فيما يلي تتمة مقالنا الذي هو تعقيب عن مقال الدكتور أحمد الريسوني المعنون ب “تكريم المرأة على الطريقة الحداثية”، هذا الجزء الثاني من المقال يتعلق بما ورد في مقال الدكتور حول “الدعارة المقننة” و”تزويج القاصرات” و”الحريات الفردية”: كتب السيد الريسوني: “لعل أسوأ مظاهر الإهانة الحداثية للمرأة هو الدعارة المقننة والمعترف بها”. واعتبر أن هذه الدعارة المقننة أسوأ من الرق والعبودية التي كانت في الماضي (كذا !)، وسوف نغض الطرف عن هذا الاعتبار الأخير لعدم جدوى الردّ عليه، إذ هو كلام لا يمكن أن يصدُر عن شخص عاقل، ويكفينا الردّ المفحم الذي تفضل به الأستاذ سعيد لكحل بهذا الصدد، وكما نكتفي بالقول إنّ ماضي الرق والعبودية بكل مساوئه كان “نظاما شرعيا” في الإسلام على مدى 1400 سنة، ولم يسقط هذا النظام بالمغرب إلا بدخول الجيوش الفرنسية الغازية التي أبطلت أسواق الرقيق في بلادنا. وهل أذكر الشيخ بما كتبه فقهاؤنا آنذاك عندما استنكروا منع الرق والعبودية واعتبروه “بدعة إفرنجية” ؟ أما عن الدعارة المقننة فقد ارتكب الشيخ فيما ذهب إليه خطأ فادحا عندما اعتبر بأن التقنين يزيد من إهانة المرأة وهدر كرامتها، كما لو أن الدعارة غير المقننة، كالتي تنتشر بين ظهرانينا، تكريم للمرأة وتعظيم لها. ولكي يفهم الشيخ حكمة تقنين وتنظيم مهنة الدعارة في الغرب ومنطقها عليه أن يقارن بين الدعارة المقننة في الغرب والدعارة المنتشرة في بلدان المسلمين والتي ليست مقننة ولا منظمة، ففي الغرب المرأة الممارسة للدعارة لديها أوراق تثبت مهنتها وتحظى من خلالها بالأمن أولا حيث تحميها الدولة من المعتدين عليها، كما تحظى بالحق في الرعاية الصحية الدورية والمنتظمة، بينما النساء المغربيات الممارسات للدعارة معرضات علاوة على هدر الكرامة في البغاء لكل أنواع الاعتداء سواء من طرف الأجهزة الأمنية وداخل مخافر الشرطة أو من طرف الزبائن. في الغرب كذلك نجد أنه عبر الفحص الطبي المنتظم تتم حماية النساء وكذا الزبائن من الأمراض، أما في بلدان المسلمين حيث يسود النفاق الاجتماعي والكذب والرشوة فيُعرّض الجميع، نساءً وزبائن، أنفسهم لخطر الإصابة بأنواع الأمراض المتنقلة جنسيا، ولا مجال هنا للوعظ الديني لأنه لا ينفع، فالحاجة الجنسية لا يمكن إيقافها بالوعظ كما هو معلوم، بل باتخاذ الاحتياطات الصارمة اللازمة، والتي ليست هي المنع والحظر اللذان لا ينفعان كذلك بل هي التنظيم والتقنين المدنيين. والمجتمعات الإسلامية تقدم أكبر دليل على ما نقول، لكن فقهاء المسلمين لا ينطلقون أبدا من واقعهم. لا شك أن الدعارة مهنة مهينة للكرامة فليس ثمة ما هو أسوأ من اضطرار المرأة إلى بيع جسدها، لكن المجتمعات الحديثة أدركت الاستحالة التامة لإنهائها، فتعاملت معها بواقعية وفي إطار مفهوم المواطنة، واعتبرت هذه المهنة “شرا لا بد منه”، وما دامت كذلك فلابد من التقنين حماية لممارسيها من النساء والزبائن. يتبين مما أسلفنا خطأ الدكتور الريسوني، فمنع الدعارة وعدم تقنينها لا يؤدي كما زعم إلى نتائج أفضل بل العكس تماما. حيث