير الأستاذ العروي إلى أن العرب لا يدركون إلا جزءا من هذا الغرب، ويتساءل بالمقابل: (لماذا يصر الغرب نفسه على أن يظهر للعرب، وذلك في كل مرة، وجها عنه لم يعد يطابق منذ زمن طويل واقع حاله؟) (ص:54)، وعدم إدراك صورة الغرب، يجعل العرب يخطئون في فهمه، في تقدير الأستاذ العروي (وحين يفتح شيخنا عينيه على ذلك الغرب المتغير فإنه لا يدرك إلا ذلك الوعي الهامشي الخافت... فيظن الشيخ أن كلام المستشرق هو كلام الغرب كله في حين أنه كلام جماعة مبعدة عن محرك المجتمع الغربي، أي الصناعة العصرية) (ص:55). الأمر نفسه يتكرر مع ممثل الوعي السياسي (أحمد لطفي السيد) (ص:56)، وكذا مع داعية التقنية (ص:57). وبالمقابل، نفس التردد وعدم الاطمئنان يحكم أيضا صورة العرب في ذهن الغرب، (إن المجتمع الغربي ككل لا يقبل فعلا وبدون تحفظ سوى السياسي الليبرالي المتواضع الطيع. أما الشيخ فإنه يراه لغزا غامضا وداعية التقنية متكبرا متغطرسا) (ص:59)، ما يعني وجود ازدواجية في الأحكام من طرف العرب والغرب معا، يقول الأستاذ العروي: (إن ما يجب التعمق فيه، عندما نتمثل العلاقات المتشابكة بين فئات المجتمعين، العربي والغربي، هو ازدواجية حكم كل فئة على ذاتها وعلى غيرها) (ص:59)، وهي ازدواجية ملاحظة (في كل مرحلة من مراحل التداخل بين المجتمعين العربي والغربي) (ص:60). ويستعرض الكاتب مجموعة من الأمثلة، التي تفيد هذا المعنى، يقول: (فالدولة القومية تفرض فرضا، بالقهر والإكراه، مقولات العقل التقني، ومع ذلك تنتقد بشدة التشويهات التي ألحقها ذلك العقل بالذات وبالإنسان الأوربي. كما أن خصوم الإمبريالية في أوروبا يحبذون نظرية الثقاة القومية، دون أن يروا أن هذه تمثل الوجه الآخر لتغلغل العقل المتنامي) (ص:81). من هنا، يخلص الأستاذ العروي إلى استنتاج مفاده عدم إمكانية فهم العرب والغرب إلا وهما متشابكان، يقول: (كلاهما مندس في الآخر، شعرا بذلك أو لم يشعرا به، فلم يعد أحدهما يستطيع أن يدرس الآخر من الخارج) (ص:62)، ولا بد علينا (بالأخص أن لا ننخدع بالوحدة المزيفة التي يظهرها لنا الغرب. يجب أن نحلل أحواله تاما كما يحلل هو أحوالنا) (ص:83)، والغرب نوعان، غرب الظاهر (الذي يعادينا ونعاديه، يعاكسنا ونعاكسه... المغتر برياضه وحدائقه، بشوارعه ومدافعه (ص84)، والغرب الثاني الثائب، المراجع لأوضاعه... الغرب الذي يتطلع إلى المستقبل من خلال مخاطبة شعوبه وشعوبنا، ذلك غرب يجب أن نسمع له...) (ص85).
