يرى الباحث البشير البونوحي أن المغرب- بحكم موقعه الجغرافي – ما كان ليشكل استثناء من قاعدة احتضان المجتمعات البشرية منذ القدم لأقليات وطوائف عرقية أو دينية أو مذهبية أو لغوية أو ثقافية، حيث ظل منفتحا على عوالم متنوعة وملتقى لعدد من الثقافات والديانات المختلفة، في مقدمتها الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام[1]. وقد تعايشت هذه الأديان الثلاثة بالمغرب قرونا منذ اجتماعها وحضورها على رقعته، وعبر مختلف الدول التي حكمته. واليوم، جاءت الرسالة السامية للملك محمد السادس نصره الله إلى المشاركين في المؤتمر البرلماني الدولي المنعقد بمراكش حول "حوار الأديان.. لنتعاون من أجل مستقبل مشترك" لتؤكد المسار الذي اختاره ملوك المغرب خلفا عن سلف في ترسيخ قيم التعايش وحوار الأديان، إذ إن المملكة المغربية حرصت "على أن تظل نموذجا للدولة التي يتعايش على أرضها، في أخوة وأمان، معتنقو الديانات السماوية، وذلك وفاء منها لتاريخها العريق في التنوع والتعددية الدينية والثقافية التي ميزت الكيان المغربي منذ قرون. فعلى هذه الأرض تعايش ويتعايش المسلمون واليهود والمسيحيون منذ قرون. وأرض المغرب هي التي استقبلت آلاف الأشخاص من المسلمين واليهود الذين فروا من الاضطهاد الديني من شبه الجزيرة الإيبيرية، خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ووفرت لهم الحماية الكريمة". وذكر الملك محمد السادس بالرعاية والحماية التي حظي بها معتنقو الديانة اليهودية من قبل الملك المغفور له محمد الخامس، وأيضا جهود المغفور له الحسن الثاني طيلة فترة توليه عرش أسلافه المنعمين، على اتباع نفس النهج بالعناية بالمواطنين المغاربة معتنقي الديانة اليهودية، وظل حريصا على ترسيخ قيم التعايش والإخاء بين كافة المغاربة من مسلمين ويهود". وعن هذه السياسة الرشيدة للمملكة المغربية في إرساء قيم العيش المشترك، وتوطيد الحوار المتبادل للأديان، وروح التفاهم الأخوي، يقول جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني في رسالة من جلالته إلى قداسة البابا يوحنا بولس الثاني: "إن العلائق بين المسيحيين والمسلمين قد اتسمت دائما في بلادنا منذ عهد عريق في القدم بروح التفاهم الأخوي، وقد جعل أجدادنا من هذه الروح أصلا من أصول سيرتهم، ولم يحدث قط أن وقع الإخلال بهذا الأصل في وقت من الأوقات أية ما كانت تصاريف الزمن الغابر"[2]. ويرجع الفضل الكبير إلى فترة حكم الحسن الثاني رحمه الله في "تكوين الفكرة المشرقة التي للقادة والرؤساء عن المغرب؛ فلقد كان نعم من يقدم المغرب كحلقة ذهبية بتاريخه ومعالمه ورجاله وعوالمه. ولقد كان نعم من يقدم هذا المغرب بطموحه وتطلعه وثقته بنفسه وإيمانه بماضيه وحاضره ودوره في بناء صرح الحضارة جنوبا وشرقا وشمالا وغربا كذلك"[3]. وعن هذا اللقاء، يعبر عبد الهادي التازي في مقال له عن "جلالة الملك الحسن الثاني في أوج الدبلوماسية العالمية" يقول: "وقد وجدناه في حاضرة الفاتيكان يقوم لأول مرة في تاريخ الأديان وفي تاريخ العالم كله، ماضيه وحاضره وعلى مستوى القمة بإجراء حوار شجاع متبصر مع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني يوم الأربعاء ثاني أبريل 1980 حول القضية التي تشغل بال