تبقى الدعارة قائمة وتتم في ظروف تؤدي إلى مشاكل إضافية كانتشار الأمراض والعنف والجرائم. فالذي يرفض ظاهرة ما سلبية عليه أن يقدم البدائل الممكنة وليس مجرد الرفض والدعوة إلى القمع والقهر، لأن النساء الممارسات للدعارة لم تخترن هذه المهنة بل أوقعهن فيها القهر الاجتماعي والتهميش. ومن جانب آخر يبدو أن مشكلة الشيخ أنه لم يستطع الخروج من عقيدة “مركزية الرجل” المتأصلة في الفكر الفقهي التراثي، ولهذا عجز عن التفكير في المرأة الغربية انطلاقا من واقعها الذي هو مختلف كليا ومن جميع وجوهه عن الفكر الذي ينطلق منه الريسوني، عندما قال: “في الدعارة، المرأة العاهرة يستعملها كل من هبّ ودبّ”، حيث يذكرنا بفقهيات “النكاح” التي تتحدث عن “وطئ” الرجل للمرأة و”تمتعه” بها و”قضائه وطره” منها، وكأن المرأة دمية اصطناعية، ولم ينتبه إلى أنّ في الظاهرة التي يتحدث عنها يستعمل الطرفان بعضهما البعض، فالرجل يضاجع المرأة المومس من أجل متعته الشخصية، والمرأة أيضا تستعمل زبائنها من أجل أموالهم ومن أجل القوت اليومي. ومن أخطاء الشيخ في مقارنته الغريبة بين الدعارة والرقّ، قوله إن “الدعارة تُركت للنساء وحدهن، فهي مهانة نسائية خالصة”. والحقيقة أن الشيخ لم يقم بأية دراسة ميدانية ليكتشف وجود دعارة النساء ودعارة الرجال كذلك. ولا يتعلق الأمر هنا بدعارة المثليين فقط، والتي هي منتشرة في كل بلدان العالم ومنها المغرب، بل أيضا بدعارة الرجال الذين تؤدي لهم النساء الثريات مقابل المتعة التي يقدمونها لهن. وهذه ظواهر ربما لا يتسع عقل الفقيه لاستيعابها. إلى هذا الحدّ لا نتحدث إلا عن الأخطاء المعرفية للفقيه، لكنه لم يكتف بهذا، بل أضاف إلى الأخطاء في تقدير الواقع، الكذب على الحركة النسائية والحداثيين والحقوقيين، عندما اعتبر أنّ “المناضلات والحقوقيات الحداثيات، ورفاقهن من الذكور، ليسوا مهمومين ولا منشغلين بمسألة الدعارة والبغاء، بل يتعايشون معها، وبعضهم يدافعون عنها. والسبب هو أنها ممارسة حصلت على التزكية الحداثية الغربية”. والحقيقة أن للحركة النسائية موقف واضح تعتبر فيه بأن الدعارة آفة اجتماعية تعكس مظهرا من مظاهر تهميش المرأة وحرمانها من الولوج للعمل، فالحركة النسائية عكس ما ذهب إليه الفقيه تبرز أسباب الظاهرة وتقدم بدائل للتقليص منها، وتبرز عبر إحصائيات دقيقة بأن ولوج المرأة إلى الشغل يتراوح بين 27 و 31 في المائة في أحسن الأحوال، وتدعو من هذا المنطلق الدولة إلى إنهاء التمييز لكي تتوفر للمرأة ظروف العمل الذي يضمن العيش الكريم. وبهذا الصدد نطالب الشيخ الفقيه بأن يطلعنا على وثائق الحركة النسائية التي تساند فيها الدعارة أو تدعو إليها كما زعم. وقد ارتكب الشيخ خطأ آخر عندما وقع في الخلط بين الحريات الفردية والعلاقات الجنسية خارج الزواج، وبين الدعارة، حيث قال: ” الجمعيات الحقوقية والنسائية عندنا مهمومة ومنشغلة بالنضال لأجل رفع الحظر والتجريم عن العلاقات الجنسية خارج الزواج، مما سيوسع وعاء الدعارة ويجعلها في متناول الجميع”. والحال أنه لا علاقة