ويبقى المطلوب، في النهاية، بالنسبة إلينا نحن العرب هو فك المعادلة، التي تقول بتقدم الغرب وتخلف الكنيسة، في مقابل تقدم الإسلام وتخلف المسلمين، وبلغة الكاتب: (إيجابية الغرب، حبه للعمل، تشبثه بالحرية، لا شيء من ذلك نابع حتما عن الدين المسيحي، الذي يبدو في التاريخ بالعكس، ملازما باستمرار للاضطهاد والاستغلال... (ص:65)، وبالمقابل، الانحطاط، العبودية، السلبية والتواكل، لا شيء من ذلك مرتبط بالإسلام) (ص:66)، على أن (عبارات الرفض تجاه الثقافة الغربية لا يمكن أن تشكل بحد ذاتها ثقافة) (ص:86)؛ ذلك أن الغرب موجود في كل التيارات العربية، والعكس أيضا. ولذلك، لا محيد من الحديث عنهما معا، سواء بالنسبة للعرب أو الغرب، وإلا سقطنا معا في الأدلوجة، يقول الأستاذ العروي: (ونظرا لأننا نجد الغرب في مبادئ وأصول كل التيارات الفكرية العربية الحديثة... فلا يمكن فصل الحكم على العرب عن الحكم على الغرب، فإذا لم يكن الدارس الغربي مستعدا لنقد ثقافته، أو إذا اقتنع بأن الغرب غرب والشرق شرق أبد الآبدين، فإن أحكامه ستكون بالضرورة على مستوى الأدلوجة التي يقوم بتحليلها) (ص:93).
ويبدو الأستاذ العروي صارما في بناء ما يسميه نقدا تجريديا، يهم العرب والغرب معا، ويعمل (على توحيد الإنسانية وتأسيس عقل كوني بواسطة نقض ونفي كل ما يدعي الخصوصية والأصالة والانفراد) (ص:133).
ويلاحظ الباحث أن الغرب يقدم للعرب ثلاثة اختيارات لدراسة ذاتهم، (الأول ينزع إلى الوضعانية، والثاني إلى الجدلية (الديالكتيك)، والثالث إلى الماركسية. حينئذ، يتلخص المشكل المطروح علينا في معرفة الكيفية التي تقبل بها العقل العربي كل واحد من المناهج المذكورة) (ص: 143)؛ ذلك أن الدولة القومية عند العرب تجيب عن سؤال ما العمل، ولكنها لا تهتم بسؤال كيف تفكر، يقول الكاتب: (على السؤال ما العمل؟ تجيب الدولة القومية إجابة واضحة... وعلى السؤال كيف نفكر؟ لا تجيب الدولة بأية إجابة...) (ص: 142). ولذلك، يلاحظ أننا، يقول الأستاذ العروي: (جميعا نستخدم طريقة مطردة واحدة، وهي طريقة المماثلة والقياس... نقتطع من الواقع أجزاء لا نقابل بعضها ببعض ولا نقيسها على بنية واحدة مبطنة فيها، بل نقيسها بأشكال منطقية تجلت مكتملة في حيز اجتماعي غير حيزنا (نعني الغرب)) (ص: 155)، ويقدم الأستاذ العروي مجموعة من الأمثلة للتدليل (مسألة الربا، التجاوب مع مسرحيات موليير، الحديث عن الديمقراطية، الحديث عن المرأة) (ص155 _156_157)، ليخلص إلى أن الكتاب في الشؤون العربية يغلبون الطريقة القياسية، يقول: (ليس الغرض هنا تبرير أو تفنيد الطريقة القياسية، بل إظهار أنها عامة، غالبة على كل من يكتب في الشؤون العربية )(ص:159)، والسبب وراء هذا، هو السرعة والرغبة في الإنجاز لا الفهم، (سبب الإحجام عن التفكير من جهة وسبب التفكير بالمثل من جهة ثانية، هو الوازع العملي أو الهم الإنجازي) (ص:160)، فالعرب يقبلون الوضعية كمذهب للعمل لا كطريقة للبحث، يقول الكاتب: (يتهافت زعماء الدولة القومية على نماذج، يسترشدون بها، هي من نتاج العقل الوضعاني، لكنهم، عندما يتعلق الأمر بفحص الذات، يرفضون المناهج الوضعانية، رغم أنها تولدت عن نفس العقل) (ص:161).
