نهائيات كأس العالم بقطر شاشة سياسية الواقع أن الكتابة عن نهائيات كأس العالم بقطر مغامرة، فالنهائيات في بداياتها، وخطر الوقوع تحت تأثير الانفعال وارد بقوة، نعترف بحلنا لوطننا ولقوميتنا لكن ما يشفع لنا هو الطموح لربط هذه النهائيات، بما يجري على الساحة الدولية سياسيا وجيو-سياسا ولكن على المستوى الذي تتفاعل فيه وتتنافس وتتعارك الثقافات المحلية والقارية، مع ثقافة مُعولَمة ومُعولِمة أيضا منذ عقود، شاءت متغيراتٌ متعددة اليوم، أن تكون لها شاشات تعكسها علانية ودون مواربة، ولكن بترميز لا يخلو من شحنات وجدانية وانفعالية شوفينية أحيانا، وحكمة كونية ناضجة الإنسانية أحيانا أخرى، من هذه الشاشات العاكسة نهائيات كأس العالم بقطر. أقترح في هذه المقالة إذن، النظر إلى نهائيات كأس العالم لكرة القدم بقطر من زاويتين مختلفتين ومتكاملتين: يكمُن الاقتراح الذي أقدمه هنا في تناول هذه النهائيات بالتحليل من زوايا متعددة تبدو لأول وهلة متنافرة لا يمكن الجمع بينها: الزاوية الأولى وهي زاوية كروية صِرفة، تتعلق بمقاييس جزئية يدخل في سياقها اللاعبون والمدرب ومنها: – اللياقة البدنية والنفس الطويل؛ – القدرات التقنية والفنية الفردية والجماعية؛ – التهييء النفسي والقتالية الرجولية للفريق؛ – اللعب الجماعي ومدى التمكُّن من آلياته، بحيث يكون الفرد في نسق الجماعة أكثر مما يكون مع نفسه وإشعاعه الفردي، حيث ينقص آنذاك ما يأخذه كفرد من قوة الجماعة وصلابتها في مواجهة خصم؛ – القدرة على بناء استراتيجية واضحة المعالم من طرف مدرب الفريق وناخبه، في هذا السياق نأخذ بعين الاعتبار عوامل متعددة منها على سبيل المثال لا الحصر: * إمكانيات الجماعية للاعبين باعتبارهم بنية كبنية الشطرنج من كل الجوانب الفنية والجسدية والمهارية والشخصية والمزاجية. * طبيعة وتاريخ ومؤهلات وإنجازات الفريق الخصم، * فضاء المباراة وطبيعة الجماهير الحاضرة وسياق المقابلة الدلالي سياسيا وثقافيا... إلخ. محدودية التفسير الكروي لا يمكن تفسير كل شيء كرويا فقط، فالأمر يتعلق بالإنسان، والعلوم الإنسانية عموما، وعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والدراسات الثقافية والسميائيات، ناهيك عن الفلسفة، في تلاقحها بالعلوم السياسية وبعلم الجغرافية السياسية، تعلمنا أن المنهزم لاشعوريا، والمسلم بعلاقة العبد والسيد، وبتفوق الآخر في البنية العامة للعلاقات الدولية والفردية، من المحال، ولربما من الشاذ أن ينتصر في التحديات الكبرى العالمية المكرسة لصورة التراتبية العالمية الاقتصادية العسكرية والعلمية وبكلمة واحدة التراتبية الثقافية بالمعنى الشمولي للكلمة. من هذا المنطلق نسائل ما قد يبدو لقارئ ما خروجا عن المألوف، ولأكاديمي معين مغامرة فكرية غير ممنهجة ولا منطقية وغير ذات أساس، علما بأن كرة القدم لا تجري في المريخ أو في الخلاء، فهي تجري وتنتج وتتفاعل وتتأثر وتؤثر في قلب المجتمع وبحضور أقوى من الفعل السياسي ذاته عادة! إذا كان من المعروف أن عوامل نفسية واجتماعية وثقافية تتدخل في صنع النتيجة في المنافسات العالمية الكروية الكبرى، فإن تساؤلنا هنا لا يهتم بهذا الجانب المعروف بقدر ما يثير إمكانية علاقة تفاعل ما بين الوضع العالمي الحالي، وبين ما يجري في ملاعب قطر بين المنتخبات العالمية في نهائيات كأس العالم. هكذا وفي هذا السياق نتساءل: هل هناك علاقة بين الوضع العالمي في رُمته اليوم، والذي يتعلق أساسا بالصراع على الريادة بين تكريس أحادية القطبية، وبين تعددها، بين بقاء هيمنة الغرب كثقافة وكحضارة، وبين تقاسمه الهيمنة مع قوى أخرى مختلفة عنه ثقافة وقيما؟ أو بناء تعدد قطبي جديد يصحح الاختلال القيمي السائد الذي بني من خلال التاريخ الاستعماري وتاريخ العبودية والهجرة القسرية والحربين العالميتين والحرب الباردة وما نتج عنها مجتمعة من رسم لبنيات العلاقات الدولية على كل الأصعدة؟ هل لاعب كرة القدم سياسي؟ أكيد أن لا عب كرة القدم لا يمارس السياسة ولا الفنان أيضا في الغالب الأعم حسب ادعائهم، (غالبا ما يكون ادعاءً غبيا في نهاية المطاف مع تسجيل فارق جوهري في العلاقة بالسياسة بينهما، وكلاهما في قلب السياسة عن وعي أو عن غير وعي، فإما مصلحا أو مفسدا)، لكنهما معا قد يعكسان وضعا راكدا، (قُطرِيا في الغالب الأعم أو عالميا بشكل نادر)، يكرسانه أو يُثوِّران عليه، والأجمل أنهما عند ثورتهما، فهما يلهِبان الملايين، ويكونان محركا استثنائيا لتغيير أوضاع ونفسيات، أمام من كرَّس صورة تفوقه باعتبارها قدرا محتوما. قد يؤدي الانتصار كرويا على الكبار أيضا، إلى تجديد لحمة الهوية الوطنية -وذلك ما نشهده اليوم- كما قد يخدم التنفيس من الاحتقان الاجتماعي والسياسي، ويرد الثقة للجماهير في وطنها وفي قيادتها، ويمكن أيضا أن يجدد الرغبة والعزيمة في العمل السياسي الجاد والمنتج لدى نُخب محددة. الكرة والسياسة والمجتمع خِدمَةُ كرة القدم للسياسة وللسياسيين معروفة في علم السوسيولوجيا منذ القديم، لكن الجديدة والمثير اليوم في نهائيات قطر 2022، هو خرق قواعد التراتبية العالمية الثقافية، (وهنا تعرَّى الجانب الثقافي والسياسي والإيديولوجي للكرة)، بدءا بالتنظيم الناجح والمحكم لدولة صغيرة جغرافيا، كبيرة العقلانية والإصرار، منفتحة على المماثلين لها ثقافيا في التنظيم وفي تأطيره وفي إنجازه، ثابتة في تقديم نموذجها الثقافي القومي والقطري بكل ثقة ونسقية مفكر فيها وذكية. هناك من جهة أخرى، وهي الأهم لدينا هنا، نتائج الدور الأول التي تثير الدهشة وتخرج عن المألوف وتكسر طابو تفوق الكبار، وبالتحديد الغرب وكبريات المنتخبات تاريخيا: سقطت ألمانيا وأذلت الأرجنتين وخرجت بلجيكا وانهزمت بشكل مروع إسبانيا رغم تأهيلها وأخيرا ليس آخرا تبهدلت البرتغال كما خسرت فرنسا رغم تأهيلها. كل هذه المنتخبات تزحزحت مكانتها بجدية في تراتبية عالمية، كانت الثقافة والرياضة جزءا منها، تابعة لنظام عالمي هو اليوم تحت وطأة زلزال قوي يهز أركانه، تعتبر الحرب الغربية الروسية التي تدور رحاها في أوكرانيا الجريحة، أحد أقوى مظاهره. يحدث هذا الزلزال بعد سلسلة من "الحروب" المالية والتجارية والثقافية والتكنولوجية والسيبرانية، التي لم تتوقف بعد نهاية الحرب الباردة، متخذة أشكالا متعددة. كان الجميع تقريبا مؤمن بأن منتخبات مثل المغرب والسنغال والسعودية وكوريا الجنوبية واليابان والإكوادور والمكسيك وتونس، لا يمكن أن تتأهل وحتى أن تنتصر، في مجموعات تتواجد فيها منتخبات رموز لقوة الغرب وهيمنه. حدثَ غير المألوف بقوة وبعناد وباستحقاق من المنتخبات الملقبة ب"الضعيفة"، مقابل استسلام للمنتخبات الكبرى وبأسلوبها العقلاني البراغماتي في اللعب، وبنفس قوتها البدنية والتكتيكية والاستراتيجية في تكبيل خطط الغير ومحركاته. الانتصار استثمار يسوقنا ما سبق إلى الدعوة للانتباه إلى أن كرة القدم في مستوياتها العليا، إنما هي صورة مصغرة لقيم الحداثة بتعددها وعقلانيتها وديمقراطيتها وانضباطها