بين الأمرين، فالممارسة الجنسية الفردية الناتجة عن عشق أو علاقة زمالة أو صداقة بين طرفين تنتج عنها علاقة جنسية رضائية ليس فيها اغتصاب أو اعتداء ليست دعارة ولا جريمة، لأنها ليست مهنة ولا تتم من أجل المال أو كسب القوت أو بغرض إلحاق الضرر، ولكن يبدو أن الشيخ يقفز من موضوع إلى آخر لتصفية حساباته مع الحريات التي تقلقه، لأنه لا يجد لها مكانا في منظومته الفكرية التراثية. لم يكتف الشيخ بهذه الأخطاء بل زاد عليها القفز من الدعارة إلى ما سماه “تزويج القاصرات” قائلا:” نجد النضال الحداثي عندنا، بدل أن تؤَرِّقه مشكلة الدعارة، وبدل أن يجعلها في مقدمة معاركه الحقوقية، نجده يختلق ويخوض معركة دائمة ضدّ ما يسمونه "زواج القاصرات”. وإمعانا في الكذب والتدليس أضاف دون أن يرفّ له جفن قائلا:” ومعنى هذا أن الحرب القائمة ضد ما يسمى: "زواج القاصرات"، ترمي إلى منع الزواج على من هُن في السنة السابعة عشرة والسنة الثامنة عشرة”، والحقيقة أن الأمر يتعلق بظاهرة خطيرة لا يقبلها عقل سليم هي السماح باغتصاب الطفلات في سن السابعة والتاسعة إلى الثانية عشرة، بكل من ميدلت و ورززات ومناطق أخرى، ويكفي أن يلقي الشيخ نظرة على تقارير جمعية “إطو” مثلا التي تتوفر على كل التفاصيل والأرقام بهذا الشأن، فاغتصاب الطفلات باسم الزواج لا يقدم عليه إلى المرضى النفسيون، وتبريره في المادة 20 من المدونة هو استغلال لحالة استثنائية وتحويلها إلى قاعدة حتى وصلنا إلى وضعية كارثية تقول بأن نسبة اغتصاب القاصرات باسم الزواج قد وصلت سنة 2016 إلى أزيد من ضعف ما كانت عليه قبل عشر سنوات (حيث تجاوزت 45000 حالة). والمضحك أن الشيخ يتحدث عن “العشرة الحلال” وهو يخوض في موضوع اغتصاب الطفلات، وما لا يعرفه أو ربما يتغاضى عنه هو أن الإحصائيات تقول إن الأغلبية الساحقة من الطفلات اللواتي يتم تزويجهن / اغتصابهن قبل السن القانونية بكثير يكون مصيرهن الطلاق بعد سنة أو سنتين، وقد تطلقن بولد أو اثنين وهنّ طفلات، والغريب أنه لا أحد من الفقهاء والقضاة ينتبه إلى أن سبب الطلاق هو أن الطفلة لا يمكن لها أن تقوم بأعباء الزواج لأن نموها النفسي والعقلي لم يكتمل، حيث يعتقدون أن النمو الفيزيولوجي كاف “للاستهلاك الجنسي” للطفلة. والحل الوحيد أمام هذا الواقع المزري هو تعديل مدونة الأسرة لحذف ذلك الاستثناء الذي يبيح اغتصاب القاصرات باسم الزواج، حيث ظهرت نتائجه الكارثية، ولكي يتفق معنا الدكتور الريسوني يكفي أن نطالبه بأن يتخيل أن حفيدته البالغة من العمر ما بين 7 سنوات إلى 12 و 17 سنة يتم تزويجها لشخص بالغ وحرمانها من الدراسة، فلا شك أنه سيغير رأيه على الفور. إننا نتمنى مجتمعا بدون دعارة، يعيش فيه الجميع بكرامة، لكن سيكون علينا أن نجد لكل مواطن ومواطنة عملا شريفا، أما الشيخ فيبدو أن ليس لديه من حلّ سوى البلاغة والزجر والهجاء. في المقال القادم سنتناول حديث الدكتور الريسوني عن: “الابتزاز الجنسي في المحافل والمؤسسات”، و”عارضات الأزياء وملكات الجمال”، وكذا” زوجات الرؤساء والزعماء السياسيين”.