ويبرز هذا الموقف الرافض أكثر حين يتعلق بمعرفة ذواتهم، حيث يحرص الوعي العربي (على إخراج العلوم الإنسانية من نطاق النهج الوضعاني بكل أشكاله) (ص: 202)؛ وذلك، يقول الكاتب، لأن (الأدلوجة (الدعوة) سابقة، عمليا وإجرائيا، تاريخيا ومنطقيا، على المجتمع) (ص:203)، ما يعني أن علينا أن نبدأ بالفكر قبل المجتمع، وأول ما نبدأ به تحرير نظرنا إلى التاريخ، الشيء الذي يوليه الأستاذ العروي أهمية خاصة ومركزية، فالرؤية إلى التاريخ محدد رئيسي. ويشير الكاتب، في هذا الصدد، إلى وجود ثلاث رؤيات إلى التاريخ عند العرب (من ص:99 إلى 102)، هي: (ثلاث رؤيات، تسود كل واحدة مرحلة معينة من مراحل تطورنا الاجتماعي، ولا نزال نراها قائمة بيننا حسب ما تمليه حاجة كل فئة اجتماعية... هذه في واقع الأمر، ثلاث قراءات لتاريخ تم وانتهى، تهمل ترابط الوقائع كما يثبتها النقد التاريخي، وتقفز مباشرة إلى الخلاصات فتطوعها لتجيب على الهموم والتساؤلات الراهنة) (ص: 103)، حسب زعمها، ويعرض الكاتب على سبيل المثال، إلى النقاش الذي دار بين المعتزلة والحنابلة (ص: 109)، وبين السنة والشيعة (ص:110)، وكيف أن رؤياتهم جميعا، وبالرغم من منطلقها العقدي، لا تخلو من تأويل، يقول: (والسنة أيضا تأويل كغيرها، (إنها مجرد تأويل بين تأويلات عدة... تسود اليوم كما سادت بالأمس لأسباب تعود إلى بنية المجتمع..) (ص:110).
ويؤكد الأستاذ العروي، على لسان (كانترل سميث )، (إن علم التاريخ في الثقافة العربية المعاصرة سلاح دفاعي أكثر منه منهج بحث وتقصي الوقائع) (ص:121)، وأن هذا التاريخ، بعد خروج المستعمر تعرض للتحوير، (حين قام الزعيم الليبرالي، مسلحا بالنقد التجريدي العشوائي، ببث الشك في نفوس المسلمين) (ص: 136)، الشيء نفسه تقريبا قام به العديد من المستشرقين، (الذين درسوا التاريخ العربي، ولم يفارقوا أبدا مستوى النقد التجريدي، فكانوا نقاد لغة، وحفاظ روابد أكثر بكثير مما كانوا مؤرخين حقيقيين... فنتج عن ذلك أنهم حصروا التاريخ العربي وضيقوا مجاله) (ص:125)؛ بل إن الكثير من المستشرقين لا يصفون الواقع العربي لذاته، بل لغرض آخر، ويؤاخذون العرب على تأخرهم، ولا ينتبهون إلى أن الغرب استغرق وقتا طويلا، قبل أن يتقدم، يقول الأستاذ العروي: (يتساءل أولئك المستشرقون: لماذا يلزم العرب كل هذا الوقت لكي يتصالحوا مع العصر؟، وكان الأولى أن يطرحوا على أنفسهم السؤال التالي: كيف تمت نفس المصالحة في الغرب؟، كم من حروب وثورات، من حالات انتحار وفشل وضياع، قبل أن يصل الغرب إلى ما ينعم به اليوم من توازن وتكافؤ؟) (ص: 149)، ليخلص الكاتب إلى ما يلي: (جميع تصوراتنا للتاريخ هي حاليا أدلوجية تبريرية... في انتظار يوم يستطيع فيه وعي العرب، بعد أن يكون قد غدا تاريخيا وانتقاديا، أن يتعرف على ذاته في قلب التاريخ الكوني، فيصبح قادرا على توظيف استنتاجاته وطرائقه، حينئذ، وحينئذ فقط، يمكن إنقاذ ما يوجد من شيء ذي قيمة في كتابات العرب السجالية التبريرية، وفي الدراسات الاستشراقية النقدية) (ص:137_138).
