أيها اللَّبقُ، الأنيقُ، المتواضعُ، العميقُ، الكريم بلا حدود، المتفاني في خدمة الغير، الطيّبُ، السّموحُ: السلام والسكينة، وشآبيب الرحمة والمغفرة على روحك الطاهرة. يا صديقي الإنسانَ الأديبَ، أيها المهديُّ، يا بوشتى، ياحاضي، يا الحمياني. اجتمعت فيك الأسماء والكُنى والألقابُ كما اجتمعت فيكَ الخِلالُ والخصال، والقيَم التي صرنا نفتقد أكثرها اليومَ. فهل أنسى؟، وكيف أنسى ما كنتَ تُبادِئُني به آنَ لُقْيانا بعد غياب، غيابي أنا بالذات؟: "يْلاَ غْفَرْ لك اللهْ، ألكافرْ بالله..؟". هي لازمةٌ اعتدتُ سماعها منك كلما التقينا وتصافحنا وتعانقنا، وصفَحْتَ، وارتأينا أن نلعب لَعبةَ النرد في العدِّ والرَّدِّ تعويضا عن خسارة الأيام، ودَرْءا للبعاد والغياب، وإِنْساءً للمَلاَمة الأخوية الصادقة والعتاب. كنتَ ترى الجحودَ والنكرانَ والإشاحةَ، عُمْلَةً ساريةً مستشريةً ليس بين الناس بما هم ناسٌ، ولكن بين بعضٍ من أصدقائك الذين اعتبرتهم، وظللْتَ تعتبرهم حتى بعد أن اكتشفتَ خِسَّةَ معدَنِهم، أصدقاءَ ورفاقَ قلمٍ ودربٍ وحياة. لكنك، وأنت السموحُ الفاضلُ، كنتَ تغفرُ لهم جحودَهمْ ونفاقهمْ حين يحضرون إلى مائدةٍ أو ندوة أو ملتقى أدبي، أو أمسية شعرية، وما كان أكثرَها على عهدك أيها الأديبُ الإنسانُ. تتدبرُ أمرَ تمويلِ الأنشطة الأدبية والثقافية، قاعاتٍ وأفضيةً، وإقامةً، وطعاما وشرابا، وابتهاجا وحبورا لأنك كنتَ تحظى وأنت الحاضي بتقدير خاص من قِبَلِ أوساط ثقافية بالمدينة، ومؤسسات عمومية، وجمعيات وأحزابٍ وأعيان، وأصدقاءَ من مختلف المشارب والهيئات. وبالإمكان القولُ من دون ادّعاءٍ أو تَرامٍ أن فرع فاس لاتحاد كتاب المغرب، كان أنشطَ الفروع طُرّا، بفضل حِنْكَتك في التسيير، وحسنِ تدبيرك، ومحبةِ الناس لك، وديبلوماسيتِك الناعمة، وسريرتِك النقية الخالصة. كنتَ تسعى يا صديقي الكبير وذاك دأْبُكَ- في فض الخلافات بين الأصدقاء والكتاب، ورأْبِ الصدع والشقاق الذي يحدث بين الصديق والصديق، والكاتب والكاتب. ولا تعلو محيَّاكَ الفرحةُ، ويتراقص بؤْبُؤاكَ، ويتندَّى محجراك لمعانا، وضوءا وصفاءً كأنك طفلٌ إلا بعد أن ترى الصفحةَ طُويَتْ، والمضغةَ السوداءَ اقتلعتْ، واللغوَ والكلامَ والثرثرة سيطرتْ، وصارتْ سيدة المكان، سيدةَ السهر والسمر، والسفر، والجذبة والجدية والعربدة. أقلتُ كأنك طفلٌ؟، نعمْ: لقد كنتَهُ: نقيّاً من لطخة الغيبة والنميمة، ووحْلِ القيل والقال، أبيضَ القلب واليد، أسرارُك على فمك، وعفويتك ناطقةٌ وشفافةٌ، ومديحُك لفلان وفلان لِما أتَيَاهُ من بديع إبداع، ومنعطق قص وكتابة، على لسانك آنَ يجمعنا جمعٌ، أو يحتضننا مقهى أو فضاءٌ آخَرُ يحفُّه العطْرُ، ويغمره الضحكُ والدُّعابةُ والصخب الإنسانيُّ الجميلُ. هل قرأتم ما كتب حاضي الأديبُ؟. من لم يقراْ له، فأنا أدعوه لقراءة ما خلَّفَ من إرث ثقافي وإبداعي رفيعٍ ورائقٍ، شافٍ وعافٍ، لذيذٍ ومفيدٍ على قلته، والقليلُ الذهبُ، والكثيرُ الغُثاءُ والحديدُ، وذلك عرفٌ وحقيقةٌ يعرفها النقاد ومؤرخو الآداب الإنسانية. ومن كان قرأهُ فلْيَسْتَعدْهُ ثانيةً، ليستعيدَ مناخَ وأجواءَ مرحلة خصوصية ومشتعلة. وليستعيدَ عذوبةَ اللغة، وسحرَ القصّ والوصف، وسلاسةَ وانسيابَ الصوت والسرد والحكي. إن دعوتي هذه لم تُمْلِها لحظةُ التأبين، بل اقتضاها قول الحق، وواجب الذكرى والوفاء. وكيف لا؟