قال الدكتور عبد الله بوصوف، خبير في العلوم الإنسانية، إن "فرنسا سجلت في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون تراجعا خطيرا في مواجهة تيارات متطرفة، سواء على مستوى التنظير الفكري أو من خلال السياسات العمومية، خاصة في الضواحي حيث يقطن عادة المهاجرون"، مضيفا أن اعتزال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للسياسة أثّر كثيرا على أداء ماكرون وأفقده توازنه، خاصة على مستوى السياسة الخارجية الفرنسية. وتطرق بوصوف، في مقال له، لمجموعة من المواضيع ك"السياسة الخارجية الفرنسية ومطبخها رقم 37 بقصرQuai D'Orsay "، و"العلاقات المتوترة بين رئيسة الحكومة الإيطالية ميلوني وماكرون"، و"التراشق السياسي بين الرئيس التركي أردوغان وماكرون في ملفات سوريا وليبيا والوساطة في الحرب الأوكرانية"، و"سوء العلاقة بين السياسة الخارجية الفرنسية ودول الخليج"، وتفجّر قضية الناشطة الجزائرية الفرنسية أميرة بوراوي". وهذا نص المقال: نعتقد أن ما تعيشه فرنسا منذ العقد الأخير من احتقان اجتماعي كبير ومحاولات الالتفاف على العديد من الحقوق والمكتسبات الاجتماعية والحقوقية، وغليان شبه يومي بالشارع، وتخصيص مساحات إعلامية كبيرة لصناع الكراهية وشيطنة الآخر كالمهاجرين والإسلام، وتمدد اليمين واليمين المتطرف بالمجالس الجهوية وبالبرلمان، والتنافس بشراسة في الرئاسيات الفرنسية، ليس بصدفة عابرة. صحيح أن اليمين المتطرف يعيش أبهى أيامه منذ سنة 2015 في أكثر من بلد غربي، لكن فرنسا في عهد الرئيس ايمانويل ماكرون سجلت تراجعا خطيرا في مواجهة تيارات متطرفة، سواء على مستوى التنظير الفكري أو من خلال السياسات العمومية، خاصة في الضواحي حيث يقطن عادة المهاجرون. لقد اعتبر العديد من المتتبعين أن اعتزال المستشارة الألمانية انجيلا ميركل السياسة أثر كثيرا على أداء ماكرون وأفقده توازنه، خاصة على مستوى السياسة الخارجية الفرنسية، حيث وقف عاجزا أمام سحب بريطانيا وأمريكا صفقة الغواصات الأسترالية بقيمة 35 مليار يورو، واكتفى بدعوة سفيره بواشنطن للتشاور، في حين عوضت استراليا شركة نافال الفرنسية بمبلغ 585 مليون يورو. كما أوقف ماكرون مسلسل مشاورات مع روسيا بدأها في سنة 2019، وحاول لعب دور الوسيط مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بداية الحرب الأوكرانية، حتى إنه وظف هذه الصورة "الوسيط" في الجولة الثانية للرئاسيات الأخيرة أمام مارين لوبان بأنه الشخص الوحيد القادر على محاورة بوتين والدفاع عن أوروبا، ووصل به الأمر أن وصف تلك الجولة بأنها استفتاء أوروبي. لكن ونحن نتكلم عن السياسة الخارجية الفرنسية ومطبخها رقم 37 بقصر "Quai D'Orsay"، نرى وجوب الإشارة إلى وزير خارجية ماكرون السيد جان ايف لدوريان (Le Drian) منذ ماي من سنة 2017 وإلى غاية أبريل 2022، الذي شغل في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند حقيبة الدفاع، فهل هذا يعني أن فرنسا تبني صداقاتها وسياساتها الخارجية على حجم المشتريات من السلاح الفرنسي، زيارة رئيس أركان الجيش الجزائري سعيد شنقريحة نموذجا؟ وكيف نفسر أن أول تنقل لوزيرة الخارجية الفرنسية الجديدة Catherine Colonna إلى إفريقيا (مالي) كان بصحبة وزير الدفاع الفرنسي Sébastien lecornu علامات الاستفهام تُطرح أيضا حول حقيقة العلاقات المتوترة بين رئيسة الحكومة الإيطالية ميلوني وماكرون حول ملف ليبيا وملف تمدد شركات إيطالية بالجزائر، وخاصة شركة "ENI" التي يظهر أنها سحبت البساط من تحت شركة "TotalEnery" الفرنسية، بالإضافة الي ملفات أوكرانيا والناتو والهجرة. ورغم توقيعه على اتفاقيات شراكة استراتيجية مع حكومة ماريو دراغي سنة 2021 ومع بيدرو سانشيز سنة 2022، فقد فاجأ ماكرون الجميع برفضه لمشروع "Medcat" الرابط بين البرتغال وإسبانيا وفرنسا وألمانيا، أثناء قمة الأورو-متوسطي التي عقدت في مدينة أليكانتي الإسبانية في شهر دجنبر 2022، فيما تبقى مناطق رمادية في علاقته بالألماني أولاف شولز، لكنه سيوقع مع رئيس الوزراء البريطاني الجديد، ريشي سوناك، في شهر أكتوبر 2022 اتفاقا للحد من الهجرة عبر بحر المانش مقابل 95 مليون دولار تدفعها لندنلباريس. ولن