وإذا أردنا بعض التفصيل والتمثيل في مقاربة المجتمعات العربية، استنادا إلى بعض المفاهيم التي يناقشها الأستاذ العروي، كمفهوم الطبقة وغيرها، فالواضح أن الأمر يتعلق (بمجتمعات مقفلة، تعاكس بعضها البعض، لا أمام طبقات بالمعنى العصري... فهناك أولا الهيئة المخزنية أو الحكومة أو الدولة بالمعنى الخلدوني.. وهناك ثانيا الطبقة الأندلسية.. وهناك ثالثا البرجوازية الصغيرة المحلية.. وهناك أخيرا العالم ألفلاحي..)(ص: 161_162_163). ويشير الأستاذ العروي إلى أن مفهوم الطبقة، في دراسة مثل هذا الوضع، لا يفيد؛ ذلك أن (مفهوم الطبقة المتداول بين علماء الاجتماع يوحي بتعاضد العناصر التي تكون في ترتيب معين المجتمع، في حين أننا نطبقه على وضع تتخارج أجزاؤه مخارجة تامة) (ص:163)، بحيث يكون لكل هيئة هدفها الآني، و(كلما نشب نزاع بين الهيئات كان هدف كل هيئة آنيا تكتيكيا، وحتى في حالة مدافعة الأجنبي فإن كل فئة تحاربه على حدة) (ص:164)، وهذا هو الفرق بين وضعانية الغرب ووضعانية العرب، يقول الأستاذ العروي: (ينطلق الغربي من مجتمع متبلور سبق أن درسه حسب طرق معينة وتوصل بها إلى نتائج محددة... أما العربي فإنه يباشر مجتمعا في حالة كسر وجبر ملزم... ما يهم الغربي هو المسعى دون النتيجة لأن هذه نافلة بالنسبة إليه... في حين أن هم العربي قبل كل شيء هو النتيجة، أي التوصل إلى مستوى الغير) (ص:168)، وحين يستخدم المفكر العربي الماركسية، (فلأغراضه السجالية) (ص:169). لذلك، قد يصح أن (الماركسية هي الأساس المنطقي للإيديولوجيا العربية المعاصرة، بمعنى أنها تمثل التنظيم الفكري الوحيد الذي تتآلف فيه جميع فرضيات تلك الإيديولوجيا على اختلاف مذاهبها، قد يصح هذا؛ لكن بشرط أن نحدد بالضبط نوع الماركسية التي تستطيع أن تقوم بالدور المذكور) (ص:176_177).
ويرى الأستاذ العروي أن العرب ينجذبون إلى الماركسية لا في حقيقتها، بل لكونها عصارة الفكر الغربي، يقول: (الماركسية عصارة تاريخ الغرب ولباب ثقافته، كيف لا ينجذب إليها تلقائيا الفكر العربي، لا ليتولاها بل ليوظفها لأغراضه) (ص:185)، وحتى الخبراء الغربيون (لدى تعاملهم مع بلادنا، لا يبرحون أبدا مستوى التحليل الماركسي المبسط) (ص:180)، لاعتقادهم علاقتها بواقعنا، ما يعني أن الأمر يتعلق بماركسية غير واعية، يقول الأستاذ العروي: (ما يضر حقا المجتمع العربي هو أن تكون موجودة (الماركسية) فاعلة وغير واعية، وما قد ينفعه هو أن تظهر إلى السطح لتفهم ذاتها وبالتالي لتدرك مدى دورها وحدودها... ومتى ما تحقق هذا الكشف أمكننا أن نفكر بجد وحسن نية في طرق تجاوز هذه الماركسية المقنعة والمبسطة) (ص: 187).
