أصبحت حرارة الأرض ساخنة، بحيث ارتفعت أسهم القيظ بشكل كبير جدا. وضع يكتوي بناره الجميع. كان، تصور سيناريو غليان قبَّة الطهي الحالية، قبل عقود، مجرد شرود خيال؛ يُتداول أكاديميا فقط داخل أروقة العلماء المختصين. نعم، ماكنتُ أتسلى باستشراف ممكناته البعيدة للغاية، عبر بوابة الشاشة الصغيرة؛ وسيلة التسلية المذهلة، خلال تجمعات الأماسي الأسرية محتشدين بسعادة غامرة حول مائدة العشاء، نتابع بلهفة لا توصف متواليات مثيرة لأحد الأفلام الهوليودية النادرة آنذاك. أريد القول، أضحى اليوم عند رأسي مباشرة حقيقة لا غبار عليها. مشاهد اعتُبرت خلال ذلك الزمن، احتمالا خارقا يتجاوز الافتراض، نسجه خيال أهل السينما بهدف الرهان فنيا وتجاريا على التشويق والإثارة، بالتالي يبقى الأمر واقعيا مؤجلا إلى مستقبل يظل هلاميا بامتياز؛ دون مسوغ واقعي يذكر. بيد أنه، للأسف توقف السينما على بقائها مجرد انتشاء فانتازي، كي تعيش الإنسانية برمتها فعلا تلك الوقائع بقضها وقضيضها، دون التباس يذكر أو خطأ في تقديرات التنبؤات التخمينية وكذا استقراءات العلماء المختصين: حرارة جهنمية، شمس خانقة جاثمة باستمرار فوق رؤوس الجميع وسط كبد السماء، شحّ الموارد المائية، أمطار هوجاء مزاجية، مجاعات وأوبئة، نضوب الموارد الطبيعية الأولية... باختصار تصحر مهول لكوكب الأرض، جعل الأخير يئنُّ وسط مقلاة ضخمة ساخنة. استمر خطر الاحتباس الحراري، إلى غاية بداية الحديث جديا عن اتساع ثقب الأوزون سنوات الثمانينات، خطابا نخبويا صرفا يهم أقلية قليلة من العقلاء، لكن مع مرور السنوات تجلت نتائج ذلك على أرض الواقع، يشعر الناس بآثاره المباشرة. اختفاء، تقريبا شبه واضح، لتواتر الفصول الأربعة وفق إيقاع منتظم كما السابق، لصالح القيظ فقط، وكلما زادت حرارة المحيط الجوي، تبعا لتطورات شتى نتائجه المدمِّرة، تراجع بكيفية مهولة الدفء الحميمي بين البشر، واضمحلت حرارة العيش المشترك، التي تبقي الطبيعة طبيعة، والإنسان ابنا شرعيا لها، بارَّا بها، تحافظ على كنه طبيعته غير الملوثة. هكذا، لم تعد الأرض أمّنا الآمنة والرحيمة، ولا الطبيعة حضننا الضخم، ولا المحيط الجوي واحتنا الفيحاء، ولا الشمس خيوط دفء ناعمة ترسم على الدوام أنسجة لحيوات حياة مشرقة، بل صارت الطبيعة عدوَّة لوجودها، لم تعد تعرف معنى للاستئناس لكنها أخذت سبيلا دون رجعة جهة الحالات القصوى، والعناصر الأربعة وباء على ذاتها تلتهم بقاءها، بكيفية جنونية لم تكن معهودة ولا منتظرة: الماء أعاصير أو ندرة، النار حرائق مكتسِحة، الهواء قنابل سامة، التراب زلازل هستيرية. ذلك، أن المكونات الأربع لنشأة الكون، كمصدر طبيعي لاستمرار الإنسان، انتقلت بناء على حالة اكتئاب مزاجية، صوب حالة متطرفة انتهت بالأرض إلى حالة موت سريري، وجعلتها قطعة جرداء. هل تعيش الأرض أنفاسها الأخيرة؟ وقد بلغت مرحلة إنهاك صعبة، بحيث أضاع جهازها المناعي توازنه البيولوجي ثم انتهت إلى مطبِّ الحالات القصوى، بالتالي انتفاء سبل الحكمة والاعتدال. بعد كل شيء، تجسد جهازا عضويا تشكِّل عصاراته، طاقة مادية محكومة بعمر تحاصره حتميا قوانين الزمان. تجلت دائما علاقة الإنسان بمصير الأرض، وفق وازع حساسية مفرطة، وتجاذب قطبي متباين في غاية العمق الوجودي؛ قدر غرابته النفسية: – قبل تسيُّد الإنسان على الأرض وإحاطته المتقدمة بأسرارها الظاهرة والخفية، حافظت على أصالة عذريتها وفتوة جوهرها البدائي. – احتاجت حقيقة الأرض كي تدرك معناها، وجود الحيوان الإنساني الذي ميزه قياسا لباقي الحيوانات، نزوعه الفضولي نحو الاكتشاف والاستيعاب والتأثير. – كلما اتسعت معرفة الإنسان بالأرض، مثلما الشأن مع باقي القوى العظيمة الأخرى، تراجع لغز الأخيرة، ثم انتقل في المقابل سلوك الإنسان إلى مراتب الجشع، بوابة شتى مدارج الخراب والانهيار. – معنى الجشع ضمن هذا السياق، تقويض شفرات الأرض الأصيلة، ووضعها رهن منظومة أخرى لا تنسجم قط مع طبيعتها. النتيجة، أهلا بعهد الكوارث المصيرية. عموما، ومثلما استحضرت سلفا الرؤى التنبؤية وبعد ذلك المعطيات الواقعية، فقد ولج كوكب الأرض مرحل السكتة القلبية، كما يعكسه راهن المؤشرات التالية: التقلبات المناخية المفرطة، ارتفاع مستوى سطح البحار نتيجة ذوبان الجليد، انقراض أنواع نباتية وحيوانية، التصحر، تفشي الأمراض والأوبئة، اختفاء المدن الساحلية غرقا، دمار البنية الزراعية، اشتداد وطأة حرائق الغابات... قياسا لمختلف ذلك، بات مستحيلا إنعاش ذاكرة أمنا الأرض، لأن القوى الدولية الكبيرة المتحكمة في مصير البشرية، أحرقت جل مراكبها دون أمل يذكر في العودة، ولم يعد لها ما تخسره قياسا لمآلات الوضع الدولي الجديد على المستوى الجيو-سياسي. فعلى الرغم من كل الاتفاقيات والمؤتمرات والتوصيات والتحذيرات، يصعب على أي قوة ضمن الدائرة الضيقة الالتزام باتفاق معين، بخصوص كبح جماح الاحتياج إلى الوقود الأحفوري، بصيغة أخرى، ذكاء الإنتاج الصناعي الذي بوسعه منح الامتياز لهذا الطرف أو ذاك في خضم منافسة شديدة على الموارد وأسباب الهيمنة والتمكن.