قال الأستاذ الجامعي إلياس بلكا إن "معهد العمرية للتجديد أصدر في 6 يونيو الجاري مشروعا مقترحا مكمّلا لمدونة الأسرة المغربية، وبديلا عن بعض موادّها"، موضحا أن المشروع يهدف إلى "تجاوز بعض المشكلات العملية التي عانت وتعاني منها المدونات العربية المتعاقبة أثناء تنزيل بعض موادّها على أرض الواقع"، و"حلّ بعض المشكلات المعاصرة في مجال الأسرة والأحوال الشخصية". وتناول بلكا، في مقال له، مضامين مشروع المدونة الجديدة للأسرة، من خلال التفصيل في أربعة محاور كبرى تحت عناوين: "المدونة المقترحة بين المحلّية والعالمية"، "خصائص المدونة المقترحة"، "من وجوه التجديد والتغيير في المدونة المقترحة"، "الآراء الفقهية الثلاثة.. أهم ما جاء به المشروع". وهذا نص المقال: أصدر معهد العمرية للتجديد يوم الثلاثاء 17 ذي القعدة 1444ه الموافق ل 6 يونيو 2023م، مشروعا مقترحا مكمّلا لمدونة الأسرة المغربية، وبديلا عن بعض موادّها. وقد قدّمته للدول الإسلامية في العالم. وذلك لتجاوز بعض المشكلات العملية التي عانت وتعاني منها المدونات العربية المتعاقبة أثناء تنزيل بعض موادّها على أرض الواقع. ويجيء المشروع أيضا لحلّ بعض المشكلات المعاصرة في مجال الأسرة والأحوال الشخصية. ويوجد المشروع بموقع المعهد على الأنترنت، وهو أُولى منشوراته. وقد اشتغل المشروع على مدونة الأسرة المغربية الصادرة بقانون 70.03، في 5 فبراير 2004، التي وقع تحيينها بمراسيم في 29 يوليوز 2021. أولا: المدونة المقترحة بين المحلّية والعالمية ولمّا كانت ديباجة المدونة تحتوي أساسا على خطبة مولانا السلطان في افتتاح البرلمان المغربي بأكتوبر 2003، فقد ارتأى المشروع اختصار الديباجة وجعلها مناسبة للجمهور المستهدَف، أي عموم المسلمين بالعالم. فجاءت على الشكل الآتي: "نظرا لحاجة الدول الإسلامية إلى مدونة فقهية قانونية تستجيب لضرورات المجتمعات المسلمة المعاصرة، ارتأى "معهد العمرية" أن يتقدّم بمشروع مدونة الأسرة المسلمة، يُتغيَّى منه: إنصاف المرأة، وحماية حقوق الطفل، وصيانة كرامة الرجل؛ برجاء تحقيق العدل والمساواة والتضامن، والاجتهاد المنفتح على روح العصر ومتطلبات التطور، مع مراعاة روح التشريع الإسلامي عند استبدال القوانين المقترحة بالنصوص التقليدية المعتمدة. لقد تم الانطلاق في صياغة مواد هذه المدونة/المشروع من "مدونة الأسرة" المغربية، متجاوزين للخصوصيات المغربية، لجعلها متاحة لجميع الدول الإسلامية، عن طريق الجمع بين المشتركات والتأكيد على السمات العامة التي تنتظم عليها جميع المجتمعات الإسلامية. كما تنبغي الإشارة في هذا المضمار إلى مجاوزة الخصوصيات المذهبية التي طبعت حقبا تاريخية مضت، وإلى الانفتاح مرة أخرى على شمولية التشريع الإسلامي المتضمن لكل المذاهب الإسلامية المعتبرة، مع الزيادة عليها بما لا تتسع له". ثم جاء الباب التمهيدي طويلا نسبيّا ودسما، في 9 مواد، عوض 3 مواد بالمدونة الأصلية. وهي أحكام مهمة لأنها تشرح السياق العام للمدونة المقترحة، وتعلّل بعض خياراتها تعليلا عاما، لذلك فهذا الباب باب أحكام ومقاصد وغايات. مشروع يراعي خصوصيات كل بلد: من ذلك أن القسم