بدا أن الرئيس السابق ولد عبد العزيز لم يكن حليما بما فيه الكفاية، عندما تحدث من مدينة بوردو أمام وفود من الجالية الموريتانية في الخارج، فقد تهجم على أنصار الراحل جمال عبد الناصر، صاحب المقولة الرائعة: "إنّ حرية الرأي هي المقدمة الأولى للديمقراطية". ورغم قدرات ولد عبد العزيز المذهلة في فن المداهنة والمداراة، والتي أحسن توظيفها في إسقاط حكم معاوية ولد الطايع، وإخراج اعل ولد محمد فال من لعبة الانتخابات، وخلع سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، لم يخف استياءه من أصحاب الأيديولوجيات في ظهوره الأخير، بعدما وظف الحيل للعبور إلى فرنسا عبر استغلاله لحالته الصحية ليتقمص دور المعارضة الموريتانية من الخارج ضد النظام.. هي مداهنة قد يجدها بعضهم ليست غريبة على ذاكرتنا الشعبية، إذ نتذكر ونحن أطفال قصة التجار الموريتانيين في داكار، كيف كانوا يمارسون حيلة الإيهام باستخدام كلمات من اللغة "الوُلوفية" حتى لا تتم مصادرة ممتلكاتهم.. فيردد على سبيل المثال الشعبي ولد النَبِ "nguiryala" ويقول ولد الشيباني "amoul coubere"، ليتقمصوا بترديد هذه العبارات شخصية الفقير المعتر لعلهم ينجون بتجارتهم في داكار. ورغم علمنا بهذه الأنواع من الحاسة السادسة لدى ولد عبد العزيز وقدراته في المداهنة والمداراة، والمستوحاة ربما من ذاكرتنا الشعبية، خرج الرئيس السابق ولد عبد العزيز في رحلة العبور إلى باريس، وهو يرتب لمؤتمره في بوردو، والغريب في الأمر أنه خالي الوفاض، ثم ليشغل المتابعين بالسؤال الذي ظل يدور في خلد الجميع أثناء المؤتمر.. إلى أين سيصل الرئيس السابق؟ وهل سيقلب الطاولة على نفسه وعلى خصومه؟ ليتبين بعد ذلك بأن موقفه فقط تكتيكي ومناورة سياسية لتمرير رسائل مشفرة، إذ أن ولد عبد العزيز وهو يمرر الرسائل تلو الرسائل لم يكن سوى متقمص لدور "أم قشعم" التي سعت إلى الوقيعة بين بني قومها، لتتحول هي الأخرى في ذاكرتنا الشعبية العربية إلى مثال ينذر بكل شر مستطير، وفي الحقيقة هو لم يكن في حاجة لأسئلة الجالية الموريتانية في الخارج حتى يكشف المستور ويفرق ويسود، لكنه أرادها فقط تهديدا ووعيدا ففضحه لسان حاله القائل: وصل الله على المختار من آل هاشم * ما بكى صبية أبوهم "سَيْزَرَهُ" الحُكْمُ. و"سَيْزَرَهُ الحُكْمُ" في لهجتنا الشعبية الحسانية يعني أن الدولة صادرت ممتلكاته. نعم إن الحكم لله، والأمر لا ينحصر في ما قاله أو لم يقله الرئيس السابق ولد عبد العزيز في خطابه، بل الأهم من ذلك هو ما كان، وما فعل، وما حضر قبل الخطاب، وما سيفعل وما ستؤول إليه الأمور بعد... نعم لذلك لا بد لرئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني من أخذ زمام الأمور وأن يسمع منا معشر الشعب والمواطنين، ويشركنا في القرار والتوجهات عند الدخول في معركة سياسية وطنية واقتصادية من هذا الحجم بما تحمله من عواقب وإرهاصات، وتمليه علينا من واجب وطني لإصلاح ما أفسدته عشرية ولد عبد العزيز. وإشراك الشعب هنا لا يكون بالنزول إلى الميادين والاشتراك بمهرجانات الدعم، بل إن الشراكة الحقيقية تكون بفتح باب اللقاء والتشاور بين الرئيس والمواطن وتبادل الآراء، حتى نكون جميعا مشتركين في القرار وبرامج التشاور الوطني لتنفيذها ومواجهة ارتداداتها معا، وهذا يتطلب دمج الشباب وإعادة بناء الجبهة الداخلية الداعمة للرئيس ولد الشيخ الغزواني، وكذلك بناء الجبهة الخارجية على مستوى إعادة ترتيب الحقائب الدبلوماسية بالخارج لبناء تحالفات وعلاقات على أساس المصلحة الوطنية، وحرصا على مراعاة التغيرات الإقليمية والعالمية بما تحمله من انعكاسات على أمننا القومي واقتصادنا الوطني. ولا أنكر أن مجمل هذه الملاحظات وغيرها ليست سهلة، ولكن ليس أمامنا سوى هذا التوجه لإعادة الأمور إلى نصابها وبناء الجمهورية. وبالمختصر المفيد أقول: أصارحك يا فخامة الرئيس غزواني، لأنك إلى حد الآن استثناء محفوظ، قد وصلت إلى الحكم منتخبا لا ريب، وكان لك في ما مضى من فترتك إجماع وطني ومريدون تملكت قلوبهم دون شك، حتى أني في مقالة سابقة، كنت قد وصفتك بناصر الوطن، إنني اليوم أكثر قناعة من أي وقت مضى بأنك ناصر الوطن، وبأن الرئيس السابق ولد عبد العزيز، لا شك يحسدك، ولذلك لا تكترث، فحكمة "مكيافيلي" في تعداد حصون الحاكم تقول: إن أحصن الحصون التي يمكن لحاكم أن يحتمي بها هي قلوب شعبه. وإني أكتب إليك يا فخامة الرئيس ولد الغزواني بهذه العفوية وهذه الحروف وأنا على تمام اليقين أن كلماتي لن تصل إليك.. ولكن سأكتب...