الحلقة الرابعة توارد أم تجاوب؟ في الحلقة الثالثة: "في خاطري مغرب.. يتوضأ قضاته بالعِفة" سعيت إلى حمل قضاتنا على رداء العفة، تسبق البُردة الرسمية السوداء المعروفة لهم؛ ليكونوا فعلا في مستوى ما يحوزونه من مُلك -وليس من أساسه فقط — مهيمنٍ على أحكامهم، كما فصلت. وجدت صدى هذا السعي في الخطاب الملكي العرشي والسامي؛ وسواء كان الأمر تواردا وتصاديا فقط، أو تجاوبا، فالعلة واحدة: شيء ما يخالط بعضا من جسم القضاء، وليس كله. هم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأحكامهم. وبمفهوم المخالفة الأصولي، لن نجد ما يقابل الجدية الواردة، مكررة بحدة، في المتن الملكي سوى ألفاظ: السَّفه، الخِفة، الهزل.. وفي قاموس المعاني: – جِدّيّة: اسم، مصدر صناعيّ من جِدّ: رصانة، رزانة تدلُّ على الحالة النفسيَّة والبدنيَّة للإنسان. – جِدّيّ: اسم منسوب إلى جِد وقور، رصين الأمر جدِّيّ: حقيقي غير هزلي جاد، وجيه، خبير بالأمور ذو شخصيّة جادّة مميَّزة رَجُل. جدِّي: أما صاحب ديوان الحماسة -أبو تمام- فلم يجد ما يقابل به الجد غير اللعب: السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب وعليه فحينما يختار النطق الملكي لفظ الجدية؛ يطالب بها المؤسسات الإدارية، القضاء، والأحزاب السياسية؛ فهو يفضل السكوت عن نواقضه التفصيلية؛ تأدبا ملكيا منه. ولورود لفظ الجدية، وفي خطاب العرش، مكررا عدة مرات؛ فقد ارتقى إلى أن يكون عنوانا عريضا للخطاب كله. وخطب العرش، بطبيعتها وزمنها، خطب استراتيجية، تُحدد الرؤى الملكية والمعالم الكبرى، الهادية والمسيجة للأداء الحكومي والتشريعي، والتأطيري للأحزاب السياسية. من خطاب الجدية إلى نهج الجدية: أَن تقرر أن تكون جادا، لا يعني أن هذا سيحصل فعلا منك؛ بين شهيق وزفير. حروف الجدية معمار متكامل، يبنى لبنة لبنة. هي ليست حالة عرضية، كأن تقرر الصوم غدا، مثلا. إذا خالط الهزل تنشئتك الاجتماعية، المدرسية، والأسرية، وحتى الوظيفية، فلن يسهل عليك حزم أمرك، وشد رحالك، في مسالك الصرامة والرزانة والحصافة. والهزل هنا ليس بمعنى المزاح وخفة الدم، مِلح العلاقات كلها؛ وإنما بمعنى الطيش واللامبالاة والاستخفاف بكل شيء. ونظرا لعسر التحول السريع، يجمل بنا أن نتحدث عن نهج/منهاج متكامل للجدية، يشتغل في اتجاه التنزيل الأمثل للاستراتيجية الملكية؛ على المدى القريب، المتوسط، والبعيد. ولضيق الحيز سيتم التركيز على المدى القريب؛ أي كيف نجني الثمار العالقة في أشجارنا، هنا والآن؟ أما التفكير في ما سيغرس من أشجار، وكيف، فهذا يتطلب روية وتفكيرا مستقبليا حصيفا. 