السادس في آخر الكتاب الأول بالمدونة (الإجراءات الإدارية والشكلية لإبرام عقد الزواج) جاء في حوالي 3 صفحات، أي المواد: 65 إلى 69. لكن لما كانت هذه الإجراءات تتعلّق بالإدارة المغربية فقد تمّ اختصارها إلى مادة وحيدة في المشروع: 66، مع أن كلّ بلد يستطيع أن يضع المساطر الإدارية والتنظيمات التي تناسبه. وقد حدّدت المدونةُ الأصلُ أهليةَ الزواج في 18 سنة (المادة 19)، لكن المشروع ارتأى أن يقول في مادته 25: "تكتمل أهلية الزواج ببلوغ الفتى والفتاة عند ظهور علاماته منهما، وقد يُتسامح في الالتزام بما يقرّه المجتمع عرفا أو قانونا". فجعل من تحديد العمر مسألة مرنة تختلف جدا باختلاف البيئات، إذ في العالم الإسلامي مجتمعات مختلفة تعيش ظروفا بيئية واجتماعية وجغرافية متنوعة. لذلك نصّ في المادة 201 على أن "سنّ الرشد يُحدد طبقا لأحوال كل بلد". أما المخاوف من تعسّف بعض الأفراد أو المجتمعات في تزويج من كان دون العمر المؤهل، فيمكن معالجتها بجعل هذا الزواج يتمّ تحت إشراف قضائي دقيق. من جهة أخرى، قاعدة مشروع المدونة المقترحة في الآجال أن تُترك لكلّ بلد يحكم فيها بحسب ظروفه الخاصة، كما في المادة 64: "يمكن للمكره أو المدلس عليه (..) أن يطلب فسخ الزواج قبل البناء وبعده خلال أجل متعارف عليه قانونا من يوم زوال الإكراه، ومن تاريخ العلم بالتدليس..."، وهو في الأصل أجلُ شهرين (63). أو في دعوى الشقاق التي نصّت المدونة على أنه لا ينبغي أن يتجاوز الفصل فيها ستة أشهر (97)، بينما أحال المشروع ذلك على كل بلد على حدة. كذلك غيّر المشروع جملة: "يتعين البت في القضايا المتعلقة بالنفقة في أجل أقصاه شهر واحد". (190) إلى: "يتعين البت في القضايا المتعلقة بالنفقة في أجل يُناسب طريقة عيش أهل البلد". (182). وذلك كالبلاد التي يكون معاشها بالأسبوع، أو يكون سنويا (كالمجتمعات الزراعية). ولمّا كان سنّ الرشد مُشكلا كما سبق بيانه، ويختلف باختلاف الظروف، فإن المشروع لم يستحسن صيغة المادة 218: "ينتهي الحجر عن القاصر إذا بلغ سن الرشد (...) إذا بلغ القاصر السادسة عشرة من عمره، جاز له أن يطلب من المحكمة ترشيده". فعوّضها بهذه الصيغة: "إذا قارب القاصر سن الرشد، جاز له أن يطلب من المحكمة ترشيده في ما لا ضرر منه عليه". مع التأكيد على أن تصرف المرشَّد في أمواله يكون "بحسب ما يراه القاضي إما جزئيا أو كليا" (المادة 210 من المشروع). كذلك جاء في المادة 232: "لا يتصرّف الوليّ في أموال المحجور التي تعدّت قيمة المتوسط المعتاد إلا بموافقة القاضي المكلف بشؤون القاصرين". بينما في المدونة المغربية تحديد ذلك في مائتي ألف درهم. (قارن أيضا مادة 272 من الأصل مع 264). ثانيا: خصائص المدونة المقترحة الأدب مع الشارع: وهذه عودة بالفقه إلى أصله باعتباره شريعة للتعبّد لله ربّ العالمين، وهذا البُعد يغيب أحيانا عن الفقه، خاصة حين تغلب عليه صفة التقنين والتنظيم. لذلك جاء في المادة 15: "... إن مات الخاطب، فالأَوْلى عدم استرجاع الورثة لشيء مما أنفقه، مراعاة لهيبة الموت ولفعل الله القاهر فيه". كذلك ترك المشروع المادة 303 كما هي في الأصل (وهي عنده برقم 