يصعب التقدير الدّقيق لخسائر الاضطرابات الجوية التي يعرفها المغرب منذ نهاية ديسمبر الماضي إلى حد الآن، في حين تشير الأرقام الرسمية إلى أنها بلغت، بشريا، حتى مساء يوم السبت 7 فبراير، 24 قتيلا وآلاف العائلات المشرّدة بعد أن تهدمت منازلها. "" أما ماديا، فإن الإحصاء الشامل والدقيق لما أصاب البنية التحتية من أضرار، لا زال يحتاج إلى مزيد من الوقت، خاصة وأن هذه الاضطرابات لا زالت مُستمرّة، وإن عرفت منذ مساء السبت 7 فبراير انفراجات في عدد من مناطق البلاد، إلا أنها مرشّحة للعودة منتصف الأسبوع الجاري. هذه الخسائر البشرية والمادية لا تصل بالمغرب إلى إصباغها ب "بالكارثة"، إذ يُنظر إليها من زاوية انعكاساتها الإيجابية على مستقبل البلاد وتنميتها. وزارة الداخلية المغربية ذكرت في بلاغ لها أصدرته مساء الجمعة 6 فبراير، أنه منذ 31 يناير الماضي لقي 22 شخصا مصرعهم بسبب فيضانات الأودية وانهِيار المنازل الطينية، تاريخ إعلان مصالح الأرصاد الجوية الوطنية عن حدوث اضطرابات جوية في العديد من مناطق البلاد. ثم عادت الوزارة يوم السبت 7 فبراير لتُشير إلى مصرع شخصين آخرين، وتحدّث مواطنون في منطقة مريرت الجبلية لسويس انفو بعد ظهر نفس اليوم عن انتشال جُثة رجل كان متَّجها إلى عمله بالمجزرة بمريرت، ففاجأته المِياه الطوفانية التي غمرت واد تطوين بمريرت، إثر تهاطل الأمطار التي لم تتوقّف عن المنطقة. وسجّلت الوزارة الخسائر في منطقة سيدي سليمان، وسط البلاد، على إثر فيضان واد بهت، حيث انهار 2252 منزلا غمرتها المياه وتضرر 328 منزل آخر بشكل جُزئي وانهارت 189 أخرى بشكل كامل. أضرار كبيرة وخسائر فادحة وقال حقوقيون ينشطون في المنطقة إن عدد المتضرّرين وصل إلى 22375 شخص ومن المتوقّع أن يتزايد عددهم بسبب بناء الدّور بالطين والتساقطات المستمرّة للأمطار وذوبان الثلوج التي تهاطلت بكثافة في المرتفعات. وطالب هؤلاء الحقوقيون بتوفير أغطية وأسِرّة وملابس مختلفة للكبار والصغار، إناثا وذكورا، وأغذية وحليبا للأطفال وخياما بالنسبة للمنكوبين في العالم القروي. أما في باقي المناطق، تشير وزارة الداخلية المغربية إلى أن 220 منزلا غمرتها المياه، انهار 50 منها مبنية بالطين بشكل كامل، خصوصا على مستوى أقاليم تازة وفاس ومولاي يعقوب والعرائش وبني ملال وشتوكة وآيت باها. على صعيد البنيات التحتية، فقد أدّت الاضطرابات الجوية وما تبعها من فيضانات، إلى غمر المياه ما بين 200 إلى 300 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية وهدم أو تصدّع قناطر وجسور وقَطْع الطُّرقات، بسبب الثلوج أو الفيضانات، وهو ما أدّى إلى عزل الآلاف من المواطنين في القُرى النائية والمناطق المعزولة. وإذا كانت هذه الاضطرابات الجوية التي يعرفها المغرب لم تبدأ منذ نهاية الشهر الماضي، بل هي سمة شهور خريفه كلها، والتي كان أوجها في شهر أكتوبر، حين غمرت مياه الفيضانات مناطق كاملة في طنجة والحسيمة شمالي البلاد وتسبّبت في خسائر قُدّرت بملايين الدولارات، فإنها الأولى من نوعها منذ أكثر من ستين عاما. ودفعت سنوات الجفاف، التي ضربت المواسم المغربية منذ بداية الثمانينات، إلى اعتماد الدولة على مبدإ أن المغرب بلدٌ جاف تهطل به أمطار، وليس بلدا مُمطرا، وبالتالي، كانت تُقيِّم البنيات التحتية اعتمادا على هذا المبدأ. رغم الانتقادات.. للأمطار فوائد كبيرة وأثارت تصريحات وزير الداخلية شكيب بن موسى الذي قال: "إن خسائر هذه الاضطرابات الجوية أقل من تكاليف إقامة بنيات تحتية تحتمل هذه الاضطرابات"، انتقادات واسعة، لكنها وجدت أيضا من يُؤيَِّدها، ما دامت الاضطرابات الجوية ليست مضمونة الاستمرار للمواسم القادمة، ومن بين هؤلاء المؤيدين الدكتور المهدي لحلو، الخبير المغربي في شؤون الفرشات المائية وعضو عدد من الجمعيات المغربية والدولية المتخصصة في شؤون المياه والسدود. ويقول