ويبدو أن هذه الملاحظة تخص الأحزاب الماركسية أساسا، يقول الأستاذ العروي: (لا تعود إخفاقات الأحزاب الماركسية إلى نقص في تحليل الواقع، بل تعود إلى نقص في الواقع نفسه، أي إلى كون المجتمع العربي لم يستوعب بعد كليا فوائد التجربتين اليلبرالية والتقنوية) (ص: 188). والنتيجة مما تقدم، يقول الأستاذ العروي، هي: (استبعاد كل معرفة موضوعية للمجتمع العربي، إن عرب اليوم ينتظرون بفارغ الصبر المستقبل... يحتقرون الحاضر الذي يعيشونه إلى حد أنهم لا يرونه جديرا بالدراسة... لذا، يرفضون معا الوضعانية والماركسية بصفتهما منهجين منفتحين على غير المعلوم ) (ص: 189)، قد يكون الحل في الجدل، يقول الأستاذ العروي: (إن الجدل (الديالكتيك)، والجدل وحده، قادر على أن يبرر ويتجاوز في آن التعارض القائم باستمرار بين الدعوة إلى التقنية والتطلع إلى الأصالة. وإذا ما تبنته الدولة القومية صراحة فإنها تستطيع بذلك أن تضع حدا لما ينتابها من ثنائية ضارة في مجالي الفعل والفهم ) (ص: 190)، لكن مشكلة الجدل عندنا أنه يوجد (في ثوب التصوف) (ص: 197)، ما يعني، يقول الأستاذ العروي: (أن الجدل، بصفته منطق الوعي العربي، وطريق تجاوز تناقضاته، ما يزال إلى حد الساعة أمرا واردا فقط، قد يتحقق وقد لا يتحقق، وأنه، قبل أن يتجلى في شكل مطابق (معقول)، سيظهر لا محالة ولمدة طويلة في شكل تطلع روحي) (ص:198)، لكن، وفي جميع الأحوال، يقول الأستاذ العروي سيكون (بوسعنا أن ننقذ على الأقل بذور الجدل المتناثرة هنا وهناك بيننا، إننا في هذه الحال، سنشتري بدون شك صفاء الفكر بتعثر في العمل، وهذا أمر طبيعي ومنتظر، إلا أن الغبن لن يعمر، إذ سنتعلم، طال الزمان أم قصر، بفضل التكامل الذي افترضناه منذ البداية بين كافة البلاد العربية، كيف نزاوج الصدق في التصور مع الدقة في الإنجاز) (ص:198_199) . وحتى تكتمل الصورة، التي يتغياها هذا الكتاب، كان لا بد من طرح الأسئلة نفسها على مجال التعبير الفني، يقول الأستاذ العروي: (سنعيد على مستوى التعبير الفني، نفس التساؤل الذي طرحناه في الفصول السابقة على مستوى تعريف الذات، ثم تمثل الماضي... سنتساءل هذه المرة عن مدى صلاحية الأشكال الأدبية المستوحاة من الغرب للتعبير عن تجربتنا الوجدانية) (ص:207_208 )، بالنسبة إلى الأستاذ العروي: (العرب يحلمون دائما باستدراك ما ضاع منهم، ومجال الاستدراك هو الفن، الأدب بخاصة، أكثر مما هو الفكر المجرد) (ص: 208).
