ما الذي يجمع بين المشهد البربري لإعدام الطيار الأردني حرقا وهو حي من طرف تنظيم "داعش" الإرهابي، وبين مشهد آخر لا يقل وحشية لإعدام امرأة بجز رأسها في الشارع العام في العربية السعودية؟ كلا الجريمتين ارتكبت باسم الدين، واستنادا إلى نفس المرجعية الفكرية التي تلتقي عند أحمد ابن تيمية، المرجع المذهبي لتنظيم "داعش" الإجرامي، وللفكر الوهابي الذي من رحمه خرجت الكثير من التيارات المتطرفة مثل "القاعدة" و"داعش" و"جبهة النصرة" و"السلفية الجهادية". فسواء تعلق الأمر بالذبح، أو جز الرؤوس، أو أكل القلوب البشرية، أو الحرق، أو التطهير العرقي، أو العنف ضد الأقليات، أو الاغتصاب "الشرعي" للنساء، فالجريمة واحدة والمنفذ واحد. إنها نفس آلة القتل باسم الإله أو باسم الدين التي تستمد شرعيتها من نصوص تراثية تمجد العنف، ومن مواقف تحتفي بصناعته، ومن حقب من التاريخ الإسلامي حفلت بالمآسي الدموية. يجب أن نعترف بأن هذا الكم الهائل من العنف والإجرام والبشاعة، الذي نعيشه ونلمسه في خطاب وممارسات حركات إسلامية فقدت عقلها، له جذور ضاربة في التراث والتاريخ الإسلاميين. نحن ننسى أن الخلفاء الثلاثة الأوائل، الذين يمثلون الفترة الذهبية في التاريخ الإسلامي التي يحن إليها السلفيون اليوم، كلهم ماتوا قتلا على يد متطرفين إسلاميين، ولأسباب سياسية. أيضا ننسى، أنه منذ أول مرة أرد المسلمون أن يحتكموا فيها إلى الكتاب، لحظة أول وأكبر خلاف تاريخي حول السلطة بين علي ابن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان، انقسم المسلمون إلى شيعة وسنة ومازالوا على انقسامهم وتقاتلهم إلى يوم الدين. عنف "داعش" الذي أرعب الكثيرين اليوم، ليس جديدا على التراث والتاريخ الإسلاميين، ففي عهد أبوبكر الصديق، أول خليفة إسلامي، انتشرت ثقافة الإبادات الجماعية، كما تروي ذلك كتب التراث، لمواجهة ما سمي ب "الردة" عن الدين، فكان يتم رمي المرتدين حتى الموت، أو رميهم في الآبار وطمرهم داخلها أحياء، أو تحريقهم بالنار، مارس هذا العنف أبطال يمجدهم التاريخ الإسلامي مثل خالد بن الوليد الذي يوصف ب "سيف الله المسلول"، ولم يسلم منه حتى حفيد النبي محمد، الحسين ابن علي الذي حمل جلادوه رأسه بعد أن فصلوه عن جسده إلى يزيد ابن معاوية، فكان كلما اتّخذ مجالس الشرب، يأتي برأس الحسين فيضعه بين يديه ويشرب عليه، كما تعلمنا كتب التراث. هذه الأحداث المؤسسة والمحتفية ببشاعة القتل هي التي يجب أن تدفعنا إلى طرح الأسئلة الحقيقية حول مصدر كل هذا العنف والقتل والإرهاب الذي يرتكب اليوم باسم الإسلام. ولا يمكن الجواب عن مثل هذه الأسئلة التي يتجنب اليوم الكثيرون طرحها، مخافة من إثارة غضب جماعات متطرفة اختطفت الدين أو سلطات مستبدة استثمرته، بدون العودة إلى نقد الجذور التي شهدت نشوء العنف في التراث الإسلامي. فما "داعش" وكل التنظيمات المتطرفة التي تستمد فكرها من نفس المرجعية، إلا تعبير صارخ عن حقيقة مرة، يحاول البعض أن يخفيها، وهي أن العنف جزء من الثقافة والتراث والتاريخ الإسلامي. إنه نفس التراث الذي أنتج "الخوارج" و"القرامطة" بالأمس، و "القاعدة" و"طالبان و"بوكو حرام" اليوم. أما القول بأن الفتاوى التي يعتمدها تنظيم "داعش" في تنفيذ جرائمه، مجتزأة، أو مبنية على تأويلات سطحية أو خاطئة للنص، لا يقل يختلف كثيرا عمن يسعى إلى تبرير مثل هذه الأفعال البربرية. فما الفرق بين جريمة تنظيم"داعش" الذي حكم بالإعدام على إنسان بحرقه حيا، وبين رد فعل "الأزهر"، الذي يعد أكبر مرجع ديني سيني، عندما دعا إلى تقطيع أيدي وأرجل الجناة وصلبهم حتى الموت؟! الإسلام يعيش اليوم في أزمة حقيقية، والخروج من هذه الأزمة لا يمكن أن يحدث بمجرد ترديد مقولات جاهزة من قبيل بأنه دين يمثل ثقافة التسامح، فمثل هذه المقولات لا تخفي بين طياتها نفاق من يدفعون بها، وإنما هي مقولات عنصرية تريد أن تضع أصحاب هذا الدين فوق الجميع. ولا يمكن تصور أي مخرج من ثقافة العنف السائدة حاليا بدون إحداث قطيعة مع الماضي، والتأسيس لدولة مدنية تقوم على ثقافة المساواة وليس على ثقافة التسامح، وعلى الفصل التام بين الدين والسياسة، وعلى تأسيس دولة القانون. فالعنف يظهر بقوة عندما يختفي القانون. بعد ثورات "الربيع العربي" تراجع "وهج" التنظيمات الإرهابية مثل "القاعدة" التي لم نرى لشعاراتها أي أثر في ساحات وميادين التغيير من القاهرة إلى اليمن. لكن منذ أن قررت بعض الدول الخليجية تسليح الثورتين الليبية والسورية، انتعشت التنظيمات الإرهابية حتى اكتسح خطابها وعنفها الساحة العربية من المحيط إلى الحليج. فما الذي حدث؟ الجواب عن هذا السؤال نجده في مآلات "الربيع العربي"، ونجده أيضا عند من سعى إلى الزج بهذا الربيع إلى متاهات العنف القادم من عمق التاريخ. إنها نفس الجهات التي تريد أن تسير عكس صيرورة التاريخ، سواء كان اسمها "داعش"، أو أنظمة استبدادية تستغل الدين لممارسة عنفها ضد إرادة الشعوب. ينشر باتفاق مع الكاتب