294): "إذا أجاز الورثة وصية لوارث أو بأكثر من الثلث، بعد موت الموصي أو في مرضه المخوف المتصل بموته، أو استأذنهم فيه فأذنوه، لزم ذلك لمن كان كامل الأهلية منهم". لكنه أضاف في الهامش: "القاعدة في هذا أن تملك الورثة لأنصبتهم حاصل بالتعيين الرباني، وإنما يقع منهم التنازل عما يندرج ضمن أنصبتهم بعد تملكها حكما وإن لم يحصل التملك حقيقة. وهذا، لأن التنازل عن الأنصبة أو جزء منها، لا يكون من باب الاستدراك على الله سبحانه، أو من باب رد حكمه تعالى؛ لأن الأدب مع الله ورسوله أولى من مراعاة رأي الموصي أو الموصى له". إعادة بعض المسائل إلى أصلها الشرعي: ومع أن بعض اختيارات المدونة لها وجه في الاجتهاد، لكنه اجتهاد مرجوح عند اللجنة التي وضعت مقترح المدونة، لذلك حاولتْ تثبيت بعض الأصول الشرعية لهذه القضايا. فمن ذلك: 1-الولاية: إذ نَحتِ المدونة الأصل (المادتان 24-25) منحى المذهب الحنفي بجعل الولاية حقّا مطلقا للمرأة الراشدة، فجاء الاقتراح بضبط مفهوم الولاية وإعادة الاعتبار له بمفهومه الشرعي الإيجابي في المادة 27. 2-لم تجوّز المدونة/المشروع (32) الاتفاق على تأجيل جميع الصداق خلافا للمدونة/الأصل (30). 3-وقد ساير المشروع رأي المدونة الأصل في مسألة تعدّد الزوجات، لكنه راعى حال الزوج أيضا في المادة 42: "يمنع التعدد إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، كما يمنع في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها، ما لم يلحق من ذلك ضرر بالزوج لم يكن متبيَّنا". وذلك بإضافة الجملة الأخيرة. 4-كما أن المشروع صحّح ما يبدو أنه تعسّف في إعطاء صلاحيات للقاضي لا تنبغي له، كما في المادة 42 بالأصل المنظمة لطلب التعدّد: "... يجب أن يتضمن الطلب بيان الأسباب الموضوعية الاستثنائية المبررة له، وأن يكون مرفقا بإقرار عن وضعيته المادية". فأضاف المشروع (44) قيْدا: "إن اشترطت الزوجة الجديدة ذلك". وذلك لأن موضوع الرزق يخصّ الزوجة، وهي التي تقرّر هل ظروف الزوج المالية تناسبها أم لا؟ وإلاّ لماذا يجوز للمرأة أن تتزوج الأعزب المعسر إذا تقدّم لخطبتها؟ 5-وبالمنطق نفسه صاغ المشروع آخر المادة 47: "... فإذا تمسك الزوج بطلب الإذن بالتعدد، ولم توافق الزوجة المراد التزوج عليها، ولم تطلب التطليق، أذنت المحكمة بالتعدد من دون تطليقٍ للزوجة السابقة". بينما هي في الأصل (45): "... طبقت المحكمة تلقائيا مسطرة الشقاق..."، وذلك لأن المفترض أن الزوجة السابقة هي التي ستقرّر إما قبول الأمر الواقع أو لجوؤها إلى مسطرة الشقاق، أي تستفتح قضية جديدة. 6-في الأصل (51-3) ضمن واجبات الزوجين وحقوقهما: "تحمّل الزوجة مع الزوج مسؤولية تسيير ورعاية شؤون البيت والأطفال"؛ غيّرها المشروع إلى: "تشارك الزوجين-بصفة تكاملية-في تسيير ورعاية شؤون البيت والأطفال، مع بقاء وجوب النفقة على الزوج دون الزوجة في الأصل". بما يثبت التكامل والتعاون لا المساواة المطلقة، وبما يقرّر القاعدة الشرعية في إسناد الإنفاق للرجل. 