مثلما أن السياسة لا تعترف بالأخلاق، كما يقال عادة، فإن الإشهار لا أخلاق له أيضا. ذلك أن مقدماته الفكرية وآليات اشتغاله وتأثيره في المتلقي المستهلك، لا تعترف سوى بمنطق السوق وضرورة الربح والبيع عن طريق تسويق المنتوج السلعة الخدمة ودفع المستهلك إلى شراءها وطلبها. "" إن منطلق الليبرالية المتوحشة هو اعتبار العالم وطنا كبيرا لها، فأينما ولت وجهها، فثمة مستهلكون محتملون يجب إثارة انتباههم، ثم إثارة اهتمامهم، و بالتالي دفعهم إلى الشراء أو طلب الخدمة، وهكذا. ومن أجل بلوغ هذه الغاية، يستغل الخطاب الإشهاري طبيعة تفكير المستهلك وثقافته وأوتاره الحساسة وصورته عن نفسه ووضعه وأحلامه وآلامه... فكل هذا وغيره بمثابة ذخيرة حية يمكن توظيفها في بناء الرسائل الإشهارية، ولا يهم إن كانت حداثية أو أصولية أو ليبرالية أو اشتراكية... أو حتى شيطانية. الإشهار لا وطن له ذلك أن منطق الخطاب الإشهاري لا هوية له ولا وطن له ولا طبقة له إلا هوية المال وتحقيق الربح ورفع معدلات الإنتاج واكتساح الأسواق.. ولا غرابة أن ترى إشهارا "مغربيا"مثبتا في شوارع الأحياء الراقية مختلفا تماما عن إشهار نفس السلعة في وسط المدن وأحيائها الفقيرة، أو على شاشة التلفزيون. و في هذه الحالة، لا تفيد طبقية الإشهار الانطلاق من رؤية طبقية للمجتمع، أي "وجود" اختيار سياسي يتم إعماله إشهاريا، وإنما الالتواء على واقع حال المتلقي في أي زمان ومكان. فالرسالة الإشهارية الموجهة لسكان عين الذئاب أو حي الرياض ( من خلال اللوحات الاشهارية) ليست هي الموجهة لسكان احياء درب السلطان أوالعكاري أو تابريكت . هكذا نكون أمام تراتبية إشهارية تحترم التراتبية الاجتماعية وتكرسها، إذ لا يهم الإشهار أن تتقارب الطبقات أو أن يتقارب مستوى العيش، وإنما يهمه الانقضاض على واقع حال كل فئة واستغلاله إلى أقصى حد قصد إقناعها بأن تَهُبَّ إلى شراء السلعة المعروضة. من ثمة، يكون الخطاب الإشهاري خطابا مهادنا مساندا لواقع الحال. إنه يشبه المنشار الذي يأتي على الخشب صعودا ونزولا. إنه الرابح الأول والأخير سواء في واقع الفقر و الحاجة أو واقع الغنى و الترف؛ في واقع "حداثي" ديموقراطي" أو واقع " أصولي محافظ". الإشهار لا قيم له و لعل اسطع مثال على ذلك هو طرق حضور المرأة في الإشهار.أضحت صورة المرأة في الإشهار وبرامج التربية والتعليم من الموضوعات التي تشتغل عليها الجمعيات النسائية والإعلامية، وتنتبه إليها مختلف القنوات التلفزيونية . ولا شك أن الطابع الإشكالي لهذا الموضوع لا ينحصر داخل مجتمعاتنا العربية الإسلامية الموسومة (عن حق وعن باطل معا) بوضعية المرأة المزرية وتبعيتها التامة للرجل، وإنما يمتد ليشمل الشرط الإنساني ، وشروط تكون مفهوم المرأة ومفهوم الرجل في تاريخ الإنسانية.