كل مسلمي العالم الإسلامي قضية بيت المقدس طهره الله من الرجس.. لقد تتبع العالم أجمع ذلك اللقاء واستعرض العالم أجمع قضية القدس... كان يوما مشهودا أن نرى فيه قداسة البابا يخاطب جلالة الملك بهذه العبارات: إنكم ملك البلد لا ينكر أحد ماضيه الزاخر بالمفاخر؛ فشعبكم بين شعوب الشمال الإفريقي هو وارث لتقاليد مجيدة وراسخة في القدم وحامل للواء حضارة طبع إشعاعها ولا يزال يطبع مجالات الثقافة والفن والعرفان. إنكم في هذا المقام الناطق بلسان البلاد الإسلامية التي عهدت إليكم بالتعريف بمشاعرها نحو مشكلة القدس. لذلك، أصغيت إليكم بانتباه بالغ وأنتم تعبرون عن آرائها"[4]. وعن هذا اللقاء التاريخي، تحدث جلالة المغفور له الحسن الثاني إلى رجال الصحافة قائلا: "إني وجدت لدى قداسة الزعيم الروحي الذي يتفهم المشاكل جيدا ويدرك أن الوقت قد حان للديانات السماوية الثلاث، بمعنى أن أبناء إبراهيم عليه السلام سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود يجب عليهم في الحقيقة أن يلتقوا في القدس لا من أجل المواجهة، ولكن بهدف إقامة تراث روحي وتاريخي مشترك من أجل استقرار العالم وسلامته"[5]. وفي عهده رحمه الله كانت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى المغرب، وهو حدث لا سابقة له في الحوار بين المسيحية والإسلام. ومما جاء في خطاب البابا للمسلمين الشباب بالمغرب: "في عالم يرغب في الوحدة والسلام، ومع ذلك يعاني من ألف توتر وصراع، ألا ينبغي للمؤمنين تفضيل الصداقة بين الرجال والشعوب الذين يشكلون مجتمعًا واحدًا على وجه الأرض؟ نحن نعلم أن لديهم نفس الأصل ونهاية واحدة ونفس النهاية"[6] وبدوره، ألقى جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني كلمة بالمناسبة مما جاء فيها: "الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه شعبي العزيز ها هو صديقنا الكبير قداسة البابا بول يوحنا الثاني يحل بيننا وعلى أرضنا وبين ظهرانينا، ومن كان يظن أن هذا اللقاء سيتم فوق أرض المغرب في هذا الظرف الوجيز الذي يفرق بين زيارتنا للفاتيكان وزيارته للدار البيضاء إلا أن إرادته وإرادتنا التقت على صعيد واحد وأمام هدف واحد ألا وهو نسج وتقوية خيوط المحبة والصداقة والوئام بين الأمم والديانات...وهكذا تحقق ما كنا نعتبره هو وأنا حلما ولكن بإرادة الله حققنا هذا المطمح لنظهر للعالم أجمع أنه إذا اجتمعت حسن النية وحسن الإرادة فإنه لا شيء يمكن أن يفرق بين الأجناس وبين الديانات السماوية"[7] هكذا، توطدت العلاقة بين الفاتيكان والمغرب بناء على أصل متين عبر عنه جلالة المغفور له الحسن الثاني بقوله إن: "العلائق بين المسيحين والمسلمين قد اتسمت دائما في بلادنا منذ عهد عريق في القدم بروح التفاهم الأخوي، وقد جعل أجدادنا من هذه الروح أصلا من أصول سيرتهم، ولم يحدث قط أن وقع الإخلال بهذا الأصل في وقت من الأوقات أية ما كانت تصاريف الزمن الغابر ومنذ أن ألقى الله إلينا مقاليد الحكم حرصنا من جهتنا كل الحرص على أن يحترم هذا الأصل ويراعى مراعاة دقيقة "[8]. وتتجدد هذه الزيارة البابوية للمغرب في عهد أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، حيث نشر موقع فاتيكان نيوز أن البابا فرنسيس سيقوم بزيارة رسمية إلى المغرب بدعوة من جلالة الملك محمد السادس، وهي مناسبة تاريخية لتقوية الحوار بين الأديان، وترسيخ قيم السلام والتسامح بين الديانة المسيحية والدين الإسلامي؛ فالمغرب هو الوجهة الجديدة للبابا فرانسيس، الذي سبق له أن زار بلدانا إسلامية عديدة. من خلال زيارته هذه يسعى البابا إلى تحقيق رؤيته حول التعايش بين المسلمين والمسيحيين، وإلى حث الأوروبيين على الانفتاح أكثر على المهاجرين.