تغيُّرُ النظام العالمي سيُلقي بظلاله على علاقات المغرب بشركائه القدامى، وعلى رأسهم فرنسا، شئنا أم أبينا. ونحن، اليوم، نشهد الكثير من الإرهاصات التي تؤكد هذا المعطى. لم تعد فرنسا تجد في المغرب حديقتها الخلفية، التي تنفس من خلالها على كل أشكال احتقاناتها الداخلية. وكلنا نذكر تصريح الوزير الفرنسي البذيء، الذي قال فيه إن المغرب شبيه بعشيقة فرنسا التي يخاصمها مساء ويدافع عنها صباحا. اليوم، شبّ المغرب عن الطوق، وهناك أحاديث عن تفويت الشطر الثاني من مشروع القطار فائق السرعة "التي جي في" إلى اليابان. طبعًا، لن تقبل فرنسا بأن تكون للمغرب خيارات مستقلة؛ وهذا ما دفعها إلى تأليب تونس على بلادنا، عبر الضغط على لوبياتها هناك لتغيير موقف تونس من قضية الصحراء المغربية. ولن يقف الأمر عند هذا الحد؛ ففرنسا تحاول جاهدة أن تفسد علاقات المغرب بالاتحاد الأوربي. وقد تذهب إلى مدى أبعد من ذلك لإرجاع المغرب إلى بيت الطاعة، حسب ما يعتقده صناع القرار في باريس؛ فهناك أحاديث تروج عن قرب نشر لوائح تخص المبالغ التي أودعها المسؤولون المغاربة، وعن متابعات قضائية لمسؤولين مغاربة في قضايا حقوقية ستشهدها الأيام المقبلة. وإن صح هذا، وهو أمر مرجح خاصة بعد تلويح شكيب بنموسى لوسائل الإعلام بانفتاح المغرب على اللغة الإنجليزية في إشارة واضحة إلى إمكانية فك الارتباط مع فرنسا تربويًا وثقافيًا كمقدمة لفك الارتباط في ميادين أخرى؛ فعلى المغرب اليوم، نظاما وشعبًا، اتخاذ قرارات عملية لمواجهة تبعات اختياراته الإستراتيجية التي ستجره إلى دائرة صراع مستعر سيكون له ما بعده. فرنسا، وباعتراف ماكرون نفسه، تفقد قوتها، والأفارقة اليوم يحددون مصائرهم بعيدا عنها، والمغرب ليس أقل قدرة من مالي ورواندا وغيرها على الاستقلال عن الإرادة الفرنسية؛ بل إنه الأقدر على ذلك، واللحظات التاريخية التي نعيشها اليوم لحظات مفصلية قد تعيد المغرب إلى أمجاده السابقة وقد تؤدي به إلى عقود أخرى من التبعية لا قدر الله. نعم، ما قاله بنموسى مهم جدًا، إن تجاوز دائرة المساومة والضغط؛ إن البلد الذي حرض علينا وسائل الإعلام الدولية والتي توجه مدفعيتها صباح مساء إلى بلادنا لا يستحق أن نربط مصيرنا بمصيره. تابعوا "فرانس 24′′ و"دوتشي فيلي" و"جون أفريك" وغيرها من وسائل الإعلام التي أصابها السعار مؤخرا إنها تصدر في حملتها عن كره عميق لبلادنا، وإن لنا أن نفهم أن تبعيتنا لهم منذ عقود طويلة لم تنفعنا بشيء؛ بل لقد ساهمت في تكريس ضعفنا وتخلفنا. ويجب ألا تلهينا خصوماتنا مع جيراننا، التي تنفخ فيها فرنسا صباح مساء، عن خصومتنا مع المستعمر القديم، الذي لم نتحرر بعد من قبضته كليا. لقد حمل الخطاب الملكي أكثر من إشارة لوسائل الإعلام الوطنية للكف عن استهداف الجزائر؛ لكن جل وسائل الإعلام للأسف لم تلتقط الإشارة وما زالت تردد الأسطوانة نفسها. يجب أن نعي، اليوم أكثر من أي وقت مضى، بأن اختياراتنا الراهنة ستحدد مصير أمتنا مستقبلا تماما كما تحدد مصير الكثير من الدول قبيل الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ فتغيرات النظام العالمي تمس الأقوياء ومن يصطف إلى جوارهم، ومنطق الاصطفاف عادة تحكمه المصالح. ومن المؤكد اليوم أن مصلحتنا ليست مع الفرنسيين إطلاقا؛ فقلاعهم في إفريقيا تتهاوى واحدة بعد أخرى، وقد آن لنا أن نكمل مسيرة الاستقلال التي بدأت منذ سنة 1956 ولم تستكمل بعد.