، وروحه تطوف علينا الآن سمْحةً زاهرةً مُتْرعةً بالضوء والسكينة والرحمة. إنما هي دعوة أومن بها كما آمنت دائما بأنه أحد رواد القصة القصيرة بالمغرب من خلال ما أبدع يراعُهُ، وزَرْكَشَ قلمُه. (البحث عن لحظة فرح ثقوب في السماء الضفة الأخرى). كما أعتبره نزاريا مغربيا نادرا إلى جانب المرحوم الشاعر محمد الطوبي وليست الإشارة قدحا- في وقت عزَّ فيه الإبداع الفوَّاح البوَّاحُ بالحب والرومانسية الرقراقة، واللغة المشذبة الزاهية، والأسلوب المرهف والهفهاف، والشاهد على ذلك: (النشيد السري مراثي العاشق وفراشات تنام فوق صدري). فبالقراءة نَنْتشِلُه من قاع النسيان، ونَسْتَلُّه مبعوثا حيّا حَيِيّاً من وَهْدة السكون الجاثم الأبدي البارد. ذلك أن النسيان -عزيزاتي، أعزائي- أقسى من الموت. أيها العزيزُ.. أيها الأديبُ والإنسان: لم تتخطَّ يوما رقابَ الحضورِ لتجلس في الصفوف الأمامية الأولى سعيا وبحثا عن ضوء باهرٍ مُصْطَنع، وشهرةٍ مخدومةٍ مزَيَّفة بمناسبة لقاءٍ أو محاضرة، أو توقيع، أو مائدة. كما زهِدْتَ كثيراً في حضور الأنشطة والملتقيات الشعرية التي تُعْقَد في هذه المدينة أو تلك. كان يكفيك تواضُعُكَ وأنفتُك، وكبرياءُ روحك، ونكرانُ ذاتك، دِثارا يقيك التدافعَ والتحاسدَ والبَغْضاءَ؛ وبيتاً مريحا ولا أروحَ، وسَكَنا رَطيبا هادئا ولا أليقَ وأوفقَ، ومهرجانا صامتا ولا أحفلَ، وإنصاتا عميقا ولا أبلغَ. هيَ ذي شيَمُكَ وقيَمك، وخصالك، وخِلالُك التي تَفَرَّدْت بها، وتشَخْصَنتَ، وتَجَوْهَرْتَ. هكذا عرفناك وخبرناك، وعايشناك أوقاتا ولا أطيبَ وأنعشَ، وعقودا ولا أنضرَ وأخصب، ولياليَ ولا أسمر وأروعَ. ولم تكن -يا سيدي- لاهثا متهافتا متكالبا على الوزائع والجوائز والقِصاع، والتتويجات. كما لم تكن طفيليا ولا طارئا على الموائد والولائم والمآدب كالفساطيط تَبْسُطُ سجاجيدَها، وتَبُثُّ زرابيَها، وتَشُدُّ طُنُبَها إلى هذا المنحى أو ذاك. فعزاؤنا أنك تركت فينا إرثا إبداعيا جميلا وبديعا، وصحبا وفيا مخلصا، وذِكْرا طيبا، وحضورا بهيا شامخا؛ وَكأنني أراك لا تزال تخطر بيننا، وتذرع شارع محمد الخامس، فارعا محترما مَهيبا لترتاحَ هُنيهةً بمقهى زِنْجبارْ، أو مقهى مَرْحَبا، أو مقهى الكوميديا، أو فضاء نادي فاس الرياضي، أو ترْكَنَ في آخرة الليل، وفي الأصباح الندية البليلة أو المشمسة، بمنزلك الجميل المطل على القدس، المشرف على تقاطع شارع وأزقة هادئةٍ في الصباح، ساكنةٍ في الليل، ضاجّة صاخبة عند منتصف النهار وبعده، بالسيارات والسابلة والمنبوذين والمتعبين؛ لتقرأَ كتابا أو تُنَمْنِمَ قصةً أو قصيدةً، أو تطلقَ حنجرتَك الذهبيةَ بأغنية من أغاني فريد الأطرش الذي كنت تحبه وتعشقه؛ ذهبيةً رغم عَطب الداء والتبغ والبرد، والسهر، والكلام المجدي الذي لا ينتهي في شؤون وشجون الرياضة والإعلام والسياسة، والشعر والرواية والأدب، وقضايا منظمة اتحاد كتاب المغرب. سيدي الكاتب العام لفرع اتحاد كتاب المغرب بفاس منذ عقود، الذي قاد دفَّةَ المنظمة محليا باقتدار ورويَّة وأناةٍ وتَبَصُّر