ويتساءل الكاتب عن قيمة التعبير الذي يترك الواقع على حاله، ما يعني أن علينا أن نميز بين التعبير الفني وبين الفولكلور، يقول الأستاذ العروي: (أي نفع في التعبير إن هو ترك الواقع على حاله، ناقصا غير مكتمل ولا محتمل؟ من هذه النقطة البالغة الأهمية ندرك إلى أي حد يجب أن نميز، في مجالنا الثقافي، بين التعبير الفني وبين الفولكلور) (ص: 208)، وبالنسبة إلى الأستاذ العروي الفرق واضح بين الاثنين، يقول: (كل عمل فولكلوري، أكان موسيقيا أو تشكيليا أو أدبيا، إنما يرث عن المجتمع الذي يظهر فيه صفة التخلف ... أما العمل التعبيري فهو بالعكس يهدف إلى جبر النقص من خلال التعبير ذاته، أي بشحذ الوعي الفردي والجماعي) (ص:208)، ويقدم الأستاذ العروي المثال بما حدث (يحدث) في مراكش، يقول: (كانت مدينة مراكش التي يعتبرها سياح العالم بمثابة متحف مفتوح، موضوع اشمئزاز عند الوطنيين الشبان. كانوا لا يفتؤون يهاجمون ما يرونه فيها من مظاهر التخلف والانحطاط، تلك التي كان يود قادة الاستعمار أن يروها لاصقة على الدوام بوجه المغرب) (ص:209). ويشير الأستاذ العروي إلى أن هذا الفلكلور (لا يمثل ثقافة أصيلة تواجه ثقافة دخيلة... بل الفلكلور هو جزء لا يتجزأ من تلك الثقافة الدخيلة) (ص:209)، ويقدم المثال بما قام به بول بولز في طنجة (ص:210)، وبالمسرح الفكاهي الذي لا يعتبر في رأيه مسرحا وطنيا، يقول: (ولنفس السبب لا يمكن اعتبار المسرح الفكاهي، الكثير الرواج حاليا (أو آنذاك) في شمال إفريقيا، بمثابة مسرح وطني. إنه فولكلوري في جوهره. ولذلك، لن يصمد طويلا إزاء تطورات المجتمع... وعندما يعم نمط العيش البورجوازي، ذاك الذي تجهد الدولة القومية لفرضه بالقوة على الجميع، ستختفي كل أسباب نجاح ذلك المسرح الفكاهي.. سيتحول إلى مهزلة حزينة) (ص: 212).
ويخلص الأستاذ العروي، بلغة لا تخلو من صرامة، إلى أن ( كل عمل، مكتوب أو غير مكتوب، كثير أو قليل التجهيز والإعداد، إذا ما قنع بأن يمثل ثقافة خصوصية، مقابل ثقافة كونية، أن يلعب دور رجل الطبيعة الساذج، المتكل على الإحساس والحدس، مقابل رجل الروية والتفكير والتصنع، فإنه يلحق حتما بمجال الفولكلور، ويشارك في وضعه المتدني، أعلى ما يطمح إليه في هذه الحال هو أن يزود البشرية بشهادة فجة ) (ص: 212).
يتساءل الأستاذ العروي: (لماذا إذن هذا التعلق بالفلكلور والعمل على إعطائه قيمة فوق ما يستحق؟ لماذا رفض التمييز بين ما هو فني حقا وما هو فولكلوري؟) (ص:213)، ليجيب (أن الوازع الأقوى، على ما يظهر ذو طابع سياسي، إن الطبقة المثقفة المنحدرة من البورجوازية الصغيرة، والتي توجه السياسة الثقافية داخل الدولة القومية، تود التخلص من المدلول الطبقي الغالب على الإنتاج الأدبي المكتوب، فتدافع عن واقعية المحتوى، لكنها تشعر في نفس الوقت،.. أن المدلول الطبقي مرتبط بكيفية ما بالأشكال التعبيرية... فلا مناص حينئذ، للتخلص فعلا من المدلول الطبقي، من بخس قيمة الأدب المكتوب وتضخيم قيمة كل ما يمت إلى الفولكلور بصلة) (ص: 213).