[9] وبالتالي، سار جلالة الملك محمد السادس نصره الله على نهج أسلافه الميامين في تمتين عرى الأخوة الإنسانية والتعايش بين الأديان. وبدعوة منه جلالته، وصل البابا فرنسيس إلى المغرب بتاريخ 30 و31 مارس 2019 في زيارة رسمية تتمحور حول "الحوار بين الأديان وقضايا المهاجرين". وقد ألقى بالمناسبة جلالة الملك محمد السادس نصره الله خطابا رسميا بأربع لغات، حيث اعتبر في خطابه أن هذه الزيارة هي "حدث استثنائي لسببين: الأول زيارة قداسة البابا لبلدنا، وثانيهما أن زيارة البابا فرنسيس تذكرنا بزيارة البابا يوحنا بولس الثاني، وأن هذه الزيارة تندرج في إطار العلاقات العريقة بين المغرب والفاتيكان"[10] وقد كان لاختيار مكان وزمان هذه الزيارة رمزية عبر عنها جلالته بقوله: "وقد حرصنا على أن يعبر توقيتها ومكانها، عن الرمزية العميقة، والحمولة التاريخية، والرهان الحضاري لهذا الحدث. فالموقع التاريخي، الذي يحتضن لقاءنا اليوم، يجمع بين معاني الانفتاح والعبور والتلاقح الثقافي، ويشكل في حد ذاته رمزا للتوازن والانسجام. فقد أقيم بشكل مقصود في ملتقى نهر أبي رقراق والمحيط الأطلسي، وعلى محور واحد، يمتد من مسجد الكتبية بمراكش والخيرالدة بإشبيلية، ليكون صلة وصل روحية ومعمارية وثقافية، بين إفريقيا وأوروبا. وقد أردنا أن تتزامن زيارتكم للمغرب مع شهر رجب، الذي شهد إحدى أكثر الحلقات رمزية من تاريخ الإسلام والمسيحية، عندما غادر المسلمون مكة، بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولجؤوا فرارا من الاضطهاد إلى النجاشي، ملك الحبشة المسيحي. فكان ذلك أول استقبال، وأول تعارف متبادل بين الديانتين الإسلامية والمسيحية. وها نحن اليوم، نخلد معا هذا الاعتراف المتبادل، من أجل المستقبل والأجيال القادمة."[11] وأكد جلالته على تشبثه بأصول التعايش والتسامح المقررة عند سلفه بقوله: " فقد حرصت المملكة المغربية على الجهر والتشبث الدائم بروابط الأخوة، التي تجمع أبناء إبراهيم عليه السلام، كركيزة أساسية للحضارة المغربية، الغنية بتعدد وتنوع مكوناتها. ويشكل التلاحم الذي يجمع بين المغاربة، بغض النظر عن اختلاف معتقداتهم، نموذجا ساطعا في هذا المجال. فهذا التلاحم هو واقع يومي في المغرب. وهو ما يتجلى في المساجد والكنائس والبيع، التي ما فتئت تجاور بعضها البعض في مدن المملكة. وبصفتي ملك المغرب، وأمير المؤمنين، فإنني مؤتمن على ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية. وأنا بذلك أمير جميع المؤمنين، على اختلاف دياناتهم."