7-في الأصل (78): "الطلاق حل ميثاق الزوجية، يمارسه الزوج والزوجة، كل بحسب شروطه تحت مراقبة القضاء وطبقا لأحكام هذه المدونة". بينما الظاهر من الشرع-والمشهور في الفقه أيضا-أن الطلاق بيد الرجل و"حقّه"، وأن مراقبة القاضي ليستْ شرطا فيه. لذلك جاء في المادة 75 من المشروع: "الطلاق حل ميثاق الزوجية، يمارسه الزوج وتطلبه الزوجة...". 8-اختارت اللجنة (89) موافقة الأئمة الأربعة في أن الطلاق المعلّق على فعل شيء أو تركه بنيّة يقع متى تحقّق الشرط، خلافا للأصل (93). لكنها وافقته في أن الحلف أو القَسَم باليمين أو الحرام لا يقع به طلاق، فهو لاغٍ، وعلّلت ذلك أيضا: "بسبب شيوع الغفلة بين العوام". (87). والفرق أن التعليق يدخل في باب الطلاق، بخلاف الحلف يدخل في باب اليمين، ولكلّ باب خصائصه وفقهه. 9-إضافة جملة (111): "وللقاضي تحديد الزجر المناسب في حق الزوج إذا ثبت تحايله على الشريعة". إلى الأصل (117): "للزوجة استرجاع ما خالعت به، إذا أثبتت أن خلعها كان نتيجة إكراه أو إضرار الزوج بها، وينفذ الطلاق في جميع الأحوال". 10-تعديل جملة في الأصل (121): "في حالة عرض النزاع بين الزوجين على القضاء، وتعذر المساكنة بينهما (...)، للمحكمة أن (...) بما فيها اختيار السكن مع أحد أقاربها، أو أقارب الزوج". وذلك مراعاة للأحكام الشرعية، فأصبحتْ (115): "بما فيها اختيار السكن لها رفقة أحد المحارم ما أمكن". 11-قيّد المقترح مستوى الإنفاق وطبيعته لا بالعادة فقط، بل بالشريعة أيضا حيث بعض البيئات تفرض نفقات لا يوجد لها أصل شرعي، كسفر الترفيه مثلا. لذلك أضافت شرط عدم مصادمة الشريعة: "يراعى في تقدير كل ذلك، التوسط ودخل الملزم بالنفقة، وحال مستحقها، ومستوى الأسعار، والأعراف والعادات السائدة في الوسط الذي تفرض فيه النفقة، ما لم تصادم الشريعة". (189 في الأصل، 183 في المشروع). 12-وقد رأى المشروع أنه ما دامت مصلحة المحضون هي الأساس، فلا تنتقل الحضانة بعد الأم إلى شخص معيّن كما في الأصل (171)، بل "لمن يليها في توفير الشروط اللازمة". (163). وإن كانت هذه المسألة خلافية اجتهادية. الإحالة على علوم وتكنولوجيا العصر في ما تجوز فيه الإحالة: يراعي المشروع العصر وما جاء به من تطوّرات، ففي حالة غيبة الزوج غيّر الأجل من سنة (في الأصل 104) إلى ستة أشهر لأن التواصل المعلوماتي اليوم سريع جدا: "إذا غاب الزوج عن زوجته مدة تزيد عن ستة أشهر، أمكن للزوجة طلب التطليق" (98). كذلك صرّح المشروع (129) بأن "أقصى أمد الحمل ما يقرره الطّبّ". عوض مادة الأصل (135): "أقصى أمد الحمل سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة". كما جاءت المادة 317 مفصلة: "الميت حكما من انقطع خبره وصدر حكم باعتباره ميتا. ويُعتبر في حكم الميّت من شهد الأطباء بموته السريري من دون إطالة أو تسويف". بينما اقتصرت مادة الأصل (324) على جملة: "الميت حكما من انقطع خبره وصدر حكم باعتباره ميتا". كذلك تمّت زيادة مادّة جديدة (133): "يُستحبّ للإدارة المعنية رقمنة عملها، تسهيلا على الأزواج والمطلقين، إن احتاجوا إلى استصدار شهادات بذلك". فهذا يحقّق عددا من الغايات ويغني عن كثير من التحوّطات الإجرائية. ثالثا: من وجوه التجديد والتغيير في المدونة المقترحة التجديد اللغوي: إذ لا بدّ من تجديد اللغة