ويخلص الأستاذ العروي بصيغة لا تخلو من قوة: ( إن كل عمل يتحاشى طرح قضية التعبير بصرامة ووضوح، ولا يحرص على استدراك تأخرنا المجتمعي بواسطة العبارة، يبقى مشوبا بنقيصة جوهرية. إنه يستثمر في الواقع تأخرنا التاريخي ليخاطب اولئك الذين هم في مقدمة التاريخ، وبالتالي يستطيعون وحدهم تبريره، تقييمه والاستمتاع به) (ص:214_215). ولا يكتفي الأستاذ العروي بمناقشة الحمولة الثقافية للتعبير الأدبي، بل يتوقف أيضا مع بعض أشكال هذا التعبير الأدبي، وما الذي تعنيه، ويعرض لمثالين، مسرح توفيق الحكيم، وشوقي، ليؤكد أنهما: (لم يكن في وسعهما استخدام المسرح كسلاح. لم يتهم أي منهما أرباب الحكم: الأرستقراطية، أو البورجوازية، أو الغرب الدخيل. لم يبرحا مناجاة النفس... فلم يستجب لهما النجاح) (ص:238)، ثم يتوقف عند شكل الرواية، ليسجل أن النقاد الجامعيين تعرضوا: (بإسهاب لقضايا تقنية خالصة، تخص البطل والحبكة والسرد والحوار، وعلاقات هذه العناصر كلها ببنية المجتمع. أما كان أجدى للجميع أن يتعرضوا لقضية واحدة، هي أم القضايا: هل يوجد بالفعل في مجتمعنا العربي موضوع روائي، (لا نقول قصصي)؟ ) (ص: 239)، وينتهي إلى أن (المدينة الكبيرة هي مجال المطولات الروائية، لأنها تجمع في حيز محدود، المركز والآفاق، الإنسان وسوابقه، الخلق المكتمل وتخطيطاته الأولية... إن المجال الذي يستحق أن يكون ركيزة الرواية عندنا، غير موجود داخل حدودنا، إذ لا نملك سوى الضواحي. فهل يحق لنا رغم هذا أن نوظف شكلا صالحا للمركز لنصف به الضاحية؟ هذا هو لب المسألة) (ص:240_241).
ويلح الأستاذ العروي على العلاقة بين وجود فن الرواية، ووجود طبقة بورجوازية، وعدم توفرنا على هذا الشرط (آنذاك ربما)، وذلك لأن: (الطبقة البورجوازية عندنا ولدت دفعة واحدة، بصفتها وارثة عالم الأجانب المغلق، أكان الأجانب أتراكا أوفرنسيين. وهذه النقلة المباغتة لا تحمل في ذاتها عنصر الروائية المبني أصلا على التطور البطيء) (ص: 242)، ومن ثم (فالرواية العربية تصف ضرورة الأطراف بواسطة شكل سردي أبدع أصلا لوصف المركز، لذا نراها تميل ميلا إلى التجريد والتقرير والتصنع ) (ص:242). ويقدم الأستاذ العروي روايات نجيب محفوظ كمثال،: (من القاهرة الجديدة إلى الثلاثية نتعرف على نفس الشخصيات، نجد نفس العقدة، نقرأ نفس الحوار تقريبا) (ص: 243)، ويرى أن أعمال محفوظ هي أقرب إلى الأقصوصة منها إلى الرواية، وفي رأيه أن: (الأقصوصة هي الشكل الأدبي المطابق لمجتمعنا، المفتت، المحروم من أي وعي جماعي) (ص: 243). وينبه الأستاذ العروي إلى أهمية الوعي بما تحمله التقنيات السردية من معنى، وأثر ذلك على الكتابة الأدبية، ويقول: (كل كاتب يستوحي تقنية معينة إلا ويتشبع بالفلسفة المرتبطة بها أصلا، رضي بذلك أم أباه، وعى به أم غفل عنه. بل بقدر ما يتضح وعيه بهذا التلازم _بين السرد والفلسفة_ بقدر ما تكثر حظوظه في تحقيق ما يرمي إليه من توازن في عمله وما يأمله من نجاح تجربته الفنية. إذا لم يقم الكاتب بنقد مسبق لهذا الشكل من فنون التعبير الأدبي، فإنه لا يستطيع أن يعثر في مجتمعه على المضمون المطابق له، وبالتالي لا يتحكم في المغزى الضمني لعمله الوصفي) (ص:244_245)، ويقدم مثالا بهمنغواي وتأمله لتقنيات فلوبير وتشيخوف، الشيء الذي لا نجده عند القصاصين العرب: (الذين يعتقدون بكل بساطة أن كتابة القصة القصيرة مجرد تمرين واستعداد لكتابة الرواية. وهي فكرة ساذجة يرسخها فيهم النقاد الجامعيون) (ص: 245)، من هذا المنظور: (لا يرى _الروائي العربي _ بأسا من تقليد، وربما ترجمة، كبار القصاصين العالميين بدون انتقاء صحيح وبدون وعي بالأصول التاريخية والاجتماعية لهذا العمل أو ذاك ) (ص: 246)، والنتيجة أن الأدباء العرب (وبسبب رفضهم العنيد لمناقشة الظروف التاريخية والاجتماعية التي أحاطت بنشأة واستواء تلك الأشكال التعبيرية في بلدان معينة، فإنهم أخطأوا الهدف ولم يطرحوا مسألة التجديد والإبداع في إطارها الصحيح ) (ص: 247).