[12] وقد كان نص الخطاب الملكي لجلالته ونص الخطاب لقداسة البابا فرنسيس بمناسبة هذه الزيارة ذا حمولة قوية ووثيقة تاريخية تؤكدان على ضرورة التعايش والحوار بين الأديان "فالديانات السماوية الثلاث وجدت للانفتاح على بعضها البعض وللتعارف فيما بينها في سعي دائم للخير المتبادل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]"[13]. وتشكل خطابات الملك محمد السادس نصره الله، في المناسبات التي يكون محورها حوار الأديان وترسيخ قيم التعايش، مرجعا أساسيا لا ينبغي الحياد عنه في كل مقاربة علمية كيفما كان مصدرها المعرفي، خصوصا في ربطها بين القول والفعل؛ وهو ما عبر عنه جلالته بحرصه الكبير "على أن تكون للمملكة المغربية المساهمة المتميزة في تأسيس وهيكلة هذا المنتدى[المؤتمر البرلماني الدولي المنعقد بمراكش حول "حوار الأديان: لنتعاون من أجل مستقبل مشترك"]، وضمان انتظام أشغاله، إيمانا منا بأنه إطار يؤسس للمستقبل وللوفاق الحضاري، ويتوخى إقامة السلام وتيسير العيش المشترك. ويضيف جلالته أنه "وبنفس العزم والتصميم، ساهم المغرب في تأسيس آليات أخرى، ويساهم في تعزيز مكانتها وأدوارها، ويحتضن ملتقياتها، كما هو الشأن بالنسبة للمؤتمر الدولي لحوار الثقافات والأديان، ومؤتمر "حقوق الأقليات الدينية من الديار الإسلامية". ومن جهة أخرى، لا تخفى عليكم المساهمة الحاسمة والفعالة للمغرب في تأسيس وهيكلة المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب، الذي تولت المملكة المغربية رئاسته المشتركة لثلاث فترات، من 2015 إلى 2022. ويتعلق الأمر بسياسات إرادية تمليها علينا مسؤولياتنا والتزاماتنا إزاء المجتمع الدولي بكل مكوناته"[14]. الهوامش: 1. ملامح التواجد اليهودي بمدينة طنجة، البشير البونوحي، مجلة هيرودوت العدد الثامن ديسمبر 2018م، بتصرف. 2. وثيقة رسالة من صاحب الجلالة إلى قداسة البابا8 فبراير 1983م. 3. جلالة الملك الحسن الثاني في أوج الدبلوماسية العالمية، عبد الهادي التازي، مجلة دعوة الحق العدد 255 مارس 1986م. 4. جلالة الملك الحسن الثاني في أوج الدبلوماسية العالمية، عبد الهادي التازي، مجلة دعوة الحق العدد 255 مارس 1986م. 5. وثيقة صاحب الجلالة يتحدث إلى رجال الصحافة، 2 أبريل 1980م. 6. خطاب قداسة يوحنا بولس الثاني للمسلمين الشباب المغرب الاثنين 19 أغسطس 1985 موقع فاتيكان نيوز 7. وثيقة كلمة صاحب الجلالة في المهرجان الشعبي الذي أقيم بمركب محمد الخامس الرياضي ترحيبا بقداسة البابا 19 غشت 1985م. 8. وثيقة رسالة من صاحب الجلالة إلى قداسة البابا8 فبراير 1983م. 9. بابا الفاتيكان في المغرب – لتعزيز التعايش السلمي بين الأديان موقع فاتيكان نيوز 10. نص الخطاب الذي ألقاه أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس خلال مراسم الاستقبال الرسمي لقداسة البابا فرانسيس 11. نص الخطاب الذي ألقاه أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس خلال مراسم الاستقبال الرسمي لقداسة البابا فرانسيس 12. نص الخطاب الذي ألقاه أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس خلال مراسم الاستقبال الرسمي لقداسة البابا فرانسيس 13. نص الخطاب الذي ألقاه أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس خلال مراسم الاستقبال الرسمي لقداسة البابا فرانسيس. 14. وثيقة نص الرسالة الملكية السامية إلى المشاركين في المؤتمر البرلماني الدولي المنعقد بمراكش حول "حوار الأديان: لنتعاون من أجل مستقبل مشترك".