الفقهية، فنتحدث عن الطلب والقبول عوض الإيجاب والقبول كما في المادة 17 (في الأصل)، وذلك لتيسير اللغة الفقهية على غير المتخصصين، ولتكون مناسبة للزمان. كذلك الصداق المسمى هو الصداق المتفق عليه أو المعيّن كما وقع إضافته في المادة 61 (60 في الأصل). كذلك وجب الانتباه إلى الحمولة الإيديولوجية لبعض المصطلحات، حتى التي ظاهرها البراءة، كالتربية المدرسية، إذ من المعروف لدى أهل الاختصاص أن المدرسة المعاصرة-وبالشكل الذي تأسست عليه وتشتغل به منذ نهايات القرن التاسع عشر الأوروبي-لا تنفصل عن رؤية معيّنة للعالم والإنسان، هي الحداثة الغربية. لذلك عوّض المشروع الكلمة بالتعليم في الحديث عن حقوق الطفل، خاصة الحق السابع بحسب الأصل، وهو هنا الرابع: "4-التعليم الذي يؤهلهم للحياة العملية وللعضوية النافعة في المجتمع". كذلك في المادة 169: "... وعلى الحاضن غير الأم، مراقبة المحضون في المتابعة اليومية لواجباته الدراسية". عوّضها ب: "وعلى الحاضن غير الأم، مراقبة المحضون من حيث التربية التعليمية". كما لم يهمل المشروع بعض التصحيحات والتدقيقات اللغوية، ففي الأصل (111): "يستعان بأهل الخبرة من الإخصائيين في معرفة العيب أو المرض". غيّرت بالكلمة الأفصح: المتخصصين (105). وفي الأصل (90): "لا يقبل طلب الإذن بطلاق السكران الطافح والمكره وكذا الغضبان إذا كان مطبقا". والفصيح: "... وكذا الغضبان إذا كان غضبه مطبقا". (86 في المقترح). أحيانا تمّ دمج مادتين أو أكثر في مادة واحدة، فمثلا المادتان 47 و48 في الأصل صارتا المادة 49 في المقترَح. أو جرى تكثيف المعاني في أقلّ الجمل والكلمات، كحقوق الأطفال على أبويهم اختصرها المشروع من 7 (مادة 55 في الأصل) إلى أربعة (54). اقتراح مؤسسات جديدة: ولا يخلو المشروع من اقتراحات عمليّة، كما في المادة 84 التي حدّدت مستحقات الزوجة بعد ثبوت الطلاق، لكنها لم تُجِب عن حالة عدم أداء الزوج لهذه المستحقات لسبب أو لآخر، فتضيع بعض حقوقها. لذلك أضاف المشروع (81): "... وفي حال عدم أداء الزوج لهذه المستحقات يقع ذلك وجوبا على الدولة". ما يعني ضرورة تدشين مؤسسة لهذه الغاية وأمثالها. واقترح المشروع أيضا إحداث "شرطة قضاء الأسرة"، تتلخص مهامها في الحرص على تنفيذ توجيهات القاضي، وإبلاغ القاضي بكل ما يحصل بخصوصها من إهمال أو تقصير (257). كذلك أكد المقترَح على ضرورة الرعاية النفسية للمحضون وفق ما توافق عليه أهل الاختصاص، فزاد على جملة الأصل (163): "على الحاضن، أن يقوم قدر المستطاع بكل الإجراءات اللازمة لحفظ المحضون وسلامته في جسمه ونفسه"، هذه الجملة: "تحت الرعايتيْن الطبية العامة والطبية النفسية، وفق التطور الطبيّ المطّرد" (155). أيضا يقترح المشروع إقامة مؤسسات تكون قادرة على أصناف المراقبة التي يحتاجها المحضون (165-4). تقييدات وتوضيحات وإضافات: وقد تمّ إيضاح بعض المواد، فالمادة 47 في الأصل تقول: "الشروط كلها ملزمة، إلا ما خالف منها أحكام العقد ومقاصده وما خالف القواعد الآمرة للقانون فيعتبر باطلا والعقد صحيحا". فتمّ إضافة: "إلاّ ما خالف منها أحكام الشريعة، ممّا يحلّ حراما أو يحرّم حلالا" (مادة 