وحكمة وسلاسة، فأوصلَ السفينةَ إلى ما رَامَه عزمُه وحدْبُه وتفانيه، وما رامَه وانتظره الأدبُ عينُهُ بما هو مكمن المُثُل والقيم، ومجلى الخير والحب والجمال. تَصارَعْنا، تَشَتَّتْنا، تراشقنا بالصادق من النعوت والكاذب منها. تَكايَدْنا، ولزمتَ الحيادَ، حيادَ أولي الألباب العقلاء النبلاء والحكماء. ومازلتَ الكاتبَ، فبعدك لم ننتخبْ أحدا، وكيف ننتخبُه والكاتب الخلوق الخدوم الإنسان الأديب الأريبُ لم يعد بيننا؟ سنظل نحتضن شخْصَك، مكانتًك، حكمتك، ضحِكَك، صوتَك، فرحتَك الطفوليةَ عندما نجتمع بك ومعك وحولك، في الليالي المشهودات الباذخات غِبَّ ملتقى أدبيٍّ، أو ندوةٍ فكريةٍ، أو مائدة مستديرةٍ معرفية، أو أمسية شعرية، أو مناسبةٍ سنيَّةٍ غالية. "إيلاَ غفرْ لكْ اللهْ ألكافرْ بالله........ ". كأني أسمعك تقولُها الآنَ، وأنتَ تشير إليّ بسبابتك ويدِك الكريمةِ لائما مُعاتبا متى ما دخلت عليك في مقهاك أو ناديك الأثير، أو اقتحمت عليك خلوتَك النادرة لأنك كنت اجتماعيا بامتياز. لا يلَذُّ لك العيشُ إلا وأنت في المعمعان، في الوسط، في الصخب والهدير، بين الأصحاب والأحباب، والأصدقاء والخلان، والرفاق، والمعجبين والمعجبات. وها هم حولك الآن يجتمعون بك في ذكراك ليشهدوا بشخصك المثالي، وإنسانيتك الرَّحبةِ، ومروءتِك، وصُحْبتِك الفذّة، وإيثارِك المعلوم، وأدبِك الرفيع بالمعنيين: أدبِك أي أخلاقك وسجاياك، وأدبِك أيْ إبداعك وثقافتك. وكأنني أشاهد حمرة الخجل تُضَرِّجُ وجنتيْكَ، وأنت تنظر إلينا من هناك حيث مٌقَامُ روحك مع الصّدّيقين والشهداء والصالحين والأطهار. وكنتَ كذلك قيدَ حياتك حين تُمْتَدَحُ، ويُشادُ بصنيعك وسلوكك، وتفانيك، وإبداعِك، ودماثة خلقك: تَدْمَعُ عيناك، وتتلعثمُ لاَ عنْ فَهاهَةٍ وَعَيٍّ لغويٍّ، وفقرٍ بلاغيٍّ وتبليغي، وإنما عن نفس أبية شريفة عفيفةٍ يُخْجِلُها الإطراءُ والثناءُ والعرفانُ، فما بالكُ إذا كُرِّمْتَ واحْتُفيَ بك، واستُهْدِفَ أدبُكَ موضوعا للقراءة والدراسة والمقاربة والاحتفاء عن جدارة ومحبة واستحقاق. وها أنت ترحلُ على حين غرَّةٍ. أمَضَّكَ وأسقمك وأقعدك الداءُ الوبيلُ الذي لم يكن عابرا كما توهمنا، فَرحلتَ في عز الوباء الذي شَلَّ التزاورَ واللقاء. وها أنا أقول فيك يا صديقي الكبير، ما قاله شوقي الأميرُ راثيا صديقه شاعر النيل حافظا: فيا فاسُ، يا عروسَ المدائن، يا صبيةَ الدهور، يا جميلةَ الجميلات، يا خميلةَ الحكماء والشرفاء، والصلحاء، والشعراء، والعلماء، والأدباء، والفنانينَ. يا سماءَهُ وهواءَه وترابَهُ؟: ماذا حشَدْتِ من الدموع لحاضيٍّ //// وذَخَرْتِ من حزنٍ لهُ وبكاء؟ ووجَدْتِ من وقْع البلاءِ بفقْدِه //// إنَّ البلاءَ مَصارِعُ العظماءِ ماذا وراء الموتِ من سلوى ومن //// دَعَةٍ، ومن كرمٍ، ومن إغْضاءِ؟ اِشرحْ حقائقَ ما رأيتَ ولمْ تَزَلْ //// أهلا لشرحِ حقائقِ الأشياءِ كم ضِقْتَ ذَرْعا بالحياة وكيدِها //// وهتفتَ بالشكوى من الضَّرَّاءِ اليومَ هادنتَ الحوادثَ فاطَّرِحْ ///// عِبْءَ السنينِ، وأَلْقِ عِبْءَ الداءِ خلَّفْتَ في الدنيا بيانا خالدا ///// وتركتَ أجيالا من الأبناءِ وغدا سيذكُرُكَ الزمانُ، ولم يزَلْ //// للدهر إنْصافٌ وحُسْنُ جزاءِ