الدكتور إن الخسائر البشرية التي أصابت المغرب والأضرار في البنيات التحتية التي سببتها هذه الاضطرابات، لا تلغي فوائدها وإيجابيتها والتي لا زالت حتى الآن أكبر من سلبياتها، حيث وصلت حقينة السدود إلى 100 بالمائة وبعضها إلى 110 بالمائة، وهو ما لم يعرفه المغرب في تاريخه، وأن السلطات اضطرّت لفتح السدود لإفراغ جزء منها، تحاشيا لفيضانات غير متوقّعة، وهو ما جعل الفرشة (أو المائدة) المائية للمغرب تنتعش بشكل كبير. ويقول الدكتور المهدي لحلو، إن تحسن الفرشة المائية يوسِّع فرشة الغطاء النباتي، إن كان بالنسبة للثروة الغابية أو أعلاف المواشي. أما على صعيد الزراعات الفلاحية من خضار وفواكه وحبوب، فإن الأضرار بالنسبة للخضار لا زالت حتى الآن محدودة، في حين لن تكون هناك أضرار على أشجار الفواكه والزيتون، التي مست طوال السنوات الماضية بسبب الجفاف. وتفيد التوقّعات شبه الرسمية بالنسبة للحبوب، أنه يمكن الوصول إلى حجم إنتاج يناهز 100 مليون قنطار إذا ما توقّف المطر لمدّة أسبوع، وهو رقم قياسي، إذ لم يصل المغرب إلى ما يقارب ال 100 مليون قنطار من الحبوب منذ سنة 1968. ويذهب الخبير المائي المغربي إلى أن هطول الأمطار والثلوج طوال الشهور الماضية، جعل المغرب يصمد نِسبيا أمام الأزمة المالية العالمية، ما جنبه التأثر سلبيا بها وساعده على التعامل معها بروح معنوية عالية، مشيرا إلى تصريحات وزير المالية المغربي صلاح الدين مزوار، الذي وصف فيها هطول الامطار ب "الرّحمة الربانية". هشاشة البنية التحتية وخسائر فادحة في شهر أكتوبر الماضي، غمرت المياه المناطق الصناعية في مدينة طنجة، والتي تضم حوالي مائة مؤسسة صناعية التي توقّفت عن الإنتاج لأسابيع مع تكبّدها خسائر فادحة، ولا زال أصحاب هذه المؤسسات يطالبون الدولة بتعويضات أو التدخل لدى البنوك المقرضة لتقديم تسهيلات، وذهبت بعض الأوساط للحديث عن عدول شركة "رونو" الفرنسية عن تشييد مصنع للسيارات في المنطقة لتزويد أسواق شمال إفريقيا، والتي كان مقدّرا أن تشغِّل حوالي 800 ألف من اليد العاملة المغربية. وتخشى نفس الأوساط من أن تكون الاضطرابات الجوية والأضرار وعدم صمود البنية التحتية والتجهيزات أمامها، عاملا مُحبطا لقدوم الاستثمارات الأجنبية، التي يراهن عليها المغرب لتحسين اقتصاده وتوفير فرص تشغيل إضافية لأبنائه. ويقول الدكتور المهدي لحلو لسويس انفو، إن الاضطرابات الجوية والأمطار، "كشفت فعلا عن هشاشة البنيات التحتية"، لكنه يعيد تلك الهشاشة إما إلى "السياسة غير المعقلنة أو الفساد واللامسؤولية، التي تحكّمت في تشييدها"، أو ما يمكن أن يُطلق عليه ضُعف حكامة التسيير المحلي. ويوضِّح لحلو أن التسيُّب كان سائدا منذ سنوات في مجال البناء، إما من خلال السماح أو غضِّ النظر عن إقامة تجمّعات لأحياء الصفيح أو البناء الطيني أو البناء العشوائي، الذي يكون بطبيعته غير متوفِّر على الشروط القانونية للجَودة في البناء أو التساهل في منح تراخيص البناء للسّكن أو للوحدات الصناعية، التي يجب أن تكون متوفِّرة على شروط محدّدة أو منح التراخيص لبناء وحدات صناعية في مناطق غير مؤهلة، مثل منطقة مغوغة في طنجة، التي بحُكم طبيعتها الطوبوغرافية، لا تحتمل إقامة مؤسسات صناعية، نظرا لانخفاضها ووقوعها في سفح تلال، وهو ما أدّى إلى فداحة الخسائر التي تكبدتها في الإضطرابات الجوية لشهر أكتوبر الماضي. ويعترف الدكتور لحلو أن يكون لنتائج الاضطرابات الجوية (التي كانت فِعلا خسائرها أقل من إيجابياتها على البنيات التحتية) انعكاسات سلبية على الاستثمارات الخارجية، لكنه يرى إمكانية لتجاوز هذه الانعكاسات، إذا ما تمّت عملية الإصلاح للبنيات التحتية التي تضرّرت أو إذا ما أمكن تشييد بنيات جديدة، من طرق وقناطر... الخ، وِفق سياسة عقلانية تأخذ بعين الاعتبار اضطرابات مماثلة يُمكن للمغرب أن يتعرّض لها خلال السنوات القادمة.