نكشف سرا بحديثنا عن التراشق السياسي بين الرئيس التركي أردوغان وماكرون في ملفات سوريا وليبيا والوساطة في الحرب الأوكرانية، وأخيرا التواجد التركي في دول الساحل جنوب الصحراء، سواء تحت عباءة الاستثمارات أو عباءة الدين من خلال الداعية " محمود ديكو ". لكن ميزان السياسة الخارجية الفرنسية سيزداد سوءا، سواء في علاقته مع دول الخليج حيث المقايضة بين تقارير حقوق الإنسان وصفقات السلاح وضخ الأموال في الاقتصاد الفرنسي بشراء شركات مفلسة، أو في علاقتها بمستعمراتها الإفريقية القديمة؛ فقد تركت فرنسا، مثلا، تونس تواجه مصيرها وحيدة وعرضة لالتهامها من طرف النظام الجزائري الذي يعتبرها ولاية جزائرية، مما دفع بالنخبة التونسية الحية إلى انتقاد الطريقة الفجة التي تعامل بها النظام الجزائري في تصريحات تخص الوضع الداخلي لتونس أثناء زيارة الرئيس الجزائري تبون إلى روما أو أثناء زيارة جورجيا ميلوني إلى الجزائر. وقد فجرت قضية الناشطة الجزائرية الفرنسية أميرة بوراوي العلاقات الفرنسية الجزائرية في أفق الزيارة المرتقبة للرئيس الجزائري تبون إلى باريس في شهر ماي، وبعد أيام على انتهاء زيارة سعيد شنقريحة في يناير الماضي. وكان من تداعياتها إقالة الرئيس التونسي قيس السعيد لوزير خارجيته إرضاء للجزائر التي استدعت سفيرها بباريس للتشاور كنوع من الاحتجاج. لكن باريس تعودت على احتجاجات النظام العسكري الجزائري، سواء بخصوص ملفات الذاكرة المشتركة أو استعادة الجماجم أو عدم تقديم الاعتذار أو التأشيرات، وسيذهب الرئيس تبون صاغرًا إلى باريس في ماي المقبل، وسيوقع اتفاقيات اقتصادية بتنازلات جديدة عن ثروات الجزائريين يكفر بها عن اقترابه من روسيا وفرق فاغنر، وسيخصص مساحة جديدة لشركة "TotalEnery" للاستثمار في الغاز الطبيعي والبترول بأسعار تفضيلية وبعقود طويلة الأمد، وسيتعهد أمام عدسات الإعلام الفرنسي بأنه شريك موثوق به وأن غاز سونطراك تحت تصرف شركة "TotalEnery" الفرنسية، مقابل عدم تنظيم حملات إعلامية فرنسية ضد النظام العسكري. وتعهد نواب حزب ماكرون بالبرلمان الأوروبي بالتصويت لمصالح النظام العسكري الجزائري حسب صبيب شركة سونطراك من الغاز الطبيعي! لقد وصف العديد من المتتبعين السياسية الخارجية الفرنسية بالمتعجرفة، وبأنها تنهل من ماضيها الاستعماري القديم في تعاملها مع دول إفريقيا، وهو ما جلب عليها العديد من المصاعب في وقت تميز بثورة رقمية وتكنولوجية هائلة، إذ تراجع نفوذها كثيرا في دول غرب إفريقيا وطالبت العديد من الدول الخروج من نظام عملة الفرنك الفرنسي الموحد، وبتنويع الشركاء الاقتصاديين. أكثر من هذا، فقد طالبت بعض دول الساحل جنوب إفريقيا الجيوش الفرنسية بمغادرة البلاد، ووقعت أخرى مع فرق "فاغنر" الروسية وسمحت لها بالتواجد فوق أراضيها، في حين سُجلت سبعة انقلابات عسكرية في ست دول من جنوب الصحراء الساحل، حيث اعتبر السكان المحليون الانقلابيين العسكريين إما منقذين أو الأقل ضررا، وهو ما يعني عنوانا كبيرا لفشل السياسة الخارجية الفرنسية في دول جنوب الصحراء الساحل، وإنذارا قويا بضرورة تغيير سياستها بما يتلاءم وعقلية الجيل الجديد من القادة السياسيين الأفارقة وأحلام الشعوب الإفريقية في استغلال ثرواتها الطبيعية في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فهل تعيين وزير الدفاع والخارجية السابق السبعيني LeDrian على رأس إدارة معهد العالم العربي مكان جاك لانج (البالغ 83 سنة) في مارس القادم من طرف الرئيس ماكرون وبتزكية من المجلس الأعلى للمعهد هو استمرار في ترسيخ العقيدة السياسية/العسكرية الفرنسية نفسها في تعاملها مع الدول العربية والمستعمرات القديمة؟ الأكيد أن فرنسا غنية بمفكريها ومثقفيها وإعلامييها من طينة "فرنسا ميثاق حقوق الإنسان" و"المواطن وفرنسا الأنوار" و"فرنسا الفنون والآداب"، وهي نخبة تتحمل مسؤولية إبلاغ مسؤولي قصر "Quai D'orsay" أن إفريقيا الخمسينات والستينات من القرن الماضي ليست هي إفريقيا القرن الواحد والعشرين، وأن الثورة التكنولوجية مكنت الشعوب الإفريقية من توسيع معارفها وتحديد أهدافها وأنها سيدة نفسها، وأن عهد الوصاية والتبعية قد أصبح من الماضي.