1- ربط المسؤولية بالمحاسبة: بقدر ما سما هذا الربط وارتقى إلى الدستورية، بقدرهما توالت أوضاع وحالات مؤسسية انحط فيها هذا المبدأ/القاعدة، وديس بالأقدام. عبث العابثون بقراراتهم، واشتطت أحكام العدالة، وتدافع السياسيون، وأولو الثراء، بوحشية شرهة؛ ولا أحد استل هذا السيف العلوي (نسبة للإمام علي) ليقطع به دوابر الفساد أنى لاحت. وبدت قليلة وخجولة لحظات المحاسبة الحقيقية، التي تؤكد أن القاعدة شغالة، حينما يراد لها ذلك. وهذا خطير طبعا لأن اشتغالها يجب أن يكون ذاتيا وآليا ومستقلا عن العواطف والولاءات والإخوانيات. وهذا طبعا من عزم الأمور. إن أخطر الفساد وأهولَه ما يقع من مسؤولين كبار، في رتب من الدولة حساسةٍ؛ لكن حينما نقف على لوائح الأحكام، وحتى السجون، نجدهم قلة القلة ضمنها. وهذا لا يلد الجد ولا يكرسه. 2- اختيار المسؤول المتوقع منه الصلاح "المدني": حينما يُحاسَب مسؤول ويدان قضائيا؛ فإن إدانته تتضمن إدانة من اختاره واقترحه للمسؤولية؛ سواء ما يدخل منها في اختصاص الملك، أو رئيس الحكومة، أو الوزراء. إن للفساد -كما الصلاح- جينيالوجيا، ولو متخفية يجب أن تخضع للفحص المجهري؛ صيانة للمسؤوليات من العبث. (استحضروا هنا من رفع رايات الفساد جهارا نهارا، على مدى عقدين من الزمن؛ ورغم هذا اختاره أغلب نواب الأمة رئيسا للجنة العدل والتشريع). هذا هزل يُرى من القمر، ولا يحتاج إلى مجهر. أي عبث مؤسسي أكثر من هذا؟ وهل مطلب الجدية فقط يكفي هنا. 3- الكفاءة تجُبّ القرابة: في هذا المغرب الذي في خاطري أتممت السبعين من عمري، وما تناهى إلى علمي، إلا لماما، إعمالٌ لهذه القاعدة التي نحتُّها من الحجب في الميراث. إن الإنسان الكفء ميالٌ بطبعه إلى ظل الوحدة، كاره للنور والبهرجة. ولولا أنه هكذا ما تأتت له الكفاءة التي تبنى بالصبر ووطء الشوك. لكن لوائح المسؤوليات غالبا ما تتحرك ضمن محيط ضيق؛ لا تشرق فيه غير الحزبية والقرابة والولائية.. طبعا الحصيلة معروفة؛ ولا رادع ما دام ربط المسؤولية بالمحاسبة كنمِرٍ في قفص. حتى انتهينا إلى أزواج يعينون في دواوين، وحالة مدنية ترحل عائليا إلى البرلمان "بالحنة والزواق". هكذا ينحرف القطار عن السكة، ويواصل انحرافه لاهثا في البراري، كتلة حديد وجبلا من غبار. ومثال جدية الفريق الوطني، الذي اختاره جلالة الملك، يصلح إثباتا للكفاءة التي تجب القرابة: لو بحث الركراكي، وهو يشكل "حكومته الكروية"، عن سيدي وللا، لما جرى ما جرى؛ حتى أدركنا مصاف الفرق الراقية. لقد عَجم رُكب لاعبيه واختبر صبرهم وذكاءهم؛ مهما تكن أسماؤهم وأوساطهم. وقد رأينا جميعا أسرهم الشعبية، تلج القصر الملكي منبهرة، وما مر بها ولو حُلما بأن كل هذا سيحصل. وما حلمنا بدورنا بأننا ستفيض بنا الشوارع ابتهاجا بنصر كروي. فعلى نهج الركراكي يجب أن تُعجم العيدان ويختار منا، ليس الصلب الذي يكسر، ولا الليِّن الذي يعصر؛ وإنما من كان بين ذلك قواما. هذا على المدى السريع والقريب؛ ويحتاج طبعا إلى انطلاقة رجاجة، تُعضد الترسانة القانونية، الواجبة الإعمال تلقائيا وآليا. وإلى حلقة أخرى من مغرب في خاطري.