وهذا ما يجد انعكاسه الواضح في تاريخ المرأة الغربية الحديث والمعاصر حيث إنها انتزعت حقوقها على مراحل طويلة، بل وتأخرت في بعضها عن دول إسلامية أو ثالثية يشار إليها بالتخلف واضطهاد المرأة وغيرها من الأوصاف . إن أوراق اللعب الجديدة التي وزعها سدنة العولمة وحراس السوق وعبدة رأس المال لم تعد تفرق بين امرأة وأخرى، شرقية كانت أو غربية. فكل الطرق تؤدي إلى جيب المستهلك واكتساح الأسواق وخلق الحاجات الضرورية أو الوهمية عند الناس ليهبوا عن بكرة أبيهم للانتفاع بالخدمات المقدمة لهم. هكذا، تصير المرأة أداة مادية وسلعة تخدم سلعا شتى، حتى إننا نراها مجرد دمية جميلة ضاحكة منسقة الأعضاء من رأسها إلى قدميها، أو نراها تضطلع بوظيفتها التاريخية في بيت الزوجية حيث تعمل بهمة وجدية في انتظار عودة الزوج المزهو بقميصه الأبيض الذي نظفته له بمسحوق عجيب! لقد تحالفت العولمة مع الرواسب والشروط التاريخية من أجل محاصرة المرأة وتأبيد وضعها كأنثى تختلف "بديهيا" عن الرجل، وتصنف في أسفل قوائمه الذكورية.و هذا ما يوضح بالملموس أن الإشهار يقدس قيمة المال و الربح و يعيد إنتاج القيم الجاري بها العمل في كل مجتمع. بناء ذاكرة العدم من أجل ضمان ترويج المنتوجات والخدمات، يمكن لمصممي ومنتجي الوصلات الإشهارية أن يبيعوا جميع القيم والمبادئ دون أن يخافوا لومة لائم أو يستحوا حتى من أنفسهم! فقد انقض رأس المال على كل شيء بما فيه ذلك ذاكرة الإنسان وقيمه ولحظاته الخالدة التي توج فيها حضوره ومارس فيها اختياره وخط مصيره. و كمثال صارخ على ذلك، أتذكر الاستماع لوصلة إشهارية في إحدى الإذاعات(قبل حوالي سنتين تقريبا) حيث جاءت في شكل سؤال وجواب. يعبر المجيب عن جهله بمكان انعقاد مؤتمر أنفا وعدد المشاركين في المسيرة الخضراء، لكنه يحفظ عن ظهر قلب الجواب المتعلق بالمنتوج الخدمة. هكذا، بجرة قلم، وبكل الوقاحة التجارية الرخيصة، يقال لنا: لا يهمكم تاريخ العالم ولا تاريخ بلدكم، ما يهمكم هو ضمان مستقبلكم وتأمين حياتكم ومماتكم، امحوا ذاكرتكم الجماعية والإنسانية وقدسوا أنفسكم كأفراد وابحثوا عن ضمان لعيشكم، وبعدكم فليأت الطوفان. إن السياق الوطني والعالمي الذي يمكن أن تقرأ فيه دلالات هذه الوصلة الإشهارية هو سياق العولمة وسلطان الإمبريالية التي نصبت السوق قانونا كونيا يفوق في حجيته جميع القيم والمبادئ الإنسانية. فهي لا تعترف بالتاريخ أو الجغرافيا أو الذاكرة أو المعنى.. وإنما تبني ذاكرتها الفارغة من أجل صناعة إنسان القرن الواحد والعشرين... ذلك الإنسان الذي سيكون ملائما لمنطقها، خادما لأعتابها التجارية والمالية، مطيعا لأوامرها الإشهارية ما ظهر منها وما بطن. هكذا تكون سياسة الإشهار المعولم هي "التبول" الإرادي على كل من وما من شأنه أن يقف في طريق تحقيق الأهداف المنشودة (مع الاعتذار عن الكلمة بين مزدوجتين التي تلخص حقيقة ما يحدث من دون استحياء أو خجل) والعمل بثبات وإصرار على تشييد ذاكرة الخراب والعدم، و ترسيخ الوهم الذي تزينه "الوصلات" الخبيثة الكافرة بقيم الشعوب و المتلاعبة بتاريخ البشرية جمعاء.