وبراغماتيتها واستراتيجياتها العلمية، وبتعبئة الطاقات وفقا لواقعية ولتربية ولتهييء تربوي بدني ونفسي وثقافي، لا يترك إلا مساحات قليلة للصدفة وللحظ. لا انتصار في كرة القدم العليا للفردية وللانفعالية و"النَّفس" والعزيمة والإيمان بالذات والإرادة، في غياب التخطيط والتدريب الشاق والتمكن من التقنيات العالية ومن الصلابة البدنية الرفيعة ومن اللياقة البدنية العالية: كل هذا الذي ذكرناه هو الفرق بين الحداثة التقدم، وبين والتأخر والتخلف. ليست الانتصارات الكبرى، في استمراريتها سوى نتيجة للاستثمار في الإنسان، ببعد تربوي وبقاعدة تحتية رياضية وتربوية واسعة ومدروسة، تأتي أُكلها بعد الحرث والزرع والسقي والتشذيب والتلقيح والرعاية. هنا نصل إلى الزاوية الثانية. الزاوية الثانية تتعلق بالإمكانات الفردية المتوفرة للنخبة الوطنية، بالإضافة إلى العوامل المذكورة في الزاوية الكروية أعلاه، ونقصد جوانب السياق النفسي والاجتماعي والثقافي، التي سيتم خوض المباراة فيها، سواء بالنسبة للفريق أو بالنسبة للخصم. علما بأن الصورة المرسومة للفريق الخصم مسبقا على المستوى العالمي والإقليمي تؤثر نفسيا، على مستوى شعوري ولاشعوري، في اللعب وفي نتيجته. فخوض منتخب إفريقي لمقابلة في نهائي كأس العالم ضد منتخب أوروبي، لا يمكن ألا تتأثر بسمعتي هذا وذاك، وبصورته المرسومة مسبقا عالميا، وبتاريخ ثقافة كل بلد ومكانتها العالمية لغة وفكرا ونمط عيش ومظاهره، التي لها تأثير نفسي واع وغير واع على كلا الفريقين وعلى ما ذكرناه سابقا من عزيمة وإصرار واستعداد نفسي للفوز... إلخ. مسبقا ننعت هذا بالفريق الكبير وذاك بالفريق الصغير، هذا يسعى للفوز والآخر يرجو فقط تمثيلية مشرفة! بيت القصيد في ما نحن بصدده هل يتعلق الأمر بقواعد وضعتها القدرة الإلهية أو الطبيعة ولا مناص لتغييرها؟ أم أنها قواعد وضعها الأقوياء ويكرسون بها تفوقا سياقات فرضته وأخرى قد تغيره؟ الركراكي، حكيمي والآخرون ليس لدي جواب قاطع لكن بعضه يتبادر بقوة الواقع والرغبات في التقدم إلى الذهن. قال المدرب الوطني وليد الركراكي بدارجته الدالة -ومعه أشرف حكيمي ولاعبون آخرون وهم الأغلبية في النخبة الوطنية- بأنه يسعى لجعل اللاعبين المغاربة بأن يستغلوا، ما تربوا عليه في الغرب من عقلانية وبراغماتية وواقعية وتكتيكات واستعداد بدني احترافيا، وتزويج كل ذلك مع "تمغربيت" المتمثلة في حب الوطن وروعة الجماهير والشعب والدفء الاستثنائي والعارم الذي يوفرانه للمنتخب، لتقديم قوة كروية أصيلة الطابع وكونية البنيات: هل من بلاغة أكثر، فالناخب الوطني السيد وليد الركراكي يتحدث، عن وعي فيما يبدو -وبلكنة الجيل الثاني الثالث لأبناء المهاجرين الدالة على قوة العرى مع هويتهم وبلدهم وأصولهم- عن وصفة التحديث وإشكالاتها بين "الأصالة والمعاصرة"، التي خضعت ومازالت لتشريح المفكرين وتساؤلاتهم واستقراءاتهم ولا تزال. والفرق بينه وبينهم أن له حظ التطبيق الفوري لما يراه تركيبة ناجعة: في هذا السياق ومن منظور بصري، تحمل فيديوهات وصور بعض لاعبينا وهم يعانقون والداتهم وآباءهم، بسحناتهم المغربية الأصيلة وبعفويتهم الجميلة، شحنات وجدانية وعاطفية وسيميائية، تثلج القلب وتفرحه، بقدر ما تحمل دلالات حول منجم الذهب الذي يحمله الشباب المغربي، رغم كل الغزو ورغم كل الهدر الزمني الذي يكرسه بعض التخلف الذي مازال يسكن نسيجنا الاجتماعي. إنها صور تقول إن باب السير بعيدا مفتوح أمام "أسود الأطلس" الواعدين.