49 من المشروع.) ومن الغموض في الأصل: المادة 106: "إذا حكم على الزوج المسجون بأكثر من ثلاث سنوات سجنا أو حبسا، جاز للزوجة أن تطلب التطليق بعد مرور سنة من اعتقاله، وفي جميع الأحوال يمكنها أن تطلب التطليق بعد سنتين من اعتقاله". فهذه التفرقة بين السنة والسنتين غير واضحة، لذلك جاء المقترح في المادة 100: "إذا حكم على الزوج المسجون بأكثر من ثلاث سنوات سجنا أو حبسا، جاز للزوجة أن تطلب التطليق بعد مرور سنة من اعتقاله. مع مراعاة المادة 8". والإشارة الأخيرة إلى أن المشروع لا يحبّذ أصلا عقوبة السجن، ولا يرى أنها الأصل في النظام الشرعي للعقوبات. كذلك أضاف المشروع المادة 78: "تُترك الفرصة لعائلتي الزوجين، أو لمن يقوم مقامهما، لإصلاح ذات البين ما دام في الوقت متسع". وذلك تنبيها للمجتمع وللمحاكم إلى أهمية علاج الشقاق في بيئته العائلية أولا. رابعا: الآراء الفقهية الثلاثة.. أهم ما جاء به المشروع الأول: الطلاق الشفوي تقول المادة 73 في الأصل: "يقع التعبير عن الطلاق باللفظ المفهم له وبالكتابة..."، لكنها لم تبيّن حقيقة الطلاق الشفوي بوضوح، بل إن المدونة تجاهلت نسبيا الواقع، والواقع هو أن الرجل كثيرا ما يتلفّظ بالطلاق، ثم بعده بزمان يقلّ أو يكثر يذهب إلى المحكمة لتسجيله. وهذه هي المسألة التي اشتهر فيها النزاع أخيرا بين هيئة الأزهر والرئيس السيسي بمصر، لذلك وضّحها المشروع في المادة 70: "يقع التعبير عن الطلاق باللفظ المفهم له وبالكتابة (..) والطلاق الشفوي يقع بآثاره الشرعية وإن لم يوثّق، لكن التوثيق واجب بحسب منطق العصر والضرورات الإدارية". فالطلاق الشفوي شرعي له آثاره الكاملة، لكن يجب تسجيله إداريا. الثاني: الاعتماد الجزئي لفحص الحمض النووي لم تأت المدونة على ذكر الحمض النووي، ربما لأن اللجنة التي وضعتها لا ترى جواز اعتماده فقها، فاقتصرت على الأسباب الثلاثة للحوق النسب بالنسبة للأب: الفراش، والإقرار، والشبهة (مادة 152). لكن المشروع رأى أن الفحص النووي لا يقلّ قوّة عن الاستلحاق مثلا، وأن الشرع متشوّف لإثبات النسب، كما أشارت إلى ذلك المادة 151 من الأصل: "يثبت النسب بالظن ولا ينتفي إلا بحكم قضائي شرعي". لذلك اعتبره المقترح سببًا رابعا (مادة 144). كما أضاف كلمة "والطبية" في آخر المادة (148): "... إذا أنكر الخاطب أن يكون ذلك الحمل منه، أمكن اللجوء إلى جميع الوسائل الشرعية والطبية في إثبات النسب". وهي المادة 155 في الأصل. وكذلك في المادة 150 من المشروع. وإنما قلنا إنه اعتماد جزئي، لأن المشروع المقترح لم يُثبِت للولد المنتسب بناء على الفحص النووي حق النفقة والإرث. فهذا حكم بين حكمين، وهو نوع من مراعاة الخلاف التي اشتهر بها الفقه المالكي. فأضاف المشروع هذه الجملة في مادته 149 (الموافقة للمادة 156 في الأصل): "... أما إذا ثبت النسب عن طريق الحمض النووي فتترتب عليه جميع نتائج القرابة باستثناء النفقة والإرث". وفقه المسألة أن الوضع الذي نشأ خارج الشرع في البداية سيبقى يحمل بعض آثاره في النهاية، ولا يمكن أن يتحوّل إلى وضع شرعي تامّ. وهذا ما يتوافق مع الأصل (140): "لا يترتب على البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية". لكن من جهة أخرى لا يمكن تجاهل هذه الأبوة البيولوجية. فكأن إثبات النسب بالحمض النووي يجعل هذه البنوة ذات وجهين: واحد شرعي أو تشرّع، والآخر غير شرعي ويبقى كذلك. أما إذا تقوّت الشبهة بالحمض النووي، فلا شك أنه نسب تامّ لا ينبغي التردّد فيه. والمسألة على كل حال عويصة، لا يوجد لها حلّ مثالي، لذلك لا بد من الحوار والنقاش الهادفين. الثالث: مسألة الإرث والتفاضل بين الذكر والأنثى الأصل في الشريعة أن واجب الإنفاق على المرأة يقع على الرجل. فهذا هو الوضع الشرعي الأصلي. لذلك عدّل المشروع المادة 198 في الأصل إلى هذه المادة 190: "وفي كل الأحوال لا تسقط نفقة البنت إلا بعد زواجها، وأما العمل بما جد من أمور في ما يتعلق بتكسّب المرأة، فقد يُسقط النفقة عن الأب ما لم يعمل على إلجاء ابنته إلى التكسّب بقصد التملص من نفقتها، لأن ذلك لا يُقبل شرعا". فهذا التعديل محاولة للعودة إلى القاعدة الأصلية، وحتى إذا لم يتحقّق هذا الآن، فلا أقلّ من تنبيه الناس إليه. لكن الوضع الاجتماعي للمسلمين تغيّر، فلم يعد كثير من الرجال ينفقون، ممّا اضطر نساءهم إلى العمل والإنفاق على أنفسهنّ. وهذا يؤدي ولا بدّ إلى اهتزاز مفهوم القوامة التي ربطها القرآن الكريم بأمرين: التفضيل الخِلقي والإنفاق: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)، فإن فُقد أحد الركنيْن ضاعت القوامة، أو على الأقلّ نقصت جدّا. ولما كان الذكر يأخذ ضعفيْ ما تأخذه الأنثى في بعض حالات الإرث، لأنه صاحب القوامة، فإنه لم يعد يستحقّ ذلك بإضاعته لهذا الأصل. لذلك اقترح المشروع إيقاف العمل بمبدأ التفاضل في الإرث؛ على أن يستمرّ العمل به في المجتمعات والعائلات التي لا تزال تعمل بالأصل الشرعي في القوامة والإنفاق. ويرجع إلى القاضي الشرعي التمييز بين الحالتين، والحكم لكلّ حالة بما يناسبها. وهذه المسألة كبيرة وعويصة، ما اضطر الشيخ عبد الغني العمري حفظه الله-وهو العُمدة في هذا المشروع كلّه-إلى شرحها بتفصيل في هامش من ألف كلمة بالمادة 314، فندعو القراء والمهتمّين إلى مراجعة ذلك بتفصيل ومناقشته. خاتمة: آخر مادة في المشروع هي برقم 389، وفيها: "كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة مما يستجدّ من المسائل، يُرجع فيه إلى أحكام الشريعة الإسلامية". وهي تعديل لمادة الأصل (400): "كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف". وقد راعى التعديل أمرين: الأول أن المقترح مشروع مقدم لعالم المسلمين أينما كانوا. والثاني أن الاجتهاد يتجاوز المذاهب كلها منفردة ومجتمعة. أخيرا، تجدر الإشارة إلى أن المعهد مؤسسة علمية تعمل على تجديد العلوم المتناولة، عن طريق تفكيكها وإعادة صياغة مقرراتها وفق منظور عولمي جديد جامع، متجاوز للمذاهب والأيديولوجيات. والذي ظهر لنا أن هذا المشروع محاولة جادّة وصادقة وعلميّة تتوخّى حلّ مشكلات الأسر المسلمة اليوم بما يحقق التوازن المنشود والصعب-في زمن الفتن هذا-بين هدي الشريعة ومستجدّات الواقع والعصر. فلنتعاون جميعا بالحوار العلمي والنقاش الموضوعي على هذه الغاية الكريمة.