في نهاية هذا الكتاب، وعلى سبيل الختم، يعيد الأستاذ العروي، وبكثير من التكثيف والتركيز، التذكير بالخلاصات الرئيسة التي انتهى إليها، مميزا بين ما يمكن أن يكون القارئ قد استساغه وهو: (مفهوم الأصالة في علاقته بالأنا كنتيجة تطور وتراكم _ معنى الاستمرارية التاريخية ومتى تتحقق _ الوحدة الذهنية بين البشر وشروطها _ التعبير الأدبي الحق وعلاقته بنقد فنون القول الموروثة) (ص:251)، وبين ما يكون قد اعترض عليه من موضوعات، تناقض ما ترسخ لديه من معتقدات، وعلاقتها بالبنية الاجتماعية. ويقترح الأستاذ العروي (نهج طريق ماركس، والبدء بدراسة الأدلوجة، أو الدعوة، واكتشاف ما تحمل في طياتها من إيماءات لبنية اجتماعية، ليست يقينا البنية الراهنة في المجتمع العربي) (ص: 252)، وذلك لأن (الأدلوجة العربية هي في آن، بالنسبة للعمل، متقدمة، بما أنها تمد العمل بنمط جاهز للتطبيق، ومتأخرة، بما أنها تلجأ في الغالب إلى نمط قد تجاوزه الغرب أو هو على أهبة تجاوزه، فهي، في اصطلاحنا، متقدمة واقعيا، متأخرة موضوعيا ) (ص: 253). والمفروض الآن، يقول الأستاذ العروي، (أن عهد التمويه. وإن كان لغرض نبيل، قد ولى . أصبح من الضروري أن لا يكتفي الفكر العربي بتعقب ما أنجزه الغير، بل عليه أن يستبقه لكي يخرج من نطاق الأدلوجة، ويطرق حيز الفكر الحديث المطابق للواقع) (ص:253_254).
وبالجملة، فحاجة العرب ماسة إلى امتلاك وعي نقدي، ليلتحقوا بالغرب حيث هو، يؤكد الأستاذ العروي: (فإذا أصبح العقل العربي نقديا بالفعل، وتوصل عندئذ إلى نظرة إنسانية شمولية، سيوافي الغرب حيث يراوح هذا الأخير خطواته منذ القرن الماضي، فيمكن لأول مرة أن يتعرف العقلان الواحد على الآخر، ويدشنان عهد حوار حقيقي. آنذاك، يمكن استدراك الوقت الضائع، وإتمام ما لم ينجز من تطعيم الوضعانية، وجعل الماركسية جدلية فعلا، وباختصار تأسيس أنثروبولوجيا حقة) (ص:255).
غايتي من هذه القراءة هي القراءة نفسها، هي إعادة الإنصات، وبنفس هادئ ومتجدد، إلى ما قاله ويقوله المفكر والمؤرخ الكبير عبد الله العروي، وعلاقة ذلك كله بنا وبواقعنا اليوم، الواقع الثقافي والسياسي معا، وفي النهاية إعادة طرح السؤال الذي يسكن هذا الكتاب: هل يتمكن العرب اليوم، بالفعل، من امتلاك وعي نقدي أو وعي تاريخي؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.